(منتفخ الصدر، يمدّ إصبعيه ويشير لعلامة المقص)

 
-عبد الله رشدي: بص يا أبو درش. حبيب قلبي إحنا شُغلتنا نقصقص إللي زيك
 
-مصطفى: نعم؟!
 
-عبد الله: يا درش عارف أنا بيطلعوني ليه؟ عشان هانتار كده Hunter.
 
-مصطفى: عشان إيه؟ هانتار؟
 
-عبد الله (يمد كفه الأيسر بعلامة الإمساك والقبض):  عشان أصطاد إللي زيك..أجيبه. زي مَا أنا جيبتك دلوقتي.. وأسلمك تسليم أهالي إن شاء الله بإذن الله. 
 
الحوار السابق هو جزء من سجال الإمام والخطيب ثاني في أوقاف القاهرة، عبد الله رشدي، مع مصطفى مشعل، شاب يبدو عليه التوتر والارتباك، يدّعي كونه «المهدي المنتظر»، و«المسيح بن مريم». وذلك في مساجلة أدارها سعيد حساسين صاحب قناة العاصمة، وهو بالمناسبة عضو في مجلس النواب، والذي طرد ضيفه مصطفى قرب وقت نهاية الحلقة الطبيعي.
 
«يصطاد» رشدي منافسيه ويحب أن «يقصّهم». يمهّد للإجهاز عليهم و«تسليمهم تسليم أهالي». وذلك بهدف يعبّر عنه بصراحة: قصّ أي مختلف بداعي تطهير المجتمع ومنعًا لبث الفتنة.
 
يُرسخ «الشيخ» عبد الله لخطاب تطهري استعلائي يُقصي به كل مختلف ويتعمّد إهانته والاستخفاف به، سواء كان صحفية يسارية، أو مواطنة مثلية انتحرت، أو باحث علماني، أو مُدعي ألوهية، أو جراح قلب مسيحي. على الجميع الخضوع لمنطقه، أو بتعبير أدق لمغالطاته المنطقية، لا مجال معه لأدنى قدر من الاختلاف، وعندما يمتنع ذلك المختلف عن الخضوع، فعليه أن يعلم أن «الشيخ» لن يتوانى عن إشهار أسلحة يقدمها هو كنوع من الاحتقار والسخرية والتكفير المبطن.
 
مَنْ هو أصلًا؟
عام 2011  دشن عبد الله رشدي، المولود في العام 1984 في القاهرة، ظاهرته الإعلامية كمقدم برامج  ومدير للمناظرات التلفزيونية بين الدعاة والشيوخ في قناة «الفجر» من خلال  برنامج «القول الفصل»، بجانب عمله كموظف بوزارة الأوقاف المصرية. 
 
لعب عبد الله بعد ذلك لعبة الكراسي وانتقل من موقع المُقدم إلى موقع الضيف. وكان من السهل استغلال قاعدة المشاهدين من الجمهور السلفي التقليدي الذي كان قد تابعه كذلك في قناتَي «الشباب» و«الصحة والجمال».
 
 انتشار رشدي الإعلامي عبر مناظرات الفضائيات وسجالاتها لم يتحقق إلا عام 2015، بسبب مناظرته الأولى مع الباحث ومقدم البرامج  إسلام البحيري. وكان الأخير -وقتها- قد أصبح ظاهرة جدلية هو الآخر بعد أزمته الشهيرة مع مؤسسة الأزهر، عقب انتقاداته للخطابات الفقهية المتوارثة ودعوته لتنقيح النصوص التراثية، عبر برنامج «مع إسلام» المُذاع على فضائية «القاهرة والناس» وقتها، الأمر الذي دعا الأزهر إلى إصدار بيان والتقدم بشكوى إلى هيئة الاستثمار للمطالبة بوقف البرنامج.
 
