أمينة خيرى
السنوات القليلة الماضية شهدت أحداثاً هرائية ومشاحنات خرافية حول الكلاب فى مصر. هذه السنوات هى إحدى الثمار الكثيرة التى تتساقط على رؤوسنا لعملية التديين القسرى التى خضع لها ملايين المصريين منذ أواخر السبعينات. هى المحصلة المنطقية التى أسفر عنها الهسهس الذى ضربنا فى مقتل، وما زال ضربه «معلّم على وجوهنا». طفولتى مليئة بذكريات عن الكلاب ومعها. وأغلبها كانت كلاباً نسميها «بلدى». تبنيت كلباً «بلدى» فى البيت، وكنت ووالدى -رحمه الله- نربت عليها فى الشارع ونطعمها.

وكنت أرى مصريين عاديين يفعلون ذلك. ولا أتذكر أننى رأيت بينهم من يفط وينط لأن الكلب سيحوله من مؤمن إلى كافر، أو لأن الملائكة ستتوقف عن زيارته، أو لأنه سيكون بذلك متشبهاً بالكفار والملحدين.

بالطبع كان هناك أطفال يربطون جرواً صغيراً بحبل أو يرمون كلباً بحجر أو ما شابه، لكن المارة كانوا يوبخونهم ويطلقون سراح الكائن المسكين. وأتذكر صاحب محل فى منطقة «سعد زغلول» كان يضع أطباقاً من بواقى طعام البيت وأخرى فيها ماء لإطعام قطط وكلاب الشارع.

لم يكن أحد يلومه لأن الكلاب التى يطعمها نجسة أو مكروهة أو محرمة. بل كانت الكلاب تحرس الرجل وتكنّ له محبة رائعة.

أما حماى -رحمه الله- فكان يصلى الفجر فى مسجد فى آخر الشارع، وظل أحد كلاب الشارع يصحبه جيئة وذهاباً كل يوم ليحميه من بقية الكلاب حتى لا تنبح عليه. لم يكن حماى يهشه بعصا مثلاً رغم أنه كان بالغ التدين قلباً وقالباً. لكن الردة التى حدثت فى ثقافتنا فى السنوات القليلة الماضية والتى عملت على زرع جذور تفسيرات مستوردة للدين عبرت عن نفسها بشكل فج فى تناولهم لموضوع الكلاب.

فى تجمعات سكنية مصنفة تحت بند «راقية»، وعلى صفحات تجمعهم على «فيسبوك»، أتابع «صراخ» قطاعات من السكان التى تعتبر كلاب جيرانها وكأنها جاءت لتحارب الإسلام. بالطبع هناك من مربى الكلاب من يحتاجون إلى الخضوع لدورات لتعلم «كيف تربى كلباً دون أن تعتدى على حريات وحقوق الآخرين؟»، لكن ما أتابعه على هذه الصفحات أقرب ما يكون إلى أفلام الرعب الداعشى.

فمن تهديد ووعيد بوضع السم للكلاب، إلى استصدار آراء دينية من جيران آخرين ينتمون إلى مؤسسات دينية لا تدور إلا فى إطار «تكريه» الناس فى الكلاب.

ووصل الأمر بأحد رجال الدين من السكان إلى القول بأنه من الأفضل أن يطعم الناس الفقراء والمساكين بدلاً من تربية كلاب «نجسة» تمنع دخول الملائكة. وبالطبع حازت هذه الكلمات مئات الـ«لايك» والـ«شير»، وتحولت إلى «مانيفستو» دينى حتى بدأ أصحاب الكلاب يترددون قبل النزول بكلابهم خوفاً من تحرش «المتدينين الجدد» بهم. وحين أشار فضيلة المفتى الدكتور شوقى علام قبل أيام إلى أن مذهب المالكية «الذى نتبناه ونفتى به يقول إن الكلب طاهر وكل شىء فيه طاهر»، رغم أن غالبية علماء الدين يعتقدون أن الكلب نجس، فرح محبو الكلاب، ونزل الرأى «الجرىء» نزول الصاعقة على رؤوس الغارقين فى ثقافة دينية وارد الخارج، رغم أن هذا «الخارج» نبذها. كلمات المفتى لم تسعدنى بقدر ما أطلقت العنان للتكفير فيما أصبحنا عليه من انغلاق وما فعلناه بأنفسنا واقترفناه فى حق عقولنا. تركنا ثقافتنا وقدراتنا الذهنية على التفكير والتعقل والتدبر نهباً لمن استلبها واحتلها وفرض عليها سطوته تماماً.

ووصل الأمر لدرجة أن بيننا من بات يدافع عن هذا الاستلاب ويتمسك بتلابيب تسليم عقله للمحتل. والمحتل هنا هو الخطاب الدينى التكفيرى التحريمى الانغلاقى الرجعى الغارق حتى الثمالة فى الخرافة والكاره للعقل والمعادى للمنطق.

ووصل الأمر إلى درجة أنه حين يظهر رجل دين متفتح ينتمى إلى القرن الـ21 ويحاول أن يسلمنا جانباً ولو بسيطاً من عقولنا المستلبة نغضب ونحزن ونطالب ببقاء المفاتيح فى الخزائن المغلقة. ولأن حلم تجديد الخطاب الدينى أو تنقيحه أو تطهيره مر عليه نحو خمس سنوات، وذلك منذ تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى عن ضرورة التجديد. وليس سراً أو عيباً أن نقول إن دعوة الرئيس وجدت حائطاً صداً كاتماً للصوت. وفى مطلع العام الجارى، وتحديداً فى كلمة الرئيس والتى ألقاها نيابة عنه رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى فى افتتاح «مؤتمر الأزهر العالمى للتجديد فى الفكر الإسلامى» أشار الرئيس إلى أنه طالب المؤسسات الدينية، وفى مقدمتها الأزهر الشريف، قبل سنوات بأن تولى تجديد الخطاب الدينى أهمية قصوى. وقال إن «التقاعس والتراخى فى هذه المهمة من شأنه ترك الساحة لأدعياء العلم وأشباه العلماء من غير المتخصصين».

وهذا ما نحن مستمرون فى الغرق فيه، أو فلنقل ما زلنا نتجرع مرارة الغرق فيه. لقد نما الهسهس وتوحش حتى أصبح المصابون به أكثر وسوسة و«هسهسة» ممن جلبوا الهسهس نفسه. بيننا كثيرون يدافعون عن استمرار استلاب عقولهم، ويرفضون استعادتها، ويرون أن سعادتهم تكمن فى استمرار إلغاء العقل وترجيح كفة قلة العقل. وما جرى فى شأن الكلاب ليس إلا نموذجاً مصغراً لما أصابنا فى كل تفصيلة من تفاصيل حياتنا.
نقلا عن الوطن