كمال زاخر
كان كتاب "الحركة ضياء ودعوة" للمطران جورج خضر، والذى يتناول نشأة ومبادئ ومسيرة حركة الشبيبة الأرثوذكسية، التى تأسست فى لبنان وسوريا فى الكرسى الأنطاكى، عام 1942، واحداً من ابرز الكتب التى قرأتها سنة صدوره 1992، وقد اختطفنى إلى دوائر الإصلاح الكنسى وقتها، خاصة فى الكنائس التقليدية العريقة، واختفى الكتاب من رفوف مكتبتى شأن كثير من الكتب التى تخرج على سبيل الإعارة، ولا تعود، لكنه لم يبرح ذهنى وذاكرتى، ورحت اتتبع كتابات ومقالات كاتبه، وزياراته الدورية السنوية للقاهرة، ومحاضراته، اثناءها، فى مركز دراسات الآباء فى ضيافة الدكتور نصحى عبد الشهيد. 

نحن نقف على بعد سنوات قليلة قبيل انتصاف القرن العشرين، ، وبلدان المنطقة العربية تشهد تقلبات عنيفة، فالحرب العالمية الثانية استعرت نيرانها، ومسيحيو المنطقة تحاصرهم الإرساليات الأجنبية، والكنائس التقليدية فيها تعانى من بيات شتوى طال، لم يتبق لها سوى منظومة عباداتها الرتيبة وصلواتها المتوارثة تتناقلها فى تثاقل، ليتورجيتها، التى تحفظها عن ظهر قلب، وفيها جذوة حياتها، وإن بدت فتيلة مدخنة تنتظر من ينفخ فيها مجدداً، فتعاود اشتعالها، ضياء واستنارة. 

ثمة حراك خافت تشهده مصر وبلاد الشام، كل فى طريق، وقد باعدت بينهما قطيعة فرضتها احداث شهدها القرن الخامس الميلادى عقب مجمع خلقيدونية المسكونى، حول طبيعة المسيح، وتأتى رياح لاحقة بما لا تشتهى سفنهما، فتضربها وتكاد تفككها، فكان الإنزواء والانكفاء سبيلهما للحفاظ على ما تبقى عندهما.

فى مطلع القرن العشرين يتحرك قلب شاب قبطى نحو البحث عن مخرج لكنيسته من حالة الانزواء والانكفاء التى لفتها، فيذهب إلى أبيه البطريرك السكندرى يحمل رؤيته وتصوره، فيباركها البطريرك ويتبناها، كان الشاب هو حبيب جرجس وكان البطريرك هو البابا كيرلس الخامس، ومن مقره البابوى تنطلق منظومة مدارس الأحد، عام 1918.

وفى العام 1941، كان هناك فى بلاد الشام، لبنان تحديداً، أحد الشباب "أحزنه، آنئذ، المشهد الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ حتّى الانجراح ... شرع يفكّر بمبادرة تكون هي بدء العمل، بدء النهضة، تستردّ لأنطاكيّة الأرثوذكسيّة كرامتها المهدورة، تنتشلها من زوايا الإهمال نافضة عنها غباره، وتزفّها إلى عريسها «كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك، بل تكون مقدّسة بلا عيب» (أفسس 5: 27)، فكانت فكرة تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة." (وكان الشاب هو جورج خضر، مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس فيما بعد) بحسب وصف أحد كوادر هذه الحركة فى مقال له عنها فى مجلة النور وهى من اصداراتها.

وبحسب ما كتبه مؤسس الحركة ـ المطران جورج خضر ـ نقرأ عن لحظات ولادة الفكرة ذاتها؛ "فى خريف الـ 1941، فى الجامعة اليسوعية، فى السنة الأولى فى الحقوق والطب، اجتمعنا نفراً قليلاً من الطلبة حول فكرة البعث الروحى فى كنيستنا، وكان الشقاء يخيم عليها آنذاك، نحسها مرمية فى صحراء وناسها دون التراث العظيم الذى للشرق المسيحى. كان هذا اقبالاً على هوية بمعناها الروحى الصرف. زمنيات الأرثوذكسيين ما شغلتنا يوماً فى نهضة تلقيناها فى أنفسنا لمسات إلهية".

ويبلور فى سطور قليلة ماهية الحركة:
ـ سمّيناها من البدء حركة لا جمعيّة كأنّنا كنّا متفهمّين أنّ الأمر كلّه بالوثبة بديمومة الإصلاح.
ـ الجماعة الحركيّة ما هي إلا الركيزة لتحمل الطاقة الخلاقة في كنيسة المسيح اليوم.
ـ الكنيسة في قوامها في أصلها من حيث هي جسد المسيح وذات سلطان وتستمدّ هذا السلطان من المسيح وامتلاكها للأسرار لا تُصلَح.
ـ  لكن الكنيسة من حيث حياة الروح القدس من حيث أنّ هذا الإطار الكهنوتيّ معبّأ بالروح القدس يمكن أن تصلح لأنّها تحتاج إلى قوة متزايدة من نعمة الروح.

