عبد الحليم قنديل
   استقالة حكومة حسان دياب كانت أهون المتوقع ، فقد كان لا بد لطبقة الحكم الفاسدة من تقديم "كبش فداء" فى محرقة بيروت ، وحتى لا يضطر الرئيس أو البرلمان إلى الرحيل المبكر، وقد رد دياب التحية بأسوأ منها ، وهو يقدم مجبرا خطاب استقالته ، وأعلن ببساطة أن "الفساد أقوى من الدولة " ، ولم يبق لدياب وحكومته الناقصة باستقالات سبقت ، سوى أن يواصل "تصريف الأعمال" ، ومن دون صلاحية اتخاذ أى قرار أساسى ، من عينة ما تطلع إليه قبل استقالته بيومين ، حين أعلن نيته فى تقديم قانون انتخاب جديد إلى مجلس النواب ، والدعوة إلى انتخابات مبكرة كطلب الشارع المستشيط غضبا الطافح ألما بعد الدمار شبه الذرى لنصف بيروت بسبب انفجار الميناء المريع .
 
  وقد لا يبكى أحد على حسان دياب فى لبنان ، وقد قضى فى رئاسة الحكومة نحو ستة شهور ، بدا فيها متلكئا تائها ضائعا ، ومدعيا أنه شكل حكومة كفاءات مستقلة ، خص فيها النساء بست وزارات من بين عشرين ، ومن دون أن تظهر فيها كرامة للوزيرات الجميلات ، ولا للوزراء المتحذلقين ، ثم كان الذهاب إلى حيث ألقت من نصيب الكل ، فقد جاءوا وذهبوا فى أسوأ مراحل احتدام الأزمة اللبنانية المعقدة ، وفى أقسى لحظات حصار واعتصار لبنان ، وطاردتهم أقدار انهيار "الليرة" وجائحات الكورونا ، ثم قضى الأمر سريعا بتوابع وزوابع انفجار مخزن "نيترات الأمونيوم" ، المودعة فى ميناء بيروت منذ سبع سنوات خلت ، ومن دون أن تكون سببا مباشرا فى قصف أعمار حكومات نجيب ميقاتى ثم تمام سلام ثم سعد الحريرى ، وكلها عاصرت مأساة تخزين "نيترات الأمونيوم" الخطرة ، التى تحولت لسوء حظ حكومة دياب إلى "نيترات الجحيم" على حد الوصف اللبنانى الشائع .
 
  ولم يبد "حزب الله" ممانعة فى ذهاب دياب ، برغم اعتياد دوائر فى الإعلام اللبنانى والعربى والغربى وصف حكومته بأنها "حكومة حزب الله" ، ولم يكن للحزب  فيها سوى وزيرين ، فى حين ذهبت أغلب الوزارات إلى حلفاء "حزب الله" ، من نوع "حركة أمل" و"التيار الوطنى الحر" والآخرين ، ولكن مع المحافظة على توزيع الحصص الطائفية بدقة كما هو المعتاد فى الصيغة اللبنانية المهترئة ، وهو الأمر الذى لن يتغير غالبا بعد نهاية عهدة دياب ، فسوف تمضى أسابيع طويلة من المفاوضات والمساومات الشاقة ، قد لا تأنى بنواف سلام السنى المستقل كما يأمل متفائلون ، وقد يعود بعدها سعد الحريرى لرئاسة الحكومة ، كما تفضل دوائر غربية وخليجية مؤثرة ، وكما يرغب الأمراء الدينيون والسياسيون فى الطائفة السنية ، التى لها الحق الحصرى فى رئاسة الحكومة بحسب توزيعات الحكم الطائفى ، وكانت ترى فى حسان دياب ممثلا هامشيا للطائفة ، وليس أساسيا كحالة سعد الحريرى وآله ، ولهم حزب "تيار المستقبل" صاحب الأكثرية فى التمثيل البرلمانى السنى ، تماما كحالة الرئيس ميشيل عون وتياره صاحب الغلبة فى التمثيل البرلمانى المارونى ، وكحالة نبيه برى الذى يحتكر بحزبه "حركة أمل" مع "حزب الله" تمثيل الشيعة برلمانيا وحكوميا .
 
