الثنـــائي سلفـادور دالــي وغـــالا
بقلم: غـازي انـعـيـم
يعد الفنان الأسباني سلفادور دالي الذي ولد في 11 أيار 1904 م، ورحل في 23 / 1 / 1989 الأكثر شهرة وإثارة للجدل في القرن الماضي، فقد كان بشارباه المعقوفان، وشعره الطويل، وعيناه المدورتان، وتعبيرات وجهه المختلفة، وثيابه الغريبة التي لا يلبسها أحد، تمثل صورته الكاريكاتورية التي صنعها لنفسه وسوقها بذكاء، لتحتل الساحة الإعلامية ـ عالميا ً ـ لأكثر من ستين عاماً، كانت حياته خلالها مليئة بالمفارقات والتناقضات والأسرار والإبداع، ومحاولات الانتحار بالنار وعن الطعام،  بالإضافة إلى الدهشة والإعجاب والاهتمام.. كما كان الشهير والمحتقر، والصاخب والهادئ، هو الممثل المتفوق، عالم النفس المتمرس، والرسام الذي دعم ديمقراطية التهريج.

ولم يكن ذلك الاهتمام في القرن الماضي بدالي عبثاً، أو ترويجاً لأعماله، أو تقديمه كبدعة فنية شاذة، بل هو على العكس من ذلك فنان كبير، صاحب تجديد ذهني فكري، وهو الوحيد في القرن العشرين الذي رسم مصلوبين وعذراوات في لوحات علقت في أكبر متاحف العالم، وهو الأوروبي الوحيد الذي زاحم أعضاء مدرسة نيويورك الفنية في عقر دارهم في عز صعودهم، وهو الذي ما كان يكف عن ترداد جملة " أنا عبقري " وهذا ما جعله يقول:

" أنا أكبر فنان على مر العصور.. لأن إحدى لوحاتي موجودة في الآخرة ". ويضيف: " أنني مجنون، ولو لم أكن كذلك لألقيت نفسي تحت عجلات قطار ".

وكان عشقه للشهرة والمال يأخذان كل تفكيره.. وبعد أن أحب غالا قال: " أحب غالا أكثر من أبي، أكثر من بيكاسو حتى أكثر من المال ".. وقبل معرفتها قال: " أحب الأصداف البحرية لأنها قاسية من الخارج ولينة من الداخل، وهي بعكس المرأة التي تظهر لينة من الخارج وقاسية من الداخل ".

والمتتبع لسنوات دالي الأخيرة، يلاحظ أنه استبدل أسطورة الحياة والقوة بأسطورة الموت، وتحديداً بعد رحيل زوجته غالا " حبه المجنون " التي قال عنها: أنها كانت الحبيبة والأم والصديقة والهواء له.

مات دالي بعد موت غالا بسبع سنوات، وربما كان قد مات فعلاً يوم رحلت غالا في 10 حزيران 1982 عن عمر يناهز 89 سنة.

ـ فمن هي ( غالا ) هذه المرأة التي استطاعت أن تكسر حياة الرسام الكبير سلفادور دالي؟
ولدت إيلينا إيفا نوفا دياكوموفا في روسيا عام 1894، وكان كل ما يقال عنها وعن الوقت الذي عاشته في روسيا القيصرية قبل الثورة هو أنها كانت طفلة لعبت في أحضان توليستوي، وفي عام 1912 انتقلت للعلاج من مرض السل في جبال اللب السويسرية وهناك التقت بيوجين إميل بول جريندل، واشتعل الحب بينهما، مما جعله يطلق عليها اسم " حفل " والذي كان يعني باللغة الفرنسية " عطلة ممتعة " لقد الهمت ( إيلينا / غالا ) الفتاة البالغة من العمر 17 عاماً يوجين لكتابة الشعر، لكنها صاغت أيضاً اسم مستعار له " بول ايلوار " الذي اكتسب شهرة في جميع أنحاء العالم.

