فيفيان سمير
أغلق باب الطائرة، وأستعد الركاب للإقلاع، وأستغرق كلا منهما فيما أختاره ليشغل به وقته، فالرحلة طويلة، والوقت يمر ثقيلا خاصة لمن هم مسافرون دون رفيق.

فتح كتابا يملأ به وحدته، ويشتت به خيالات حزينة تتملكه من ماضي لا يستطيع الفرار منه، فقد فارق ابنائه مرغما بعد حياة زوجية تعسة، تحملها لسنوات طوال من أجلهم، ولكن تمادى الزوجة وإصرارها احال حياتهم جحيما، ورغم الانفصال إلا انه لم يشفى بعد من جراحه، أو يتغلب على اشتياقه لأبنه وأبنته الذين هما كل حياته.

لاحظ أن السيدة الجالسة بجواره لم تكف عن البكاء منذ صعودها للطائرة، وبدون سابق معرفة أو سبب واضح وجد نفسه مشغولا بحالها، متعاطفا مع دموعها، وتمنى لو كان بمقدوره المساعدة وإزالة أسباب بكائها، لكنه خجل أن يسألها أو يتطفل عليها، خاصة وأنها تخفى وجهها بالنظر من شباك الطائرة.

جاءت المضيفة تسألهما عما يرغبان في شربه فطلب الإثنين قهوة، مدت يدها تتناول الكوب الذي اهتز في يدها وانسكب عليه بعضا منه، فأسرعت بالاعتذار الشديد محاولة تنظيف قميصه الذي اتسخ بالقهوة وهي في غاية الارتباك والضيق، فحاول تهدئتها خاصة وان الأمر بسيط لا يستدعى كل هذا، فكررت اعتذارها عدة مرات وعادت الى جلستها وان كانت قد توقفت عن البكاء.

وجدها فرصة ليبدأ معها الكلام، فسألها إذا كانت في رحلة عمل أم سياحة، أجابته أنها مقيمة في المانيا، وقد كانت في مصر لأنهاء بعض الأمور المتعلقة بميراث زوجها الذي توفى منذ ثمانية أشهر، إذا هذا هو سبب بكائها، زوجها الذي رحل والإجراءات التي قلبت عليها المواجع.

حاول الهائها بالحديث عن عمله، فهو طبيب ناجح، يعمل بمستشفى مشهور بألمانيا، وإن كان يفكر في العودة لمصر لأسباب خاصة، وقد كان في زيارة لأهله بمصر للاسترخاء والتفكير في هذا القرار الصعب بعد أن قضى سبع سنوات في هذا البلد وحقق نجاحا ملحوظا وصنع أسما مرموقا.

قضيا الرحلة في الحديث عن هذا البلد الجميل، والفرص التي تقدمها للمهاجرين، وتطرقا لصعوبة الحياة رغم ذلك، خاصة أن لديها ثلاثة أولاد وتقيم مع والدتها بمقاطعة صغيرة على أطراف العاصمة بعد وفاة زوجها، ومع ذلك لا تفكر في العودة لمصر، فما الذي يدفعه هو لذلك؟ ودون أن يشعر وجد نفسه يحكى لها عن مأساته، وما مر به من مشاكل والالام لم تنتهي بعد، ارتبطت بالمكان وجعلته راغبا في الهروب منه، فاندفعت تحاول أقناعه بالعدول عن هذه الفكرة، فهي مجرد رد فعل لما حدث سرعان ما سيزول مع الوقت، والأهم أن يكون الى جوار أبنائه، فرغم وجودهما مع والدتهم، إلا أنهم من المستحيل أن يستغنيا عنه، فكيف يفكر أن يكون هو في بلد وهما في بلد أخر.

أعلنت الإذاعة الداخلية للطائرة وصولهم الى مطار برلين، وأستعد الجميع للهبوط، أعطاها رقم هاتفه مبديا استعداده للمساعدة في أي وقت، وكذلك هي أجابته بأنها موجودة كصديقة في حال ما أراد الفضفضة.