سارعت إدارة قناة «القاهرة والناس» في محاولة منها لاحتواء الأزمة وتخفيف التوتر بينها وبين الأزهر، إلى عقد مناظرة بين البحيري ورشدي كممثل عن الأزهر. قبَل المذيع أسامة كمال بإدارة المناظرة عبر برنامجه «القاهرة 360»، حيث أكد في مقدمة الحلقة، أن استقدام رشدي كممثل رسمي عن الأزهر لمناظرة بحيري، تمّ بناء على ترشيح واختيار محمد عبدالسلام مستشار شيخ الأزهر. 
 
شهدت الحلقة مساجلات ملتهبة، دعت كمال لإيقاف المناظرة بين الطرفين أكثر من مرة، ورفعت على سخونتها معدلات المشاهدة  لتصل إلى 70 ألف مشاهدة مباشرة للمناظرة على القنوات الثلاث لـ«القاهرة والناس»، رصدتها عدادات موقع القناة على تويتر ويوتيوب.
 
بعد انتهاء الحلقة، زادت وتيرة الدعاوى القضائية المرفوعة ضد البحيري، تتهمه بازدراء الأديان وتطالب بوقف البرنامج وحبسه.
 
ورغم أن الحلقة دشنت نجومية عبد الله كمناظر قوي لأصحاب الاتجاهات العلمانية والليبرالية، إلا أنها أظهرت ميله أكثر للاستعراض بما يتجاوز القدر الذي تتحمله المؤسسة الدينية الأكبر في الإقليم، وعلى ما يبدو أن ذلك أقلق المؤسسة نفسها.
 
«الشيخ» مفتول العضلات، الحائر برجوليته وصورته الحداثية الشعبوية المصطنعة، لم يراع البعد الرسمي في تمثيل المؤسسة وتجاوز الحدود المسموحة له في الاجتهاد، كما أظهر قدر كاف من الجهل، فشل في التعمية عليه.
 
تجاوز عبد الله في مناظرته المواقف الرسمية الواضحة للمؤسسة. سرد تفسيرات سلفية تبيح تزويج القاصرات -رغم تجريم  قانون الطفل المصري لتلك الممارسة- وتجاهل شرط أهلية الفتاة العقلية والنفسية للزواج. كذلك أظهر ضعفه المعرفي الذي تجلى في استشهاده الخاطيء بحادثة قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة، بأن الحقها بزمن النبي محمد خطأ، رغم أن الحادثة وقعت في عهد أبو بكر الصديق، وانتبه البحيري لهذا الخطأ وصححه، إلا أن عبد الله تجاهله.
 
انتهت الحلقة، انتشر عبد الله رشدي ولم يتوقف، لكنه لم يظهر أبدًا كممثل عن الأزهر. وبات أسامة الأزهري، بصفته عضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر، والداعية اليمني الحبيب علي الجفري، أكثر ملائمة  لخطاب الأزهر الرسمي. وظهرا في مناظرة هادئة مع البحيري على فضائية CBC، امتدت إلى أربع ساعات ونصف.
 
انتهت مناظرات الأزهر مع البحيري، الأولى مع ممثله السابق عبد الله رشدي، والثانية مع الأزهري والجفري، بموجة عارمة من الانتقادات والهجوم انتهت بحبسه لخمس سنوات، تم تخفيفها في ما بعد إلى عام واحد.
 
 
شفرة رشدي
استبعاد عبد الله من تمثيل الأزهر في المناظرات أوصل رسالة غير مباشرة لجمهوره: إنه صاحب صوت جرئ. صوت على نفس خط الأزهر، لكنه جريء بقدر قد لا يتحمله سقف المؤسسة الدينية الرسمية وقيودها. الرسالة رسمت له صورة «القابض على جمر دينه في نهاية الزمان» المتخيلة لدى عموم المشاهدين.
 