المعنى إذن ، أن أباطرة الطوائف قد يعودون للتوافق مجددا ، وبهدف تهدئة غضب الشارع الساخط على الكل ، وقد يشدون إليهم حزب وليد جنبلاط الممثل الأبرز للطائفة الدرزية ، ومع احتمال أقل لاجتذاب سمير جعجع المناوئ لسيطرة تيار عون على التمثيل المارونى ، ومع احتمال معدوم لجذب "حزب الكتائب" ، الذى راح أمينه العام ضمن ضحايا انفجار بيروت ، واستقال نوابه الثلاثة من مجلس النواب ، وهو ما قد يؤدى إلى استعادة أطراف حكومة الحريرى المستقيلة على وقع أيام الغضب الأولى فى انتفاضة 17 أكتوبر 2019 ، وبغير مانع من تصوير الحكومة المنتظرة كحكومة كفاءات مستقلة حيادية ، ومع وضع هدف إجراء انتخابات نيابية مبكرة فى برنامج الحكومة ، وتنقيح القانون الانتخابى لجعله أكثر مدنية وأقل طائفية ، ولن تكون النتيجة غالبا ملبية لنداءات وآمال الشارع ، وهو ما يدركه صناعها المحتملون ، وهم لا يريدون أكثر من تهدئة عابرة ، قد تمتص بعضا من الآثار الخطرة لحكم إدانة متوقع لعناصر من "حزب الله" من قبل محكمة الحريرى الدولية يصدر بعد أيام ، قد تنقضى ضمن مهلة لحكومة تصريف الأعمال ، يتاح فيها استيعاب التوترات المذهبية المستعرة بين السنة والشيعة بالذات ، والعودة لإقامة تحالف الضرورة الطائفية ، وبدعوى أنه لا يمكن لأحد استبعاد أحد ، فكما لا يمكن استبعاد جماعة الحريرى ، فلا يصح أيضا استبعاد "حزب الله" ، وهذه هى المعضلة الكبرى ، التى تواجه إغراء عودة الحريرى الإبن لرئاسة الحكومة ، فالمتحمسون للعودة يريدونها فرصة لجلب المعونات المالية الخارجية ، واستطراد التعاطف الدولى مع لبنان بعد محنة بيروت الذى أسفر عن عون محدود ، وتعهدات بإعانات أقل من 300 مليون دولار ، يريد أنصار عودة الحريرى مضاعفة مئات ملايينها الموعودة إلى مليارات الدولارات ، وأغلب من بيدهم تقديم المليارات ، يوافقون طبعا على عودة الحريرى ، ولكن مع استبعاد "حزب الله" من الحكومة ، بل ونزع سلاحه كليا ، وهو ما لا يقدر عليه أحد من لبنان أو من خارجه ، إلا بإشعال حرب أهلية طاحنة ، لا يريدها طرف أو يقدرعليها فى لبنان ، خصوصا بعد تبين عجز إسرائيل صاحبة المصلحة عن نزع سلاح الحزب بالحرب ، التى يهدد "نتنياهو" رئيس وزراء العدو وشريكه المخالف "جانتس" بالعودة إليها فى أى وقت .
 
