كتب - فاروق عطية
   كانت مصر ولاية تابعة للسلطان العثماني الملقب بـ "خليفة المسلمين"؛ لهذا لم يحاول "محمد علي باشا" وهو يستقل بحكمها، أن يدعي الحكم باسم الإسلام، لأن هذا الادعاء يجعله مجرد ضابط متمرد على سلطانه، ومسلم عاص لأمير المؤمنين. وهناك موقف يلقي الضوء على نظرة محمد علي باشا للإسلام، وللأديان عموما، إذ اتفق في سنة 1825م أن النيل شح، وأخذت مياهه في الهبوط منذ شهر أغسطس (الذي يفترض أنه شهر الفيضان) فأمر محمد علي بإقامة صلاة الاستسقاء (وهي شعيرة إسلامية) لكنه دعا إليها أحبار جميع الأديان والمذاهب، وحين سئل عن دعوة اليهود والمسيحيين للمشاركة في شعيرة إسلامية، رد قائلا: إنها تكون مصيبة كبرى إن لم يوجد بين جميع هذه الأديان دين واحد جيد.
 
   التاريخ يشهد لمحمد على باشا كمؤسس لأول دولة قوية وحديثة وعصرية عرفها المصريون بعد أمجاد أجدادهم الفراعنة، فأصبحت دولته متوسعة مترامية الأطراف تملك جيشا وقوتا، وتصنع مستقبلها وحاضرها فى كافة المجالات، رجل تيقن وآمن أن مصر قوة رهيبة ورئيسية بكل مواطنيها بلا تفرقة، لا يستهان بها فى أى معادلة، لجأ للشعب المصرى فصنع منه حاكما قويا وأعانه على ذلك. 
 
   كان محمد على باشا سيكلوجيا يؤمن أن حب مصر جزء من حبة لدينه ولم يخفي ذلك عن الغرب، فقد كتب للقنصل الفرنسي أندريا لوي كوشيليه سنة 1838م قائلا: "أحب بلادي وسأبرهن أن ذلك جزء من ديني". أما من الناحية الإدارية فقد كان علمانيا يؤمن بأن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، إذ قال للقنصل الفرنسي: "لا تتصور أن حكمي مبني على اعتبارات دينية، أنا فوق هذه الاعتبارات فأنا لا أعتبر نفسي في سياستي مسلما ولا مسيحيا، لكن بما أني أستمد نفوذي من الشهرة التي أتمتع بها وحكم أمتي، وإذا تعاهدت مع الغرب قضيت على نفسي". وقد استمد محمد علي باشا فكره العلماني رغم انتمائة للخلافة الإسلامية من معاشرته للأوروبيين خاصة الفرنسيين في شبابه، وكان لمسيو ليون" التاجر الفرنسي الذي أدار محلا تجاريا في قولة منذ 1771م، وكان "الصدر الحنون" لـ"محمد علي" بعد وفاة عمه، الأثر الكبير في تكوين فكره العلماني وتشبعه بمبادئ الثورة الفرنسية.
 
   على هذين المبدأين بنى محمد علي باشا علاقته بالأزهر، فهو يريد تنفيذ مشروعه للنهوض بمصر، فقرر التخلص من زعامة الأزهر بشكل يدين الأزهر ولا يتسبب في ثورة المصريين عليه لأنه يعلم مدى مكانة الأزهر في قلوبهم. فقد كانت أيديولوجية كليهما (الأزهر والباشا) مبنية على التناقض الصارخ رغم التفاهم الواضح. فالمؤسسة الدينية هي التي صعّدت الباشا إلى سدة الحكم بشرط سياسة معينة وافق الوالي عليها، لكن كان له مشروع آخر مبني على قناعة (أسمح له أن يدعمني لكني لن أسمح له أن يردعني).
 
   كان يعي أن زعامة الأزهر الشعبية ممتدة من 837 عاما، وبالتالي فمن الصعب عليه أن ينجح في القضاء عليها إلا عن طريق رموزها، كان السيد عمر مكرم نقيب الأشراف هو من يتزعم الأزهريين وهو الذي أوصل الباشا للحكم، وبعد أربعة سنوات اختلف الباشا والنقيب، في عام 1809م هدد النقيب بعزل الوالي كما فعل مع سلفه خورشد باشا. وجه عمر مكرم للباشا تهمة السرقة ورفض التوقيع علي كشف حساب عن نفقات ولاية مصر الذي كان سيرفع للباب العالي.
 