بعد شفائها غادرت ( أيلينا / غالا ) سويسرا عائدة إلى موسكو لتعيش مع أمها وزوجها، حيث عملت ( إيلينا )  في عام 1915 في مهنة التعليم وبقت على تواصل مع إيلوار من خلال الرسائل، في عام 1917 غادرت موسكو متوجهة إلى باريس، وفي نفس العام تزوجا، وبعد عام أنجبت سيسيل، ومن خلال إيلوار تعرفت الزوجة الشابة على الحركة السريالية وفنانيها وأدبائها، وكانت مصدر الهام لعدد كبير منهم، ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر:

: الشاعرين الفرنسيين بول إيلوار ولويس أراغون، والكاتب الفرنسي أندريه بريتون الذي وصفها بـ " المرأة الخالدة "، والرسام الألماني ماكس إرنست حيث ارتبطت بالأخير بعلاقة غرامية عام 1921. وتحت ضغط ايلوار قطعت علاقتها بماكس إرنست لأمها كانت بالنسبة لإيلوار كل قلبه وحياته بل كانت وباعترافه ملهمته في كل ما كتب حتى أنه أهداها جل قصائده.

في ربيع عام 1929 زار " بول إيلوار " بصحبة زوجته، ( غالا ) حيث كان عمرها ( 36 عاماً ) بيت سلفادور دالي في كاداكيس، وفي بيت دالي حصل ما لم يكن بالحسبان إذ لم تقع عينا دالي على ( غالا ) التي يصغرها بـ ( 10 ) سنوات حتى اشتعل قلبه بغرامها، ويبدو ( أن غالا ) تفجرت فيها أيضاً ينابيع الغرام، ويقال أنها كانت ضعيفة أمام البذخ الذي كان يعيشه دالي فارتضت أن تكون لعبته دون أن تكف عن حب إيلوار الذي قرر أن يخرج من بيت دالي بدونها، لتبقى ( غالا ) بصحبة دالي، ابن الموظف الحكومي الذي يعمل في كاتالونيا.

وفي عام 1930 فاتحت ( غالا ) إيلوار بضرورة الطلاق، وبعد ثلاث سنوات من لقائها بسلفادور دالي تزوجا، وقد تم تثبيت الزواج عام 1934 م، وحين كانت ( غالا ) تتهيأ للاقتران من دالي، تسأل إيلوار لماذا خف حبه لها وقل اهتمامه بها؟ فجيب إيلوار ( الذي كان يتهيأ للزواج بأخرى هي نوش ) بأنها ستبقى الوحيدة في حياته وإلى الأبد، وهذا الحب لم يكن في الامكان اكسطورة هذا الحب تعرف عليها الناس عبر الرسائل المتبادلة بينهما والتي جمعت في مجلد حمل عنوان " رسائل إلى غالا 1924 – 1948 وكانت رسائل ( غالا ) مخبأة عند ابنتها سيسيل .

يقول دالي عن لقائه بـ ( غالا ): " كله ابتدأ من الباب، في أحد الأيام دخلت الغرفة وكان الباب مفتوحاً رأيتها: تفجر الحب في داخلي، ومنذ تلك اللحظة قررت أن تكون لي " حلق شعره، ولون جسمه بالأزرق والأحمر، ووضع حلق أخته آنا ماريا ـ التي كانت إضافة لـ ( غالا ) والنادرات من الموديلات اللاتي رسمهن، الوحيدة التي أدخلها إلى مرسمه، ووضع قرنفلة حمراء وراء أذنه، وقف أمامها، تفاجأت مستغربة، معجبة بعينيه، خائفة من منظر الجنون الذي احتواه، وهو يضحك بصورة هستيرية دون توقف.

علاقة دالي بـ ( غالا ) لم تعجب والده الذي هدده بالطرد من البيت إن هي بقيت معه، وأجبرها على العودة إلى باريس، وبقي دالي وحيداً غارقاً في دموعه وأحزانه، يقول: " النساء عطاء رائع قادر على تحويل الرجل إلى معتوه، وأنا لا أفكر بأي شيء سيئ حينما أقول ذلك، أنا أحب المعتوهين خصوصاً عندما يكونون في حالة الهذيان لأنهم وقتها أشبه بالملائكة، وهكذا بفضل النساء فإن رجالاً مثل دانتي يصبحون معتوهين، ويكونون في وضع يؤهلهم ليكتبوا الكوميديا الإلهية ".