تتعدد حيل وأساليب عبد الله رشدي في مبارزة خصومه، كما يصفهم عادةً. فهو يتبع نمطًا متكررًا في الإجهاز عليهم وتشويههم. يحاصرهم بإلحاح ويطرح تساؤلاته العدوانية بثبات، يضعهم قسرًا في موقع المُتهم ثم المُدان، يدفعهم دفعًا للانفعال، ثم يعود في كرسيه للخلف مع ابتسامة فارغة. يستحضر التهذيب والترفع عن الرد على خصومه المنفعلين، ويتوسل إعجاب مريديه.
 
يشفّر عبد الله رشدي الإهانات بصورة مُبطنة يفهمها المتفرج دون أن يفصح عنها هو، دأبه هو التحرش بخصومه تليفزيونيًا، وصنع المصائد الكلامية لهم، يلعب على مدلول الكلام ودلالته الاصطلاحية المبطنة  التي يفهمها الجميع باتفاق ضمني غير مكتوب، لا بمعناه الحرفي الظاهري المُعجمي، فإذا تمت مواجهته ورفض مدلول المتربص، أنكر ارتكابه أي عدوان واختبأ خلف المعنى الحرفي للكلمات. 
 
تجلى ذلك في مواجهة شاركته فيها الصحفية اليسارية، والعضوة في المكتب السياسي لحزب «التجمع»، فريدة النقاش. إذ واصل عبد الله توجيه أسئلة واستفهامات تحمل إشارات تكفيرية، فواجهته النقاش بالسؤال: «انت عايز تكفرني؟»، رسم ثباته الانفعالي ورد عليها: «هل شققت صدري لتعرفي نيتي؟»، وانتقل هو من موقع التكفير إلى موقع الضحية الذي يتحمل عدائية الضيفة.
 
يستند عبد الله في مساجلاته إلى خطاب يعتمد فيه على إغراق محاوريه بالنصوص والأحاديث والتفسيرات بتتابع يربك خصمه ويسحبه إلى أرضية تراثية لإفحامه بغض النظر عن موضوع المناظرة، يسأل خصمه عن مصدر كلامه دون أي اعتبار لمتن الكلام، وإن كان المصدر من غير التراث، فيبدأ فورًا في التسفيه. حدث ذلك في مناظرته مع الكاتب شريف الشوباشي عن تجديد الخطاب الديني. 
 
لجأ الشوباشي إلى الاستشهاد بكتابات الأديب المصري أحمد أمين (1886 -1954) للرد على محاججات «الشيخ». سفه الأخير الكلام، قائلًا: «مين أحمد أمين؟ (..) أنا مالي مفكر كبير»، مُتجاهلًا عمدًا أو جهلًا أن أمين كان قاضيًا شرعيًا وباحثًا أزهريًا في الأساس. وإن كان الخطأ أتى من جانبه هو، فإنه يتجاهل الأمر، ويتضنّع عدم الانتباه، ويعود مرة أخرى إلى سيرة الأسئلة العدوانية الاستباقية.
 
يمزج عبد الله رشدي في كلامه بين العامية والفصحى، ويستدل بالتعبيرات المجازية الاستعارية ليراوغ المشاهدين، كما أنه يلجأ لتطعيم حديثه بألفاظ ومصطلحات شعبية مثل؛ همبكة، بطيخ، هري، إنت راجل جامد زوحليقة، فهو «شيخ كول هادئ بين مجانصه».
 
يستعرض «الشيخ» ذاته بنرجسية لا تخطئها العين؛ فهو لا يبادر بالظهور في أي برنامج أو مساجلة أو حتى مقاطع الفيديو التي يبثها عبر صفحته على فيسبوك، إلا إذا كان ضامنًا لهيمنته الجسدية والصوتية على الحيز المكاني. ويلجأ لوضع كود خاص به ليسهل على المشاهدين التعرف عليه، كممثل محترف: تنفسه ثابت منتظم، يتمثل في الجلسة الثابتة التي تحاول صبغه بالوقار مهما اشتدت حدة المناظرة، تقطيع هادئ للجمل مع التركيز على مخارج الحروف، ثبات انفعالي، ووجه صخري جامد الملامح. ولا ينسى بين الحين والآخر أن يواجهنا بضحكة صفراء، أو رفعة حاجب ساخرة، بالإضافة طبعًا إلى الإشارة بيديه لشكل المقص أو فرد السبابة وشدّها كممثلي المسرح.
 