   قرر الباشا أن يلعب بسياسة فرق تسد، وذلك باستقطاب ولاء بعض مشايخ الأزهر بمنحهم الإشراف على أوقاف الأزهر. في 9 أغسطس 1809م توجه الباشا إلى بيت الأزبكية واستدعي القاضي والمشايخ ليحكّمهكم فيما وقع بينه وبين نقيب الأشراف، واتفق الباشا مع شيخين طامعين في منصب النقيب هما الشيخ الدواخلي والشيخ المهدي، على إدانة النقيب بتهمة الخروج على ولي الأمر، وتم الحكم عليه بالعزل من نقابة الأشراف ونفيه إلى دمياط، وكتب الشيخان كتاباً للباب العالي يتهمون فيه عمر مكرم زوراً وبهتاناً بأنه أدخل بعض اليهود والنصارى في ديوان الأشراف. بنفي عمر مكرم إلى دمياط «12 أغسطس 1809» تخلص محمد على باشا من كبير الزعامة الأزهرية وخلا له الجو ليتخلص تباعا من بقية الزعماء علماء الأزهر الذين اعتقدوا عن غفلة، أن الوقت قد صفا لهم، وكانت مهمة محمد على باشا فى التخلص منهم أكثر سهولة من مهمته فى التخلص من عمر مكرم، لأن هؤلاء الزعماء هدموا أنفسهم بتصرفاتهم وأطماعهم.
 
   استفاد الشيخ محمد المهدي من الصفقة بمنحه أوقاف الإمام الشافعي ووقف سنان باشا ببولاق بالإضافة لراتبه من الغلال نقدا وعينا عن مدة أربع سنوات سابقة حددها هو بنفسه وبلغت خمسة وعشرون كيسا. أما شيخ الأزهر عبد الله الشرقاوي فقد أمر الباشا بسجنه داخل بيته لا يخرج منه إلا للصلاة والدروس، وظل حبيس داره حتي توفاه الله في 9 اكتوبر عام 1812م.
 
   بعد وفاة الشيخ الشرقاوي مباشرة جاء المشايخ إلى الباشا، فى «القلعة» يستأذنونه فيمن يجعلونه شيخاً على الأزهر بعد وفاة شيخه. رد محمد على: «اعملوا رأيكم واختاروا شخصا يكون خاليا عن الأغراض وأنا أقلده ذلك»، بعد الجلسة نزلوا إلى بيوتهم.
 
   كان هناك مرشحان لهذا المنصب الرقيع أحدهما الشيخ محمد المهدي الطامح في الحصول علي منضب شيخ الأزهر بعد وفاة الشيخ الشرقاوي آملاً فى مساعدة محمد على باشا له، ظانا أن الطريق سيكون ممهداً له، وأن «الباشا» سيواصل تسديد فاتورة خيانة عمر مكرم. ولكن الباشا لم يكن يشعر فى قرارة نفسه بتقدير له. كان المرشح الآخر هو الشيخ محمد الشنوانى الذي اشتهر بالورع والزهد. 
 
   وفي «12 أكتوبر 1812م» أي بعد ثلاثة أيام  من وفاة الشيخ الشرقاوي طلب محمد على من كبير القضاة بهجت أفندى جمع علماء الأزهر عنده لاختيار الشيخ الجديد وفقا لشرطه بأن «يكون خاليا من الأغراض»، وتجمع المشايخ بالفعل، وكان أنصار المهدى أكثر عددا وأحدثوا هرجا ومرجا فى الاجتماع الذى انتهى باختيار الشيخ محمد المهدى شيخا للجامع الأزهر وكتبوا إعلاما شرعيا رفعوه إلى الباشا للتصديق عليه، وهنأ الحاضرون المهدى وقرأوا الفاتحة وركب إلى بيته فى «كبكبة» وحوله وخلفه المشايخ وطوائف المجاورين، وشربوا الشربات وأقبلت عليه الناس للتهنئة. انتظر الجميع موافقة «الباشا»، ومضى يومان والموقف يزداد غموضا، وفى صبيحة اليوم الثالث أصدر «الباشا» قراره بتعيين الشيخ محمد الشنوانى، فكان مفاجأة أليمة لـ«المهدى» وأنصاره.
 