ـ أنّ ذات الحركة هي الكنيسة بحيث لا يمكن أن تفرّق بين تفكير الحركة وتفكير الكنيسة وفكر الحركة ليس إلاّ فكر الكنيسة وفكر الحركة هو المسيح لذلك الحركة لا تُحدَّد بغير ربّها. المسيح ذات الكنيسة لا فرق بينهما. الأنا في الكنيسة هو المسيح والأنا في الحركة هو الكنيسة.

ـ الحركة هي الكنيسة. الكنيسة بسيرها نحو المسيح هي الحركة وتحرّك الكنيسة من مسيحها إلى مسيحها من مجيئه الأول إلى مجيئه الثاني هي نحن. لذلك لا يجوز أن نقول أنّ الحركة حزب في الكنيسة. إنّنا كلّ الكنيسة لأنّنا متجهون ليس إلى أنفسنا لكن إلى الكنيسة.

ـ من حيث جوهر النهضة نحن كلّ الكنيسة، النهضة لا تندمج مع شخص واحد وتتحيّز له ولا  للجماعة الحركيّة. يمكن أن تحمل النهضة جماعة غيرنا وعندئذٍ نكون قد انحططنا تاريخيّاً ولم نعُد حاملي لواء النهضة. وإذا كانت الحركة تحديداً وثبة الكنيسة لاستقبال الرب يجب أن نقول إنّها حركة الروح القدس.

ـ حركة الشبيبة الارثوذكسية عبارة عن ثورة، انها يقظة في ضمير الارثوذكسية بها تبعث نفسها بنفسها وتتجدد. هذه الارثوذكسية التي تغفو منذ اجيال عديدة سوف تستيقظ وتكون يقظتها عظيمة. 

ـ إنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لا تسعى إلى قولبة الإنسان المعاصر، لكنّها تتّخذه كما هو، بمكوّناته الفكريّة والثقافيّة والإيديولوجيّة وغيرها، وتحاوره انطلاقًا من هذه المكوّنات، ساعية إلى مخاطبته بكلمة الإنجيل وإلى أن تكشف له، من الإنجيل، وجه المسيح الكونيّ.

ومن يتابع سير الحركة وادبياتها يلحظ أن سر نجاحها، أنها استطاعت أن تنجو من الفردانية، وظلت محتفظة بالجماعية، وأنها لم تكن حركة موازية للكنيسة أو متنازعة معها، بل هى "كل الكنيسة"، لذلك بادرت بالتواصل مع القيادات الكنسية، التى قبلت رؤيتها وأقرتها، ودعمتها بشكل مؤسسى ورسمى، واستطاعت الحركة أن تطلق شبابها للتفاعل المجتمعى ليشتبكوا مع الهم العام، ويسهمون فى تفكيكه لحساب الإنسان، المواطن. بغير وصاية كنسية وبغير أن يحسبوا ممثلين لها، مع التزامهم بايمانها، على الرغم من نظام المحاصصة الطائفية الذى يحكم المشهد السياسى هناك.

ويحسب للحركة نجاحها فى التعاطى مع اجنحة الكنيسة، ومؤسساتها، دون أن تستغرقها احداها، فقد انطلق اعضاؤها فى مساراتهم بحسب اختياراتهم الحياتية، فمنهم من استكمل دوره المدنى ومنهم من طرق ابواب الرهبنة أو الخدمة الكنسية، وظلت الحركة مستوعبة لكل هذا. ولعل هذا هو سر نجاحها. 

وقد بلورت الحركة مسارها تأسيساً على المبادئ التى اعلنتها عشية انطلاقها، أذار (مارس) 1942، وهى :
1) حركة الشبيبة الأرثوذكسية حركة روحية تدعو سائر ابناء الكنيسة الأرثوذكسية الى نهضة دينية، ثقافية، اخلاقية، اجتماعية.
2) تعتقد الحركة ان النهضة الدينية الأخلاقية تقوم باتباع الفروض الدينية ومعرفة تعاليم الكنيسة، لذلك تسعى لنشر تلك التعاليم ولتقوية الايمان المسيحى فى الشعب.
3) تسعى الحركة لايجاد ثقافة تستوحى عناصرها من روح الكنيسة الارثوذكسية.
4) تعالج الحركة المشاكل الاجتماعية التى تتعلق بالمبادئ المسيحية العامة.
5) تستنكر الحركة التعصب الأعمى والطائفية السياسية، لكنها تعتبر أن التمسك الواعى بالمبادئ الارثوذكسية شرط أساسى لتقوية الإيمان ولإيجاد روابط اخوية بين سائر الكنائس المسيحية.
6) تتصل الحركة بالتيار الأرثوذكسى العالمى وتتبع عقائد الكنيسة الأرثوذكسية وتقليدها الحى، كما أنها تساهم فى تطورها المسكونى ورسالتها الإنسانية.