خالد عكاشه
في مفارقة لا تخلو من دلالة، تزامن مع اصدار برلمان الاتحاد الأوروبي للبيان الخاص بالحالة الحقوقية المصرية، أن تقدم في يوم الجمعة الموافق
18    
 
ديسمبر وهو اليوم العالمي للمهاجرين، إلى مقر الاتحاد الأوروبي من قبل "شبكة مراقبة العنف على الحدود" التي تضم العشرات من المنظمات غير الحكومية والجمعيات Border Violence Monitoring Network  التي يرمز لها اختصارا (BVMN)، بما أسمته بـ"الكتاب الأسود". وهو ملف بحثي ضخم يتجاوز 1500 صفحة، وثقت فيه الشبكة شهادات مؤلمة وفادحة لأكثر من (12500 شخص)، حول وقائع انتهاك جسيم لحقوق المهاجرين داخل بلدان الاتحاد الأوروبي، تجري وقائعها منذ العام 2017 تزامنا مع انفجار مآساة اللاجئين والمهاجرين من مناطق الصراع، التي دفعت هؤلاء إلى البحث عن ملاذ قد يوفر لهم الحد الأدنى من الحماية. فإذا بهم يقعون فريسة لجحيم من الجرائم برعت عديد من دول الاتحاد، في اخفاءها عن عيون الإعلام والمراقبين، في الوقت الذي تغاضت المنظمات الحقوقية الدولية عن التعاطي مع ما يجري، باعتبار "المهاجرين" يمثلون حلقة ضعيفة، لن يفيد هذه المنظمات إثارة الضجيج حول ما يلقونه. بل وقد ينسحب حديث من هذا النوع ليطال المتسبب في نزوحهم من بلدانهم، ودوافع اللجوء والأفق السياسي لأزمات بلدانهم، وجميع تلك العناوين تمثل نيران ستمسك بثياب الدول الأوروبية لا محالة في حال التفتيش عن اجابات حقيقية لها.
 
"شبكة مراقبة العنف على الحدود"؛ التي أنشأت في العام 2016 تتمركز بشكل رئيسي في منطقة البلقان، وتراقب انتهاكات حقوق الإنسان على الحدود الخارجية للإتحاد الأوروبي، وتدعو في منشوراتها إلى وقف العنف الممارس ضد الأشخاص المتنقلين داخل وبين دول الإتحاد. ومنذ هذا التاريخ بدأت في توثيق مثل هذه الحالات، وقد طورت الشبكة إطارا مشتركا لتسجيل الشهادات والأدلة الداعمة لهذه الانتهاكات، بعد إجراء عمليات تدقيق للحقائق والشهادات، كما تتضمن تقارير الحالة التي تقوم الشبكة باصدارها هذه الحقائق الثابتة، مدعمة بصور الإصابات والوثائق الطبية التي تمثل الأدلة الكاملة للوصف التفصيلي للحوادث. هذه التقارير تغطي بالتفصيل كافة عمليات الإعادة التي تجري في مناطق جغرافية محددة، ولديها مؤشراتها الخاصة التي تسجل عليها تصاعد جرائم العنف والاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الحدود للدول الأوروبية، فضلا عن حالات التعذيب الواسعة التي تجري بمناطق الاحتجاز  والتجميع. استطاعت الشبكة خلال السنوات الماضية عقد أكثر من لقاء واجتماعات مع البرلمانيين الأوروبيين، لتقديم الشهادات والتقارير المستخلصة من عمل أعضاء الشبكة، لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكب على حدود الإتحاد الأوروبي، وبغرض تعزيز إدارة أفضل لتدفقات الهجرة التي يلزمها ـ بحسب تقارير الشبكة ـ مزيد من الاحترام الكامل لحقوق الإنسان.
 
