الأب رفيق جريش
الذكرى السنوية الخامسة والسبعون للأمم المتحدة هى فرصة لإعادة التفكير فى تصحيح مسارها لتكون المنظمة علامة وأداة حقيقية للوحدة بين الدول وخدمة العائلة البشرية بأكملها؟

فمثلاً يتأثر عالمنا حاليًا بجائحة كورونا، التى أدت إلى إزهاق أرواح العديد من الأشخاص، معَ هذه الأزمة تغير أسلوب حياتنا، وتشكك فى أنظمتنا الاقتصادية والصحية والاجتماعية، وتكشف هشاشتنا، وبالتالى يدعونا الوباء لنأخذ زمن المحنة هذا كزمن للاختيار والاختبار بين ما هو مهم وما هو عابر، بين ما هو ضرورى وما ليس ضروريا.

لقد سلط الوباء الضوء على الحاجة الملحة لتعزيز الصحة العامة وتطبيق حق كل شخص فى الرعاية الطبية الأساسية. لذا على المسؤولين السياسيين أن يتّخذوا التدابير المناسبة من أجل ضمان الحصول على اللقاحات ضد فيروس الكورونا والتقنيات اللازمة لرعاية المرضى. وإذا وُجب تمييز شخص ما، فينبغى أن يكون الأشد فقرًا والأكثر ضعفًاً.

كما علينا أن نضع فى عين الاعتبار، التأثيرات على العمل والعمال، بسبب انتشار «الروبوتات» على نطاق واسع. وبالتالى من الضرورى بشكل خاص إيجاد أشكال عمل جديدة قادرة على إرضاء الكرامة والإمكانات الإنسانية. من أجل ضمان عمل كريم وليس فقط إلى توسيع أرباح الشركات. كذلك يجب أن يكون تقديم الوظائف لأكبر عدد من الأشخاص هو أحد الأهداف الرئيسية لكل صاحب عمل، وأحد معايير نجاح النشاط الإنتاجى.

مازال المؤمنون يعانون من جميع أنواع الاضطهاد، بما فى ذلك الإبادة الجماعية بسبب معتقداتهم. كم من الناس يتألّمون فى جميع أنحاء العالم، ويُجبرون أحيانًا على الفرار من أراضى أجدادهم، ويتم إبعادهم عن تاريخهم وثقافتهم. كذلك، يضطر الكثيرون إلى مغادرة منازلهم. وغالبًا ما يُترك اللاجئون والمهاجرون والمشردون داخليًا فى بلدان المنشأ والعبور والمقصد من دون أى فرصة لتحسين وضعهم فى الحياة أو وضع عائلاتهم. والأسوأ من ذلك، يتم اعتراض الآلاف فى البحر وإعادتهم قسراً إلى مخيمات الاحتجاز حيث يواجهون التعذيب وسوء المعاملة. ويصبح العديد منهم ضحايا للاتجار بالبشر أو الاستعباد الجنسى أو العمل القسرى، ويتم استغلالهم فى أعمال مهينة، بدون أجر عادل. لكن هذا الأمر غير المقبول هو اليوم حقيقة يتجاهلها الكثيرون عن قصد.

إنَّ الجهود الدولية العديدة المهمة للاستجابة لهذه الأزمات تبدأ بوعد كبير، والاتفاقيات لكن العديد منها يفتقر إلى الدعم السياسى اللازم للنجاح. فيما يفشل البعض الآخر لأن بعض الدول تتنصل من مسؤولياتها والتزاماتها. ومع ذلك، تبقى الأزمة الحالية فرصة للأمم المتحدة، لخلق مجتمع أكثر أخوة ورحمة. وبالتالى نحتاج إلى نموذج اقتصادى يعزز التعاضد، ويدعم التنمية الاقتصادية على المستوى المحلى، ويستثمر فى التعليم والبُنى التحتية التى تفيد الجماعات المحلية، والذى سيوفر الأساس للنجاح الاقتصادى عينه، فى نفس الوقت. وهنا أبرز دعوة قداسة البابا فرنسيس فى خفض، أو إلغاء الديون التى تلقى بثقلها على ميزانيات تلك الدول.

على الأمم المتحدة أن تعمل بجد من أجل إنهاء الظلم الاقتصادى. فعندما تقوم منظمات الائتمان المتعددة الأطراف بتقديم المشورة للدول المختلفة، من المهم أن تأخذ فى عين الاعتبار التعزيز الفعال والرائد لأشد الناس فقرا فى الإطار الاجتماعى. وتقديم المساعدة الإنمائية للدول الفقيرة وتخفيف عبء الديون عن الدول المثقلة بها. ومنع التهرب الضريبى وغسيل الأموال التى تُسرق من المجتمع، بالإضافة إلى إخبار الدول بأهمية الدفاع عن العدالة والخير العام إزاء مصالح الشركات والشركات المتعددة الجنسيات القويّة. هذا هو الوقت المناسب من أجل تجديد الهندسة المالية الدولية.

لا يسعنا إلا أن نلاحظ العواقب المدمرة لأزمة فيروس الكورونا على الأطفال، بما فى ذلك المهاجرين القصر واللاجئين غير المصحوبين بذويهم. كذلك يزداد العنف ضد الأطفال، بما فى ذلك الآفة المروّعة لاستغلال الأطفال والمواد الإباحية. علاوة على ذلك، هناك ملايين الأطفال الذين لا يمكنهم العودة إلى المدرسة. وفى أنحاء كثيرة من العالم، يهدد هذا الوضع بزيادة عمالة الأطفال والاستغلال وسوء المعاملة وسوء التغذية. ولا سيما حقهم فى الحياة والتعليم. إنَّ المربين الأوائل للطفل هم الوالدان، أى العائلة التى يصفها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان بأنها العنصر الطبيعى والأساسى للمجتمع.

علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت التهديدات الرئيسية للسلام والأمن، مثل الفقر والأوبئة والإرهاب، يمكن مواجهتها بشكل فعال عندما يستمر سباق التسلح، بما فى ذلك الأسلحة النووية، فى هدر الموارد الثمينة التى يمكن استخدامها بشكل أفضل لصالح التنمية المتكاملة للشعوب وحماية البيئة الطبيعية. من الأهميّة بمكان أن نكسر مناخ عدم الثقة السائد.

وختاماً، من واجبنا فى هذا المنعطف الحرج، أن نعيد التفكير فى مستقبل بيتنا المشترك. إنها مهمة معقدة تتطلب النزاهة والصدق فى الحوار من أجل تحسين تعددية الأطراف والتعاون بين الدول. لقد أظهر لنا الوباء أنه لا يمكننا العيش بدون بعضنا البعض. لقد أُنشئت الأمم المتحدة من أجل توحيد الأمم وتقريبها كجسر بين الشعوب؛ لنستخدمها إذًا لكى نحوّل التحدى الذى نواجهه إلى فرصة لكى نبنى المستقبل معًا، المستقبل الذى نريده.
نقلا عن المصرى اليوم