   فسر المؤرخون قرار الباشا بأن «المهدى» لم يكن مستوفيا لشرط «خالى الأغراض»، حيث كان يعرف عنه أنه رجل استبد به حب المال حتى طغى على تفكيره ومنهاجه فى الحياة، وأنه كان أسبق الزعماء مبادرة إلى المطالبة بثمن تآمره على عمر مكرم، وتركه «الباشا» يمارس هوايته فى دنيا المال ويقتنى الثروات، بالإضافة إلى ذلك فإن الباشا تخلى عنه كحليف الأمس بعد أن أدى دوره فى الوقيعة بعمر مكرم خير ما يكون الأداء فلم تعد له حاجة به. وهذه الواقعة تكشف دهاء محمد على باشا، ونظرته إلى الشيوخ الذين استقطبهم بالحيلة والإغواء للوقوف بجانبه ضد عمر مكرم، فبالرغم من وقوفهم فى خندق «الحاكم» وبيعهم لشيخهم «الثائر»، إلا أن الحاكم احتقرهم فى نهاية المطاف، كما أدت لسقوط هيبة الأزهر ومشايخه في نظر الناس.
 
   لقد تمتع الأقباط المسيحيين في عصر محمد على باشا منذ توليه حكم مصر سنة 1805م بسياسة التسامح وروح المساواة بين جميع المصريين التي كانت مفقودة في العهود السابقة خاصة إبان حكم المماليك، فقضى على التفرقة بين المسلمين وهم الأغلبية واليهود والمسيحيين وهم الأقلية لإيمانه أنهم جميعا يستطيعون تقديم أجلّ الخدمات للبلاد، فتلاشت في عهده الفروق بين كافة المواطنين في الحقوق والواجبات، وأدت تلك السياسة لتبوء المسيحيين في عصره مراكزا عليا فعين منهم مأموري مراكز وهي بمثابة تعيين محافظين للمحافظات الآن.
 
   في عام 1806 حدث خلاف بين تاجر مسلم، وشخص مسيحي بسبب قطعة قماش تالفة، وإنتهت المشادة بأن التاجر المسلم قتل الرجل المسيحي.  وسارع التجار المسلمون لحماية زميلهم والتستر عليه والمطالبة بالاكتفاء بدفع الدية فقط، لكن أهل المسيحي لجأوا للباشا الذي تدخل شخصيا، وأصر على إعدام التاجر المسلم. وهنا ثار الرعاع والدهماء ثورة عارمة بقيادة مشايخ الأزهر، إستنادا للحديث الضعيف "لا يؤخذ دم مسلم بدم كافر". ونظموا مظاهرة بقيادة شيخ الأزهر مهددين بحرق مصر إذا تم إعدام التاجر المسلم، وماكان من محمد علي باشا إلا إنه أمر بوضع ٤ مدافع وصوبها ناحية المتظاهرين وأمهلهم ساعتين زمان ، بعدها المدفعية هي التي سترُد، وقيل انتهاء المهلة انصرف المتظاهرون. وكان محمد علي حازما صارما، وأصر على إعدام القاتل. وبالفعل تم إعدام التاجر المسلم، على رؤوس الأشهاد، ولم يكتفى محمد على باشا بذلك بل أرسل مندوبا من طرفه، طاف بالأسواق، وأعلن للجميع أن الإعدام سوف يكون مصير كل من يجرؤ على تكرار هذه الفعلة الشنعاء. ومنذ ذلك التاريخ دخل الدهماء ورجال الدين جحورهم رعبا وهلعا. واستتب الأمن تماماً لمحمد على باشا طوال مدة حكمة (40 سنة) وأصبحت مصر فى عصره دولة كبرى.