بقلم : د. أحمد الخميسي 

أستأذن القاريء ونحن على أعتاب رأس سنة جديدة أن أخلع  حقيبة الذكريات عن ظهري لأفتش بين صورها عن بسمة وأمل، وعن حكايات صغيرة تنطوي على ضحكة وتفاؤل ندخل بها العام الجديد. أفتش فأرى هذه الصورة : كانت والدتي شفيقة رشدي تعاني من مياه بيضاء على عينيها تكاد لا ترى بسببها.

وذات يوم تكاسل أخي الحبيب عبد الرحمن عن الذهاب إلى الحلاق وسألها:" ماما.. ممكن تحلق لي شعري؟". وكان من طبعها إذا سألتها أن تقوم بأي عمل حتى لو كان فك وتركيب صاروخ أثناء تحليقه في الفضاءأن تقول لك بثقة وهدوء وبدون أدنى تردد:" طبعا يا إبني أنا طول عمري في موضوع الفضاء ده"! هكذا جلس أخي عبده تحت نور شباك الصالة مسلما نفسه لها بعد أن وضعت فوطة حول رقبته مثلما يفعل كبار الحلاقين. ضربتان أو ثلاث بالمقص لا أكثر، انتبه  الغلبان بعدها فنهض مذعورا ينفض الفوطة عن نفسه:" يا نهار أسود ياماما! إيه ده؟! أنا بقيت أقرع!". تمتمت بهدوء وثقة الواثقين من عملهم:" ده طبيعي يا ابني، لأن والدك كان أقرع، ودي الوراثة"! صاح بها مدهوشا:"بس أنا ما كانش عندي وراثة من دقيقتين!".

وانتبهنا جميعا فضحكنا وصحنا به: " يا ابني أمك لا ترى" فعارضتنا بحكمة الأمومة وحنانها:" مش موضوع رؤية، لاء ، هو واخد من أبوه حاجات كتير"! أفتش فأرى كيف كان بيتنا  مفتوحا لكل من هب ودب، حتى أني كنت أرجع من الجامعة فأجد أحيانا أشخاصا لا أعرفهم في الصالة يديرون حوارا بينهم براحتهم، وآخرين في المطبخ لم يسبق لي رؤيتهم قط ، وكان بعضهم إذا رآني تصورني ضيفا غريبا فيسألني مشكورا:" أنا بأعمل شاي. أعمل لك معايا؟"! وكان البعض خاصة من المبدعين يحتلون مكتبي في حجرتي ويسرحون بعيونهم في السقف ويكتبون قصائدهم من دون أن يلتفوا إلي. في هذه الزحمة لم يكن الأمر يخلو من السرقات الخفيفة، ولم يكن من السهل أن تعرف من هو اللص في تلك الحشود الجماهيرية.

لكن التناقص المستمر في المواد التموينية بالمطبخ لفت نظرنا إلى سعدية الشغالة عندنا، فاشتكت أمي لأبي :" البنت دي حرامية. شوف لك طريقة معاها". استوثق أبي بدهشة:"حرامية ؟". أجابته أمي:" أكيد. السكر بينقص، والشاي، والسمن"، هز والدي رأسه قائلا بتأثر : " أخيرا وجدت فيها شيء ممكن أحترمه"! مصمصت أمي شفتيها بتعجب، فراح أبي يوضح لها فكرته : " طبعا أحترمها. امرأة كهذه عندها ثلاثة أطفال يتامى، فإذا لم تسرق لأجلهم فإنها إذن عديمة الهمة والشجاعة"! ظهر اليوم التالي استدعى أبي سعدية إلي حجرة مكتبه وقال لها: سعدية أنا لي عندك طلب؟" قالت بأدب: " تأمر". قال لها : " دلوقت أنا عاوزك تآخديني شريك معاك. النص بالنص". تساءلت باستغراب: " شريك في إيه العفو؟".

قال مبتسما بطيبة: " يعني لما تدخلي المطبخ وتلقي اتنين كيلو سكر، خدي واحد لك ، وسيبي واحد لي. النص بالنص يعني، لقيت باكو شاي نصه لك والنص لي". ارتفع صوت سعدية ببكاء مكذوب:"  ده كلام ياأستاذ خميسي؟ يعني أنا حرامية؟". قال لها : " لاء مش حرامية، أنا باعرض عليك مشروع مربح نعمله احنا الاتنين، بس مش أكتر، فكري وردي عليه"! أفتش في الذاكرة، وأرى صورا كثيرة ضاحكة، من الطفولة والصبا والشباب، وأقوم بضخ الدماء في الوجوه التي اختفت، والأحداث التي توارت، وأضخ الأصوات والقهقهات في الحناجر التي رحلت، وليخلع كل منا حقيبة ذكرياته من على ظهره،ويفتش فيها عن كل ما هو جميل، وإنساني، لأني أتمنى أن نضع جميعنا أقدامنا في العام الجديد، بفرح، وأمل، حتى لو كان الأمل وهما، فإذا لم يتحقق شيء مما كنا نحلم به فسوف يسعدنا أننا شعرنا على طرف اللسان بحلاوة الأمنية وطعم الأمل، وبذلك الصدد يقول المتنبي: " منى إن تكن حقا تكن أسعد المنى.. وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا"، أي أنها أمنيات لو تحققت لكان ذلك رائعا، فإن لم تتحقق فإننا سنكون قد عشنا بها زمنا حلوا. فلنفتح باب العام الجديد، وندخل، مسلحين بكل الحكايات الصغيرة المضحكة من حقائب الذكريات، ومسلحين بوجوه الأحباء جميعا، من رحلوا منهم، ومن مازال يواصل السير بجوارنا.