قرر ( دالي ) الذهاب إلى باريس وفيها تزوج من ( غالا )، وكانت هدية زواجها، قطعة مجوهرات كبيرة، بجعة منحوتة من الحجر الروسي الكساندريت، وبه بيضة كبيرة الحجم من الزمرد حينما تقلبها تصبح فيلاً، وقد قضايا شهر العسل في إسبانيا وبعد ذلك استقرا في بورليكاتو عند كوستابرافا، وعاشا في بيت متواضع لصياد سمك " مليء بالحب والعبقرية " بيت شاءت له جغرافيته العجيبة أن يتوسع يوما بعد يوم " غالا آلهة ذلك البيت وحارسته، بفضلها يغنى البناء ويتكاثر ".

كان خيال ( غالا ) يتألق في كل رسوم دالي، كما هو متألق في حياته اليومية بعبقريته وجنونه، وقد ذكر تأثير ( غالا ) عليه بقوله: " لقد أغلقت بذراعيها باب جنوني ". كما كانت ببساطة المهتمة بكل أعماله ومقابلاته، وإمضاء تلك العقود الغالية مع تجار اللوحات وجامعيها، تقرأ له الكتب وتلخص له ما يجب، وكان يتحاور معها في العديد من القضايا المختلفة، فقد كانت هذه المرأة مثقفة من الطراز الرفيع، وفي أحيان كثيرة كانت تعطيه فكرة اللوحة، من هنا كان إصراره على وضع اسمها بعد عام 1930 على العديد من اللوحات، وفي إحدى المقابلات، قال: " كل لوحة هي غالا، كما أن كل حياة هي غالا ".

وحينما يكون الطقس جيداً كانت تبحر بقاربها وتنصب الشباك لصيد سمك الحنكليس، حتى أن القوارب الثلاثة المستعملة لنقلهم إلى المرفأ القريب حملت كلها نفس الاسم: غالا 1، غالا 2، غالا 3، وحينما اشترى قصر بوبول أهداه لها مع عبارة " بوبول مثل ( غالا ) قلعة لا تقهر "، وهي بدورها أورثتها إلى ابنتها " سيسيل "، كما أهداها ( دالي ) عدداً كبيراً من الرسوم، وأصبح كل معرض من معارضه رمزاً وتجديداً للزوجة المعشوقة والتصقت به عبارة: دالي الكبير هو غالا.

وكان ( دالي ) يردد دائماً " أرغب في شيئين: أن أحب غالا وألا أموت نهائياً ". وعندما ماتت غالا في شهر حزيران عام 1982 بعد حياة زوجية دامت 47 عاماً.. وقف سلفادور دالي وسط المقبرة ليقول بلهجة " الذئب المحطم ": " حصل ما كنت أخشاه لقد مت قبلها إذا ".
وبموت ( غالا ) مات دالي، هذه هي المعادلة التي راهن عليها أولئك الذين يعرفون قبلة النار " الطويلة بين هذا الرجل وتلك المرأة ". كان يقول: " أنا وغالا نملك معاً خمس حواس فقط، أصابعها هي أصابعي، وكلامها هو كلامي، أما الحاسة السادسة التي لا تجمعنا إلى أي كائن آخر من الكائنات البشرية فهي.. الحب ".

إذن بعد موت ( غالا ) بقي دالي بنصف حواسه، لكنه يعترف بأن ( غالا ): " أعطتني بأساً مختلفاً ". في هذه الجمجمة ـ رسمها مراراً في لوحاته ـ بالذات يمكن أن تزرع زهرة، والزهرة يمكن أن تتحول إلى غابة، والغابة إلى امرأة، أجل كانت ( غالا ) الغابة، الغابة بكل جوانبها الفذة: الوحدة الرائعة، الأشجار التي لا تلقي بالاً على الزمن، الأصوات التي هي أشبه ما تكون بموسيقى أسطورية. أما " الليل، فهو أن تقفل ( غالا ) عينيها وتنام ".
ماتت (غالا ! ) وبعد دفنها في مقبرة قصر بوبول تدفق جيرانه بسرعة لقراءة هذا الوجه العبقري في ما سمي بـ " اللحظة الواقعية " كانوا يتعقبونه عن بعد خوفاً من أن ينتحر..