يهتم  رشدي كثيرًا بمظهره، فيتعمد إبعاد معصمه الأيمن أو الأيسر ليظهر الساعة، بالتوازي يباعد بين كتفيه ويشدّ بدنه فتظهر «المجانص»، ويتعمد ارتداء بدلة مصممة بعناية لإظهار عضلاته المفتولة، وتكون الملابس في الغالب فاتحة اللون.
 
«تحداني يهودي» أو «الشيخ الشبح»
ولأن شخصيته تتغذى على الصراعات، يبادر رشدي دومََا لاستخدام اليوتيوب كوسيلة للتواصل أو مساجلة ومبارزة أطراف إقليمية ودولية، أو الرد على تلك الأطراف المطالبة لمساجلته كممثل للإسلام نتيجة لشهرته التي بناها على أنقاض مناظرته لإسلام البحيري. وحينما لا يجد أن التوترات المحلية تلبي احتياجاته لتصدر المشهد، فإنه يلجأ على الفور لافتعال أزمات عبر تلك المنصات، مُتسلحا باللعب على التوترات والتناقضات الاجتماعية المسكوت عنها داخليا؛ فيعلن استعداده لمناظرة «الأخ رشيد حمامي» (مبشر مسيحي مغربي)، أو شريف جابر المعروف بإلحاده ليجادله، أو يناظر أحد الشيعة، أو مع رئيس جمعية المثليين بفرنسا على خلفية الجدل الذي أُثير بعد انتحار الناشطة الكويرية سارة حجازي، وكل تلك المناقشات على شكل فيديوهات تعتمد على الأخذ والرد (فيديو من كل طرف للإجابة على سؤال الطرف الآخر، ثم تمرير سؤال بدوره، على شكل تحدي كلامي).
 
هذه السجالات تُترجم كمصدر دخل إضافي مُربح للشيخ بفضل اليوتيوب تمامًا مثل «الفلوجرز» وفيديوهات أغاني المهرجانات، وكلما زاد الحديث عن القضايا «السبايسي الساخنة» التي تجتذب مشاهدات أتباعه ومناصريه كلما زادت أرباح المشاهدات، التي بلغت مجتمعة 54 مليون مشاهدة حتى وقت كتابة هذه السطور.
 
تلك الجدالات مضمونة العواقب نوعًا ما، ومن الصعب إحراجه فيها، نظرًا إلى عدم اعتمادها على أرضية مشتركة للنقاش؛ فهي نقاشات صفرية تعتمد على أن تنتهي بأحد الطرفين «متسلم تسليم أهالي»، كما يفضل هو التعبير.
 
يتعامل عبد الله بذكاء شديد مع تلك السجالات دعائيََا، ويخلق لها الترقب والتشويق ويتقن حيل زيادة جذب المشاهدات، فبين كل فيديو رد وسؤال، يستغرق فترة للتمهيد والحشد لجمهوره ومتابعيه، ينتظرونه على أحرّ من الجمر. 
 
