فيفيان سمير
دخلَت البيت القديم الخالي من ساكنيه تصعد السلم المتهالك بخطى تثقلها الذكريات تتردد في آذانها أصوات الأطفال الذين  يلعبون في مدخل البيت وضحكات البنات أمام الأبواب وحكايات الأمهات مع فنجان قهوة الصباح، الصخب المبهج الذي مازال يدوي صداه بين تلك الجدران الباكية وحدتها بعد رحيل أصحابها. أخذت تتجول في الغرف الخالية، تسمع صوت أمها وأبيها، أنفاسهما تعبق المكان، تسمع صوت لعبها، شجارها وضحكها مع أخيها، تتحسس أحلامها التي مازالت معلقة على حائط غرفتها صورة في برواز، لم يأخذها خالها حين أخلى الشقة، صورة خطبتها. لا تذكر يومًا كانت فيه أكثر سعادة من ذلك اليوم حين وضع خطيبها خاتم الخطبة بيدها، حلمها الذي ظل يختلج بصدرها أربع سنوات والذي رفضه والديها ولكن إصرارها وتمسكها به انتصر وها هي تضع اسمه حول أصبعها أخيرًا. مررت يدها على الصورة بأسىَ واكتسى وجهها بفيض الحزن الذي يملأ قلبها، نغزات الحنين تعتصر روحها وتذيبها شوقًا لأيام تبدو بعيدة جدًا خلف ضباب النسيان.

سمعت وقع أقدام خارج الغرفة، خرجت مسرعة تظن أنه ابن خالها الذى كان ينتظرها بالسيارة، تسمرت مكانها بلا حراك لم تعرف هل مازالت مأسورة بشباك الماضي أم من يقف أمامها هو حقيقة، لم تقوى على الكلام، فقط وقفت في ذهول، هو أيضًا لم يكن يتوقع أن تكون هي التي بالمنزل فعقدت الدهشة لسانه للحظات، خرجت الكلمات مترددة مبعثرة معتذرًا أنه أعتقد بوجود خالها فأسرع لمعاونته ولم يكن يتوقع أن يراها بعد كل هذه السنوات، دوت دقات قلبها المنتفض بصدرها، تفتقده بشدة، صوته، لمسة يده، نظرته، تود لو تلقى بنفسها على صدره وتبكى كطفل عاد لحضن أمه، كرهت نفسها لأنها مازالت تحبه، كرهت ضعفها لمجرد رؤيته، هاجمتها نوبة الغضب، الذى تخيلت أنها تخلصت منه لكنه أشتعل يلتهمها، حاولت أن تبدو هادئة غير عابئة بوجوده، تلعثمت وهي تجيبه أنها جاءت لوداع البيت قبل تسليمه للمشترى الجديد الذى ينتوى هدمه، لم تستطع مقاومة تلك الرغبة الموجعة في أن تلقى عليه نظرة أخيرة قبل أن يلحق بكل عزيز رحل عن حياتها، أسرعت تجفف دمعة غافلتها وأفلتت. أقترب منها يهمس "لَم أخونك"، فتحت فمها لتغلق الموضوع قبل أن يسترسل فيه لكنه وضع يده على شفتيها مصرًا على استكمال حديثه "كنت أحبك ومازلت أحبك ولم أكف يومًا عن حبك، كان يجب أن تسمعيني، كان يجب أن تثقِ بي وبحبى لك حتى وإن لم تستطيعي الوثوق بنفسك"، عاودت محاولة أسكاته لكنه أمسك بيدها وأكمل، "أبنة خالتي كانت مريضة سرطان بالمرحلة الأخيرة ويومها كانت عائدة من جلسة كيماوي وقبل أن ندخل الشقة أغشى عليها، احتضنتها حتى لا تسقط وأنا أفتح الباب لإدخالها، حاملًا هَم أمي حين تراها بهذه الحالة، وهى لا تعرف حقيقة مرض ربيبتها التي تعتبرها أبنتها، رأيتني أحتضنها وجريتي لمنزلك، لم أعرف ماذا أفعل، أترك أمي المصدومة وأختي المغمى عليها وألحق بك، أم أساعدهما وأنا أثق بك وبحبك الذى سيتفهم ويقدر، رفضتي مقابلتي ورفضتي أجابه مكالماتي، ربما كان خطأي أنى تركتك لتهدئي متصورًا أنه أفضل من ملاحقتك، لأتفاجأ بسفرك لأخيكِ ووالدك يخبرني أن كل شيء نصيب، فقدت عقلي، لم أصدق طلبت هاتفك أو عنوانك أي وسيلة أتصال بكِ لكن أصرارهم على أن الموضوع انتهى كان أقوى من محاولاتي" قبل أن تجيبه دخل شخص من باب الشقة المفتوح، دخوله أربكهما، ابتعد عنها ونظر ليدها اليسرى ليرى خاتم الزواج الذي لم يلاحظه في غمرة انفعاله، إذن هذا الرجل زوجها، انسحب بهدوء يطوى ألمه، كيف لم يفكر أنها أكيد تزوجت خلال هذه المدة الطويلة، كيف أعطى لنفسه الحق بالاقتراب من زوجة رجل آخر حتى وإن كان مازال يحبها.

دخلت حجرتها، اختطفت الصورة المعلقة على الحائط وسمحت لكل مشاعرها أن تتدافع، مشاعر متضاربة، أخذت تبكى وتضحك وتقبل الصورة التي عادت لها الروح، اندفعت تجرى لتعبر الشارع وتصعد العمارة المقابلة، نفس المكان الذى هربت منه يومًا مجروحة تنزف، دقت الباب بعنف، وحين فتح بادرته تطلق سيل كلماتها الغير مرتبة "كان يجب أن تصر على رؤيتي ولو بالقوة، كان يجب أن تنقذني من دوامة الغدر التي أغرقتني، أن تخطفني من خيبة الأمل ونار الخيانة، من الموت عشرات المرات وأنا أراقبك من شباك غرفتي، وأراك تذهب وتجئ بصحبتها، وهى تتأبط ذراعك غير عابئ بغضبى أو حتى فراقي، سافرت لأنى لم أحتمل بُعدك عنى، لم أحتمل انتظارك تقتحم غرفتي لتخبرني أنه ليس هناك شيء بينك وبينها، أنك مازلت تحبني ولن تتنازل عني، أنك لن تسمح لي بالابتعاد، سافرت لأنك لم تتشبث بي بما يكفى، لأنك لم تحارب لتستعيدني، لأنني أيقنت أنى واهمة وأنك تخليت عني، هربت من الآلام، هربت من وجودك بحياتي، لكنني رغما عنى أخذتك معي، استغرقت بالدراسة والعمل ولم أنساك، كونت صداقات وشاركت في نشاطات ولم أنساك، وحين عدت كنت أنت الوحيد الذى أخشاك." ارتسمت نظرة مكسورة تخفى ملامحه وهو يمد يده ويحرك خاتم الزواج الذي بأصبعها، فضحكت ضحكة عالية وهي تخلعه قائلة "لحسن الحظ أنى أعيش بمجتمع لا يسأل لماذا ارتدى خاتم زواج بدون زواج."