  ومحصلة ما يجرى وما هو محتمل ، أن أزمة لبنان قابلة للتفاقم والاشتعال مجددا ، وأن خيار الحريرى لن يكون البلسم الشافى بالضرورة ، فالدودة فى أصل الشجرة ، وإدمان توزيعات وتواطؤات الحكم الطائفى هو أصل علة الفساد المتوحش ، وليس بوسع طرف طائفى ، لا الحريرى ولا غيره ، أن يجرى إصلاحات تتطلب تضحيات ، ولا التحول بلبنان إلى دولة وطنية ديمقراطية ، ولا تقويض صيغة الحكم الطائفى المؤكدة بدستور "الطائف" ،  فالطائفية متجذرة فى النفوس بعد النصوص ، والمستفيدون من بقائها يواصلون ألعابهم الأكروباتية ، يتخالفون حينا ويتفقون أحيانا ، وقد لا يفيد اتفاقهم كثيرا هذه المرة ، حتى لو بدت فرنسا متحمسة لاتفاق على الحريرى حاورت فيه إيران ، وحتى لو حاول رئيس فرنسا ماكرون تخفيف التشدد فى الموقف الأمريكى ضد مشاركة "حزب الله" ،  وسعى واشنطن إلى إضافة عقوبات جديدة على أى طرف لبنانى يحالف أو يحاور "حزب الله" .
 
وبالجملة ، فقد لا تكون من فرصة لكسر الدائرة اللبنانية المفرعة ، سوى بموقف آخر مختلف من "حزب الله" نفسه ، كان فيه وقت بلوغه ذروة شعبيته لبنانيا وعربيا ، وكان متفرغا وقتها لهدف مقاومة الاحتلال الإسرائيلى لا سواه ، وكتب ملحمة مجيدة من المقاومة فى جنوب لبنان على مدى عشرين سنة ، أذل فيها قوات الاحتلال ، وأجبرها على الخروج والانسحاب بغير قيد ولا شرط ، ومن دون توقيع اتفاق سلام ولا صك تطبيع ، وصنع الحزب مثالا ملهما للمقاومة المسلحة من نوع مختلف ، لعب إلهامه دورا مؤثرا فى الانتفاضة الفلسطينية الثانية التى أرغمت العدو على الجلاء عن غزة ، وتفكيك مستوطناتها اليهودية من طرف واحد ، ثم تحول "حزب الله" بعد خوضه حرب 2006 إلى قوة ردع هائلة ، جعلت من لبنان الضعيف أقوى كيان عربى فى مواجهة إسرائيل على الجبهة الشمالية ، ووفرت للبيئة اللبنانية الهشة أقوى عنصر ردع ضد مخاطر الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة ، لا يخشى المتحمسون لها سوى من قوة "حزب الله" المفرطة عسكريا بالقياس إلى الآخرين ، والمعنى ببساطة ، أن قوة حزب الله تنطوى على ضمانة أمان للبنان داخليا ، بشرط أن تعى قيادة الحزب حدود المزايا ، وأن تجرى جراحة تفكير عميقة ، تتخفف بها من تبعات الولاء الأعمى للقيادة الإيرانية ، وتزيد من تأكيد لبنانية "حزب الله" ، فلم يكن مفيدا للحزب أن يتورط فى خطايا الحرب الطائفية الكافرة بسوريا ، ولا أن يتحول إلى فيلق تابع لجماعة "الحرس الثورى" فى إيران ، كما لم يكن مفيدا له أن يغرق فى مستنقعات الحكم الطائفى بلبنان ، خصوصا مع تصاعد غضب أغلب اللبنانيين ضد الحكومات الطائفية ، التى قد يصح لحزب الله الابتعاد عنها تماما ، والاكتفاء بدور برلمانى واجتماعى وخدمى فى صفوف ومناطق جمهوره ، والتحول بموقفه إلى دعم حقيقى لانتفاضات الغضب الشعبى المتواتر ، وبما يكسب ثورة الغضب اللبنانى حليفا قويا ، لا يخشى التحول إلى حكم مدنى ديمقراطى لا طائفى ، يكسب فيه الحزب أصوات ثلث اللبنانيين فى مطلق الأحوال ، ومن دون احتياج لمشاركة هزيلة فى اقتسام الكعكة الطائفية ، فالخيار الأفضل للحزب حتى بالمعنى البراجماتى ، هو "لبننة" سياستة ، وبما يفتح طريقا سالكا لإنقاذ لبنان وإنصاف قاعدته الشيعية ذاتها .