يختلف أداء ورد فعل «الشيخ» عبد الله حسب منصة العرض وقوة محاوره، رأيناه حادًا عصبيًا حتى أن المذيعة بسمة وهبة عجزت عن احتوائه وهو يشدّد على تكفير المسيحيين في مساجلة عصيبة مع المخرج المصري مجدي أحمد علي، والذي انسحب من المناظرة متهمًا رشدي بالتحريض الطائفي ضد الأقباط. ونراه هادئًا وهو يخاطب مذيع قناة «الغد العربي» (قناة تبث من المملكة المتحدة) وهو يحاول تبرير موقفه الداعم لتصريحات الشيخ سالم عبد الجليل، وكيل وزارة الأوقاف، والذي مُنع برنامجه بعد تكفيره للأقباط، ثم يعود لنبرة الصوت الأهدأ على الإطلاق، والتي تليق بموظف يتلقى تقريعًا من رئيسه وزير الأوقاف، مختار جمعة، الذي انتقده ووصفه بالجهل وعدم نيله درجة الدكتوراة ويتهمه بالمزايدة على الأزهر والتحريض الطائفي ضد الأقباط (نفس أزمته مع مجدي أحمد علي)، في مداخلة على الهواء لبرنامج «على مسئوليتي».
 
على منصتَي تويتر وفيسبوك يفقد «الشيخ» أدواته الفضائية. ينزع عن نفسه ثوب الرصانة والجدية ويبدأ في استعراض خطاب ذكوري لا يخلو من الإفيهات الرديئة محدودة الخيال. يرد مثلًا على أحد المعلقين على منشوراته قائلًا: «شكل عربيتك مفتوحة»، وذلك تعقيبًا على تعليق يرفض تشبيه عبد الله للنساء كسيارات، عندما حاول أن يدخل في المساجلات بشأن التحرش الجنسي بمنطق أن «ترك السيارة مفتوحة يعرضها للسرقة، تمامًا كالنساء الذين يتخلون عن الزي الشرعي فيتعرضن للتحرش».
 
تلك الفهلوة تعطي مبررًا لمريديه، وتقول لهم إن لا ذنب لهم في جرائمهم تجاه النساء، بل أنها تمنطق نوازعهم العدوانية تجاه ضحايا التحرش باعتبارهن مسؤولات عن الأمر. إنه يواجه كل مختلف نازعًا عنه أي صفة إنسانية، ويسقط عليه كل صفات الوصم الاجتماعي تمهيدًا لازاحته، معتمدًا في ذلك على أن جمهور متابعيه يريد أن يرى الآخر سواء كان من «العلمنج» أو «الفيمينست» مسلوخًا بسياط «الشيخ الشبح».
 
المظلومية مخرجًا
ظاهرة عبد الله لم تعتمد فقط على الثقة المفرطة و«الافيه الحاضر»، بغض النظر عن رداءته، لكنها روّجت أيضًا إلى أن الشيخ الجرئ الصادم يتعرض للظلم، ومن ورائه فإن الدين كله يُظلم.
 
انضمّ عبد الله رشدي لفريق قناة «المحور» لتقديم برنامج جديد باسم «شريان الخير» بدءًا من 13 نوفمبر الماضي، غير أن إدارة القناة عادت وأوقفت البرنامج بعد تسعة أيام فقط.
 
أصدرت القناة حينها بيانًا رسميًا قالت فيه: «تؤكد قناة المحور التزامها التام بالمبادئ التي تأسست عليها قبل 19 عامًا على رأسها عدم المساس بقيم المجتمع ونشر الفهم الصحيح للرسالات السماوية مع إعلاء المصلحة الوطنية وقيم التآخي والمحبة، لتظل دومًا شبكة «المحور» هي قناة العائلة العربية».
 
وقال محمد الباز، المُقدِّم في نفس القناة، إن عبد الله تحايل واستخدم بابًا خلفيًا للظهور على الشاشة، وإنه استخدم البرنامج لجمع تبرعات لصالح جمعية خيرية اسمها «سقيا الماء». وأضاف الباز أنه تتبع نشاطات هذه الجمعية ولم يجد لها أصل إلا في السعودية، وطالب وزارة التضامن الاجتماعي بمراجعة ملفها.
 
