بقلم / نجيب محفوظ نجيب .
عندما أحتاج أن أستنشق  نسمات الماضى...أتى لزيارة كنائس مصر القديمة...فهنا أشعر أننى أتنفس حياة...
ليس فقط لأنها من أقدم و أجمل الكنائس التى بنيت فى مصر...لكن لأنها تباركت بمجىء السيد المسيح إليهاو هو طفل...عندما لجأت إليها العائلة المقدسة أثناء وجودها فى مصر هربا من وجه هيرودس الملك...سحر طبيعى مستمد من روعة المكان المعبأ بعطر التلريخ...فكل حجر يبوح بسر...يروى فصل من فصول الرواية...مبانى رائعة ترسم لوحة فنية...لا أملك أمامها سوى التأمل فى صمت...
 
كان الهدوء يسيطر على المكان...لا أكاد أسمع سوى أصوات العصافير فالوقت لا يزال باكرا جدا...
توجهت الى الكنيسة المعلقة " و هى مكرسة بأسم القديسة العذراء مريم والدة الأله و القديسة دميانة ".و قد سميت المعلقة لأنها مبنية فوق الحصن الرومانى " حصن بابليون "...
 
سجدت أمام الهيكل...صليت صلاة قصيرة... و ذهبت لأخذ بركة أيقونة القديسة العذراء مريم والدة الأله ... فنظرت لأجد أمامى سيدة عجوز...يزين رأسها الشعر الأبيض الذى تغطى معظمه بغطاء للرأس أسود اللون...و قد نحت الزمن أثاره على ملامح وجهها...فهى تبدو فى السبعين من عمرها...تقف أمام أيقونة القديسة العذراء مريم والدة الأله و تمسك فى أحدى يديها صليب و فى اليد الأخرى أجبية تصلى منها صلاة باكر...و بين المزمور و الآخر تردد عبارات قصبرة تتكلم من خلالها مع القديسة العذراء مريم والدة الأله...و عيناها تفيض بالدموع...أنهت صلاتها...و ألتفتت حولها و دون أن تدرى وجدت نفسها قد فقدت إتزانها و تكاد تهوى على الأرض...
 
أسرعت اليها...مددت يداى محاولا ادراكها قبل أن تلمس الأرض...أجلستها على أقرب مقعد...و بعد أن مرت لحظات كانت غائبة فيها عن الوعى...بذلت خلالها قصارى جهدى لمساعدتها على إستعادة وعيها...بدأت تفتح عينيها...أطمأنت نفسى...
همست اليها قائلا : " أتشعرين بأى تعب ؟"...
 
قالت بصوت هادىء : " أنا بخير...أطمئن يا بنى..." و أبتسمت ابتسامة رقيقة و هى تقول : " شكرا لك..." أمضيت معها بعض الوقت حتى عادت إلى حالتها الطبيعية...و بعد أن أطمأنيت على صحتها...أستأنفت زيارتى متوجها الى كنيسة القديسين سرجيوس و واخس " أبى سرجة " ثم كنيسة القديسة القديسة بربارة...إلى ان أنتهيت من زيارة و أخذ بركة باقى الكنائس الموجودة فى المكان...
 
و فى طريق عودتى...لم تصدق عيناى المشهد الذى رأته...فها هى السيدة العجوز تقف فى محل صغير ضيق...تبيع الحلوى و البسكويت... بينما تجلس فتاة مقعدة على كرسى متحرك أمام المحل ...
 
أدركت أنها تعمل فى هذه السن المتأخرة من أجل توفير إحتياجات الفتاة المقعدة...
أقتربت منها...أستقبلتنى بإبتسامة تنبع من وجهها البشوش...بادرت بسؤالها : "أ أنت أحسن حالا الآن ؟؟..."
أجابت : " نشكر ربنا...كانت إغماءة خفيفة...و هى تأتينى من حين لآخر...لكن دائما ما أشعر أن  " ربنا موجود "... "
أشتريت منها بعض الحلوى و البسكويت...و أعطيتها للفتاة التى أبتسمت متهللة و هى تمد يدها نحوى لتأخذها...ثم توجهت بالسؤال نحو السيدة العجوز : " هل هذه حفيدتك ؟...
 
كانت إجابتها مفاجأة عقدت لسانى...فهى ليست حفيدتها أو حتى قريبتها...قرأت السيدة الحيرة و الدهشة فى عينى...و فهمت أننى أحتاج إلى تفسير...
قالت مفسرة : " هذه الفتاة فقدت والديها فى حادث أصيبت على أثره بشلل...و لم يعد لهل فى الحياة إنسان سواى...و من يومها و أنا التى أتعهدها بالرعاية و أهتم بأمورها...فليس لى انسان سواها... "
 
شكرتها من أجل ما تمنحه لهذه الفتاة...و مضيت فى طريقى واثقا أنه بالرغم من أن الحياة لم و لن تتخلى عن قسوتها...لكن سوف يبقى دائما ما يجعلنا نقتحمها و ننتصر عليها ... و هو ايماننا الحى أن  " ربنا موجود