وله أسبقيات في ذلك وموقف خاص، كان يقول: " أنا الرجل الوحيد في العالم الذي يستطيع أن ينتحر دون أن تدري السماء بذلك، كل ما هنالك أنني أتوقف عن التنفس ثم أغمض عيني، وبعدها بقليل أخرج من ثيابي وأقدم نفسي إلى رئيس الملائكة ".

كانت حواراته مخيفه، وهذا نابع من موقف سريالي خاص، كان يتحدث عنه صديقه بيكاسو دائماً، وهو أن اللغة لم تخلق لإقامة الحوار بين البشر وإنما لتعطيل هذا الحوار، من هنا كان دالي يعتبر أن الأصابع هي الوسيلة للتفاهم، فاللحظة الرائعة في الحب هي تلك التي تشبك أصابعك خلالها بأصابع المرأة التي تحب وليس عندما تقول لها " أني أحبك "، ويكون الأمر مجرد زلة لسان.

عاش دالي حزيناً مكسوراً دامع العين مع ذكرياته، وهو يلبس عباءة وثياباً بيضاء تعبيراً عن حزنه الأبدي على ( غالا ) التي سافرت وتركت اللوعة في قلبه، سيما أنها كانت طبيبته النفسية، وملهمته الأسطورية، وموضوع لوحاته، ومديرة أعماله، حتى أنه ينسب لها كل ما هو جميل في حياته لذلك رسم نفسه معها ووقع باسمها واسمه لوحاته..، حتى أنه ظل أكثر من ثلاثة أشهر بعد فراقها يحمل صورة لها، تمثلها وهي طفلة، لا تبارحه ليلاً ونهاراً.. ولم يرسم أبداً، وكان يقول للقليلين الذين كانوا يلتقونه: " كيف يمكن لنصف إنسان أن يرسم لوحة كاملة ؟ "، لكن نصف الإنسان ما لبث أن تكيف مع نفسه، وبعد أن استعاد هدوءه وتآلف مع فكرة الغياب أخذ يبحث عن النصف الآخر فرسم لها للمرة الأولى وهي غير موجودة.

من هنا ارتدت لوحاته، بعد موت ( غالا )، التي أمضت برفقته خيوط أطول قصة حب عاشها رسام في العالم، شكلاً جديداً، ولا أحد يدري لماذا راح يرسمها محاطة أو مسكونة بقرون الكركدن ( وحيد القرن )، كما لو أنه كان يخاف عليها من الموت، فكان يستعمل القرون كطلاسم لحمايتها من النهاية، وفي أحيان أخرى أخذت ( غالا ) شكل العذراء التي تحمل الطفل، ولم يكن هذا الطفل إلا دالي نفسه.

وإمعانا في تكريم ذكرى ملهمته اتصل دالي بسيسيل وأعطاها عشر لوحات.. وإذا اعتبرنا أن كل لوحة لدالي في الثمانينات لا يقل عن المليون دولار، فإن معنى ذلك أن هديته إلى ابنة عشيقته وزوجته قد بلغ عشرة ملايين دولا على الأقل في ذلك الوقت.

أخيراً، آخر وصية صرح بها لمحاميه ومدير متحفه وأقرب أصدقائه وهو يعاني سكرات الموت كانت الأغرب: وهو ألا يدفنوه في بوبول بجانب ( غالا ) كما كانت رغبته سابقاً، بل أن يحنطوه ويضعوه تحت قبة بلورية في متحفه، محاطاً بالصور والأشياء الثمينة التي من بينها الكاديلاك.

غازي انعيم (⁨ غنيمات⁩)