لذلك لم يكن "الكتاب الأسود" الذي قدمته الشبكة لمقر الإتحاد الأوروبي الجمعة الماضية، هو الوثيقة الأولى من نوعها في هذا السياق، فقد سبقه عشرات التقارير والافادات حول ذات الأمر. لكن صدمة التسمية هي ما دفعت أعضاء البرلمان لأن ينتبهوا إلى هذا الكم الضخم من الوثائق والشهادات، لحد وصفته النائبة الألمانية بالاتحاد "كورنيليا إرنست"، بأن ما ورد فيه من "وقائع لا نهاية لها عن العنف القاسي، والسادي، والمهين، التي تذكرنا بأكثر الديكتاتوريات وحشية"، ربما يساهم هذا "الكتاب الأسود" في وضع حد لهذه الجرائم، وضرورة أن يتم معاقبة الحكومات المسؤولة عن هذه الأفعال. الباحثان محررا التقرير "هوب باركر" و"ميلينا زايوفيتش"؛ أشارا إلى ما تضمنه "الكتاب الأسود" عن تنامي كبير لظاهرة "الإعادة القسرية"، لا تمثل سوى لمحة عابرة عن سلوك منهجي لا يزال يقابل بالنفي وغالبا ما يتم تجاهله، من قبل الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس). كما استند التقرير ووثق نحو (900 شهادة) بالصوت والصورة، لأشخاص تعرضوا للضرب أو السرقة أو إتلاف متعلقاتهم الشخصية، وتمت مهاجمتهم بالكلاب على حدود الاتحاد الأوروبي. وضمن تلك الحالات للمهاجرين أو طالبي اللجوء، من استخدم ضده أسلحة الصعق الكهربائي أو أجبروا على خلع كامل ملابسهم، أثناء احتجازهم في منشآت تفتقر إلى المعدات الأساسية للحياة، في نمط يعيد إلى الأذهان الصور التي كانت تتداول عن "سجن أبوغريب" في العراق وقت الغزو الأمريكي.
 
سلمت "شبكة مراقبة العنف على الحدود"، التقرير الوثيقة المعنون بـ"الكتاب الأسود" إلى "إيلفا يوهانسون" مفوضة الشؤون الداخلية بالاتحاد الأوروبي الجمعة، محددا اتهاماته لدول أعضاء بالاتحاد مثل إيطاليا وسلوفينيا والمجر واليونان وكرواتيا، وكذلك دول البلقان الأخرى غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل صربيا والبوسنة. التقرير يحوي ثروة من الأدلة على الانتهاكات، ويحلل بالتفصيل الطريقة التي أصبحت تمارس بها الأعمال الوحشية، حيث يدعو "الكتاب الأسود" لأن يكون هناك سبيل لإنهاء الإفلات من العقاب لمرتكبيها والمعلقة برقبة الاتحاد الأوروبي. خاصة أن سلطات الدول الأعضاء تجاهلت منذ فترة طويلة الرد على مثل هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان، التي تتعارض مع المبادئ التأسيسية للاتحاد الأوروبي والالتزامات الدولية ذات الصلة. 
 
بهذه السطور وغيرها؛ قدمت الشبكة في خطابها المرفق للمجلدين الصادرين بذات التسمية "الكتاب الأسود"، وموجود نصه على موقعها الرسمي، حيث ذكرت أن المجلدين يتضمنا فقط الحوادث التي تم تسجيلها مباشرة بواسطة (BVMN). فبالرغم من الرقم الضخم للشهادات الجماعية التي تشمل تجارب (12654 شخص)، إلا أنه يظل لدى الشبكة يقين وفق معطيات عديدة، أن يكون العدد الحقيقي للضحايا أعلى من ذلك بكثير. هذا مشار إليه في الكتاب بالخرائط والبيانات والصور، وغيرها من المعلومات الأساسية عن المناطق التي شهد فيها المواطنين، أشكال فادحة من المعاناة والعنف السادي المهين، ارتكبها ضباط الحدود وقوات الشرطة والجنود في الدول الأعضاء بالاتحاد، وحتى كلاب الحراسة المدربة على ارتكاب هذه الأفعال المشينة. ويبقى التساؤل؛ عن جدية وصدق الطرح الأوروبي لقضايا حقوق الإنسان بحق دول من خارج القارة، في حين يضرب الانتهاك والفساد جنباته على هذا النحو الذي سطره مواطنيهم، ممن لازالوا يحتفظون ببقايا من شرف وإنسانية غير مزيفة.
 خالد عكاشه