لفظت القنوات الفضائية المعبّرة عن الدولة والمقربة منها عبد الله رشدي، ولم تتحمل المنصات الإعلامية الملتزمة بسياسات مهنية صارمة انفلاتاته المتكررة. ومن جهة أخرى، فإن الاهتمام المالي الآتي من دول الخليج خلال العقود الأخيرة لم يبق على حاله. فبدلًا من الإنفاق على «هيئة الدعوة» بات الاهتمام الخليجي منصبًا على «هيئة الترفيه»، وبدلًا من الاتفاق مع داعية مثل عمرو خالد  للإعلان عن دواجن الشركة «الوطنية» السعودية، بات من الأجدى الاتفاق مع عمرو دياب.
 
هنا، وجد عبد الله طريقه لاعتلاء «مسرح التريند» عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لكنه أراد انطلاقة كافية لإدخاله في السجال.
 
 
استهل رشدي عودته بعد فترة غياب بسبب منعه من الخطابة بإطلاق تغريدات صادمة، وبدون مناسبة واضحة، ذكر فيها أن «السبي ليس اغتصابًا» وأن الجواري لديهن احتياجات، مُدللًا هذه المرة بـ«الطبيعة الأم» وليس بنصوص التراث. وأدى ذلك التصريح إلى أن شهدت ساحة الفيسبوك أول مواجهة بين رشدي وصفحة دار الإفتاء المصرية، التي انتقدت تصريحاته، دون تسميته، وقالت «إن ما تفعله داعش من اختطاف للنساء وسبيهن (هو) تقنين للاغتصاب».
 
 
في ديسمبر 2019، وبسبب أزمات تصريحات رشدي المتكررة، تنصلت مؤسسة الأزهر من أي علاقة به أو من هاشتاج #الأزهر_قادم الذي يذيل به تغريداته، وجاء هذا التخلي على لسان أحمد الصاوي رئيس تحرير مجلة «صوت الأزهر»، بنفي علاقة رشدي بالأزهر واعتباره مجرد إمام بالأوقاف ولا يمثّل المؤسسة.
 
ألقى الأزهر كرة عبد الله على وزارة الأوقاف، لكن تلك الأخيرة كانت قد اصطدمت به بالفعل وأوقفته عن الخطابة والإمامة. 
 
 
في مايو 2017، دار جدل واسع حول  تصريحات وفتاوى الشيخ  سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف الأسبق التي أذاعها عبر برنامجه بقناة «المحور»، باعتبار المسيحية «عقيدة فاسدة» وأن المسيحيين «كفرة». من جانبها، أصدرت «المحور» بيانًا تقدمت فيه باعتذارها من المشاهدين، مع إنهاء تعاقدها مع عبد الجليل، بالتزامن مع قرار «الأوقاف» بمنعه من اعتلاء المنابر.
 
بالطبع لم يفُت عبد الله الفرصة، تطوعًا أصدر تصريحات لدعم عبد الجليل، وأيّد رأيه التكفيري عن المسيحيين، فلحق بزميله ومنعته «الأوقاف» هو الآخر من اعتلاء المنابر أو إلقاء الدروس، وظل ممنوعًا من الخطابة حتى أُعيد إلى عمله كخطيب بحكم القضاء الملزم في يوليو 2019. 
 
وفي فبراير 2020، تزامنًا مع تكريم جراح القلب مجدي يعقوب بالإمارات، يستغل عبد الله الفرصة ويحاول فرض نفسه على المشهد معكرًا مشهد الاحتفاء بالجراح المصري. كتب في صفحته على فيسبوك: «العمل الدنيوي ما دام ليس صادرًا عن الإيمان بالله ورسوله… لكنه لا وزن له يوم القيامة»، وهي التصريحات التي دعت وزارة الأوقاف إلى إيقافه عن الإمامة مجددًا والتحقيق معه بخصوص تلك الآراء.
 
بالنسبة لعبد الله، كانت حالة السجال التي بدأها المجتمع بعد اتهام الطالب أحمد بسام زكي بالتحرش والاعتداء واغتصاب فتيات بعضهن قاصرات، لا تفوت بأي شكل. عاد عبد الله ليدلي بدلوه.
 
