عاطف بشاي
«أنا البحر فى أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى».

كتب شاعر النيل «حافظ إبراهيم» هذا البيت البديع بمناسبة اعتزازه وهيامه وفخره بلغة «الضاد»- العربية الفصحى- التى يتغنى بها فى أشعاره.. ويتيه غرامًا بجماع معانيها وجمال مرادفاتها ووفرة بيانها وبديعها.. وثراء تعبيراتها ومحسناتها وبلاغتها وفنون التورية والسجع والجناس والطباق وزخارف ألفاظها.. ونغم قوافيها وجرسها الشعرى الساحر.. مما جعلها من أكثر لغات العالم تعبيرًا ووصفًا وغنى فى معانيها وتركيباتها وبلاغتها.

ولهذا قررت منظمة «اليونسكو» التابعة للأمم المتحدة إحياء اليوم العالمى للغة العربية فى 18 ديسمبر.. والسؤال الذى يطرح نفسه ما الذى حدث للغتنا الجميلة التى شوهت وتراجعت تراجعًا مزريًا على ألسنة الناس.. وصارت تهدد هويتنا وتشكل خطورة على حضارتنا، وأصبحت على حد تعبير الكاتب الصحفى القدير د.محمود خليل «ليس من المستبعد أن يأتى يوم تصبح فيه اللغة العربية غريبة عن أهلها».. فهل يعقل أن نجد مجتمعًا مثل المجتمع الإسرائيلى يحيى لغة ميتة فى وقت نقتل فيه نحن لغة حية هى «اللغة العربية».. نعم نقتلها مع سبق الإصرار والترصد.. وليس المقصود هنا- كما قد يتبادر إلى الذهن- أن سخطنا ينصب على شيوع العامية واستبدال الناس الفصحى بها فى كل مناحى الحياه بما فيها الإعلام نفسه.. والفنون.. ولكنها أى عامية؟!.. إنها العامية التى رفضها «عباس العقاد» فى مقال نشر له فى الأخبار 23-5-1962 تحت عنوان «ما هذا العبط يا أستاذ؟»، والذى استنكر فيه الدعوة التى تصدر عن أناس ينتسبون إلى الجامعة ويلقون الدروس على طلابها حيث يعلمونهم أن الكتابة لا تحتاج إلى لغة.. ويجب إهمال الفصحى فى القصة والرواية والمسرحية والشعر.. فهاجم «د.رشاد رشدى» الذى دعا إلى تكريس لهجة الكلام الطبيعية فى المسرح.

لكن عامية هذه الأيام المقصود بها «لغة الشارع» التى تحتشد بمفردات من معجم جديد سوقى ومبتذل وفظ.. ومصطلحات من فحش القول وبذاءة المحتوى وغلظة الإحساس وتدنى المشاعر.. وتفاهة المضمون وتراجع القيم بسيطرة التنمر وإساءة الأدب.. فتمتلئ العبارات بالسباب والقذف الفاضح فى إطار من ألفاظ غامضة التركيب والسبك لا تعكس- كما يدعون- تطورًا حداثيًا بقدر ما تعبر عن جهل فاضح بأبجديات اللغة العربية.

والمتابع للغة الشارع تلك يكتشف أن ازدراء اللغة العربية باستخدام لغة بديلة تعج بها وسائل التواصل الاجتماعى بتعبيرات متدنية تقودها الأجيال الجديدة فاستبدلت الحب الرومانسى الرقيق مثلًا بـ«الحب الفشيخ» و«الغضب» «قفش» والفشل «قلش».. وهكذا.

هذه العبارات انتقلت من الشارع إلى الفنون فى السينما والتليفزيون.. وأفرزها كتاب سيناريو نتاج «ورش» من الشباب يفخرون بأنهم يشكلون اتجاهًا جديدًا يمثل «واقعية جديدة» تتماهى مع لغة السوقة والدهماء.

لكن الحقيقة الساطعة أن الحوار المتدنى لا يمثل اتجاهًا فنيًا ولكنه يعكس فقرًا وإفلاسًا وضحالة وانعدامًا للموهبة لدى الكاتب.. وفهمًا قاصرًا ومخجلًا لماهية ودور الفن السينمائى والتليفزيونى والفنون قاطبة.. فليس من مهمة الفنان نقل الواقع المباشر كما هو نقلًا حرفيًا وإلا ما أصبح فنا.. الفن خيال وارتقاء واختيار.. وسعى للارتفاع بذائقة المتفرج وتنمية مشاعره وأفكاره ومعرفته ووعيه.. وترقية الإحساس.. ولغته تخضع لفلسفة الجمال.. وفى هذا فارق كبير لا يفهمه أدعياء الفن وضعاف الموهبة وأنصاف المثقفين فى وقاحة واقتحام جاهل مجسد تجسيدًا مخلًا فى السينما ومسلسلات التليفزيون والمسرح التجارى.

الفن ليس ترجمة أو محاكاة فوتوغرافية للواقع لكنه يعنى بإعادة بناء الواقع بأدواته الخاصة لخلق واقع جديد لا ينفصل عن الأصل.. لكنه يصوغه صياغة مبتكرة وفقًا لأسلوب الفنان وتعبيرًا عن رؤيته ووجهة نظره لهذا الواقع، مستخدمًا وسائله الفنية فى الخلق والتعبير والحوار الدرامى.. واستخلاص الجوهر والمعنى الباطنى.

لذلك فإن الدعوة التى تجد لها صدى واسعًا اليوم أن وظيفة السينما والتليفزيون باعتبارهما فنونًا جماهيرية تخاطب كل المستويات الاجتماعية هى نقل لغة الشارع إلى الشاشة كما هى بألفاظها وتعبيراتها المسفة.. وتدنى خطابها اللغوى- هى دعوة لانهيار الفنون وانهيار اللغة العربية التى أضحت فى خطر داهم.
نقلا عن المصري اليوم