نزل الجميع من الطائرة وتفرقت السبل، ولم يظن أيا منهما أنهما قد يلتقيا ثانية، ومرت الأيام، وربما نسي كلا منهما الأخر، الى أن رن هاتفها في أحد الليالي، وكان هو المتحدث ليطمئن عليها وعلى أبنائها، الغريب أنها فرحت جدا بهذه المكالمة، لم تخفى فرحتها التي كانت بادية في صوتها وكأنها تعلم أنه سيتكلم، كذلك هو، كان يشعر انه يحادث صديق قديم عزيز عليه. تكررت المكالمات، ثم أصبحت عادة يومية يخبر فيها كلا منهما الأخر عن تفاصيل يومه، مهما كانت صغيرة أو غير مهمة.

في أحد المكالمات اليومية ودون ترتيب أو نية مسبقة، وجد نفسه يطلبها للزواج، لدرجة أنه لم يدرك ما قال غير بعد أن خرجت الكلمات من فمه، وبالطبع هي تفاجأت، والجمتها المفاجأة، وساد الصمت بينهما، فلم ينتبه أيا منهما أنهما يسيران طريق هذه نهايته، أفاقت بعد قليل لتجيبه أن هذا مستحيل، فهما قد تخطيا الأربعين من عمرهما، كما أن لها ثلاثة أبناء وهو له اثنان، والأمور لم تستقر بعد بينه وبين زوجته السابقة، وزواجهما سيزيد التعقيدات والمشاكل لكلاهما.

أغلقت الهاتف، ولأول مرة تدرك الحقيقة، تراها الان جلية أمامها، لقد أحبته، نعم دون أن تعي تعلقت به، وأصبح جزءا مهما من حياتها، فكيف الان تستأصله بهذه البساطة، قررت أن تبدأ بعدم أجابه مكالماته، وأن تنساه، فهي حتى لم تقابله في حياتها سوى صدفة لمرة واحده، وقد أنتهى كل شيء، كان حلما جميلا وليبقى كذلك.

لم تنم ليلتها، وأستبد بها القلق والحزن الذي حاولت أن تخفيهما عن أعين والدتها وأبنائها، قضت يومها بشكل طبيعي، تتحرك بشكل الى، تؤدى مسؤولياتها دون روح، سارحة في أصوات تتردد في رأسها، ضحكهما، حكاياتهما، تنظر للساعة ويزداد حزنها وتوترها كلما أقترب موعد مكالمته اليومية، والتي حزمت أمرها أنها لن تجيبها.

لصدمتها لم يرن جرس التليفون في موعده، فتدفقت شلالات دموعها الحبيسة منذ ليلة أمس، لقد أدرك المأزق الذي أوقع نفسه فيه وقرر تداركه بالانسحاب من حياتها، ألهذا الحد من السهل محوها من حياته وكأنها لم تكن؟ دون حتى الالتفات للوراء أو ألقاء نظرة وداع، الم يكن جادا في طلبه الارتباط بها؟ أكان يختبرها؟ أم كان يريد فقط سببا للانسحاب، مئات الأسئلة تدير رأسها الذي أوشك على الانفجار، هذا ما جال بخاطرها المضطرب وزاد من إحساسها المؤلم بفقده.

رن جرس الباب، ذهبت لتفتح بانفعال وعصبية ومازالت لا تستطيع السيطرة على دموعها ولا ترغب في رؤية أحد، تسمرت في مكانها غير مصدقة، من هذا الواقف بالباب؟ عيناه سوداوان كالليل، تطويان الطريق الى قلبها المعتل، تبخرت كل التساؤلات، ذابت كل الكلمات، وعجزت كل اللغات، القت بنفسها على صدره ودفنت رأسها بداخله، ما مرت به خلال الساعات القليلة الماضية كان كفيلا بإجابة السؤال.