في 5 يوليو الجاري، ذكر عبر صفحته الفيسبوكية: 
 
«‏عاقل ينصح صديقه: لو سمحت اقفل عربيتك قبل ما تطلع بيتك لأن لو سيبتها مفتوحة دا ممكن يكون سبب لأنها تتسرق.
 
‏صديقه العبقري يرد: إيه دا؟ إنت بتبرر السرقة؟
 
‏الظاهر أن العقول محتاجة إعادة تنشيط».
 
كان عبد الله هنا يحاول اللعب على الكلام والتشبيهات وإلقاء المسؤولية على عاتق صاحب السيارة الذي تركها «مفتوحة»، أي الذكر المسؤول عن الفتاة التي تسيء ارتداء الملابس، وتستفز هرمونات الذكور الهائمين.
 
جاء هذا التصريح بعد أن وجهت النيابة للطالب اتهامات بالتحرش واغتصاب أكثر من فتاة، ومرة أخرى تتدخل صفحة  دار الإفتاء المصرية بالاعتراض على تصريحات رشدي دون تسميته، مفندة بأن «إلصاقُ جريمة التحرش النكراء بقَصْر التُّهْمَة على نوع الملابس وصفتها؛ تبريرٌ واهمٌ لا يَصْدُر إلَّا عن ذوي النفوس المريضة والأهواء الدنيئة؛ فالمسلم مأمورٌ بغضِّ البصر عن المحرَّمات في كل الأحوال والظروف». 
 
انضمت لدار الإفتاء جريدة «صوت الأزهر»، والتي أصدرت غلافًا لعددها الأسبوعي بعنوان «طمنوا بناتكم»، والذي يتضامن مع ضحايا التحرش ورافضًا لومهن بأي شكل. كذلك وعدت الجريدة بمواصلة الكتابة والنشر في الأعداد القادمة «ضد التحرش والختان وزواج القاصرات وكل انتهاك لكرامة المرأة». كما اقترح مجلس الوزراء تعديل قانون لحماية الشاكيات بشأن التحرش الجنسي.
 
انقلب الأمر على «الشيخ» رشدي، وأصبح محط هجوم ونقد وسخرية، مما اضطره إلى الخروج للدفاع عن نفسه وعن موقفه في أكثر من فيديو توضيحي، لكن في كل مرة كان يزيد الطين بلة، وأخذ الجمهور يستعيد من أرشيف منشوراته السابقة مواقفه التي دعم فيها متهمين بالمتحرش، وكذلك منشورات أخرى تحرش فيها هو نفسه بالمعلقات.
 
تحوّل الصياد «الهانتر» إلى فريسة سهلة للرقابة الاجتماعية على السوشِال ميديا، عبد الله رشدي صار ضحية لنفس تقنياته وأدواته وأساليبه. تحوّل الشيخ الشاب إلى مولِّد كوميكس؛ مادة لا تنضب للنكات والسخرية والسلخ الالكتروني والسكرين شوت.
 
عبد الله عبر بقدمه من عالم المناظرات إلى عالم الكوميكس مُعتمدًا على استدعاء مرجعيته الثقافية لأرض الجدال، ولا شيء غريب في أن يعتبره أنصاره جزءًا من الإسلام، فيواجه المعترضون على آراء الشيخ  بسيل من التساؤلات الاستنكارية من نوعية «هل أنتم ضد الإسلام أم ضد عبد الله رشدي؟» و«هل مشكلتكم مع الدين، أم مع عبدالله رشدي؟».
 
وهذه قد تكون أزمة الفرد المتدين الأكبر على مرّ الأزمنة، صعوبة تخيّل أن يعترض إنسان على عمامة دينية؟ ولكن ماذا لو -وهي مجرد لو- أن تلك العباءة الدينية التي يحتمي بها الشيخ أصبحت العائق الذي يمنعه من التنفس؟
نقلا عن mada25.appspot