صلاح سالم
على هذه الصفحة كتب جارى العزيز أستاذ العلوم السياسية الكبير د. بهجت قرني عن (اللحظة المصرية) مناقشا ما كتبه د. عبد الخالق عبدالله أستاذ العلوم السياسية الإماراتي قبل أشهر عن (اللحظة الخليجية)، قاصدا حلول دور دول الخليج فى قيادة العالم العربي استنادا إلى الوفرة المالية والاستقرار السياسي. ولأهمية ذلك السجال رأيت المشاركة فيه أملا في  إضاءة بعض جوانبه تحقيقا للمزيد من التفهم والتوافق حول لحظة (مصرية ـ خليجية).

         أكتب كمؤمن بالقومية العربية طالما كانت متفتحة وديمقراطية وليست عضوية أو إقصائية، وكمصري مارست بلده القيادة الإقليمية طويلا، سواء في العصور القديمة والوسيطة، عندما تصدت للصليبين فهزمتهم وللتتار فاحتوتهم. أو في الحقبة الحديثة عبر التمدد الإستراتيجي والعسكري للدولة العلوية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم الانتشار السياسي والثقافي معظم القرن العشرين، خصوصا حينما انخرطت في قيادة مشروع التحرر القومى بقيادة جمال عبد الناصر، حتى كان ما كان من هزيمة عسكرية فادحة ثم انتصار عسكري كبير أفضيا معا إلى معاهدة سلام مع إسرائيل وقطيعة مع العرب أعقبها عودة مصر ولكن مع انكفاء طويل لم يقطعه سوى خبرة التدخل في حرب عاصفة الصحراء لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي 1991م، تلاها احتلال العراق، والانقسام الفلسطيني ثم عاصفة الربيع التى بعثرت جل الأوراق العربية في سوريا وليبيا واليمن، ناهيك عن احتباس لبنان خلف الشيعية السياسية لحزب الله، وتونس خلف السنية السياسية لحركة النهضة، ولا تزال الجزائر والسودان يواجهان الخطر.

        في هذا السياق حاول العراق وراثة دور مصر بين عامي 1979، 1991م، من دون أن يفهم سره، ولو أنه قرأ فقط رواية الحرافيش لنجيب محفوظ لعرف لماذا عاش بعض الفتوات زمنا طويلا وتركوا أثرا طيبا جعل الحرافيش يبكونهم، وفي المقابل لماذا كره الحرافيش فتوات آخرين وشمتوا في سقوطهم. الدولة ليست الفتوة، ولكنهما يتشاركان في تجسيد معادلة القوة والحكمة، فلا فتونة رجل ولا قيادة دولة من دون قوة الجسد أو السلاح، ولكن غياب الحكمة يحيل الفتوة إلى بلطجى صغير يخبط رأسه في جدران العبث والظلم حتى تسيل منه الدماء وينقضي أجله، مثلما يحيل الدولة إلى بلطجى كبير يخبط رأسه في جدران الواقع والنظام حتى تتحطم قواها وتزول ريادتها، وفي الحالين يكون الغروب دون أثر أو ذكرى.

       لنترك نجيب وحرافيشه ونواصل حكاية مصر وحكمتها التى أحالت قيادتها إلى مشروع للتحرر القومى استثمرت فيه من قوتها وقوت أبنائها الكثير حتى لامها هؤلاء الأبناء أنفسهم، ولكن أبناء عمومتهم أدركوا معنى رسالة الأم وقدَّروها، عدا مارقين قليلين حالت مصالحهم العابرة دون فهم الرسالة الواضحة. لم تندفع مصر بقوة طموحها المتوقد للوحدة والتحرر إلى استخدام القوة إلا لصالح من  طلبها وأصر عليها، وحتى الذين طلبوها ثم عادوا وتنكروا لها بالانفصال عنها،كسوريا، لم تقاتلهم. أما الذين أرادوا الرحيل رغم كونهم جزء منها، كالسودان، فلم تجبرهم على البقاء معها بل منحتهم حق تقرير مصيرهم. كانت خبرة تحرير الجزائر زاهية فوق كل حد، وكذلك التصدى لمحاولة عبد الكريم قاسم ضم الكويت عام 1960، حيث كان الرفض الناصرى حاسما في زمان كان لقول الرجل صدى ومصداقية، ولمصر نفسها سحر وفعالية. بل إن الخبرة اليمنية التى يراها البعض خطيئة أفضت في النهاية إلى الهدف المنشود تاريخيا وهو تحرر شعب عربي أصيل من أسر العصور الوسطي، ولولا ممانعة بعض العرب لتحقق الهدف أسهل وأسرع.

    هكذا كانت قيادة مصر للعرب، انطلاقا من مثل عليا وقيم تقدمية، تحدب على ضعفاء الأمة وتتصدى لأقويائها، تستنهض لدى الجميع عزائم الاستنارة والتحديث، وترسل إليهم قوافل التعليم. عاش فيها المناضلون والمتمردون، احتضنت الفقراء قبل الأثرياء، وعندما شب الجميع عن الطوق تركت لهم الحق في أن يحبونها أو يكرهونها، أن يمتدحوها أو يلعنوها، من دون أن تتعقبهم لتغتالهم كما فعلت زعامات مفتعلة لعواصم صغيرة. وحتى اليوم لا تزال القاهرة هى العاصمة التى يشعر فيها كل عربي أنه ليس فقط في بلده، بل يعامل بتقدير يفوق ما يجده في بلده أو ما يحصل عليه أهل مصر أنفسهم في بلدهم.
       على العكس كان عراق صدام حسين، فلم يكن لدى الرجل قيم عليا يدافع عنها، لا يحركه سوى نرجسيته. بنى طموح قيادته على التصدي لإيران فإذا به يرهق العرب، خصوصا في الخليج ومصر للخروج من ورطته. وما إن خرج حتى دخل الكويت فيما يشبه الانتحار: أخلاقيا بفقدان مروءته عندما اعتدى على بلد شقيق مثل  بلطجي. وعسكريا بفقدان قوة خصره وبعض أطرافه فى مواجهة دولة عظمى دون قوة تسنده أو قضية عادلة تلهمه.

بهزيمة صدام، ثم رحيله، كانت اللحظة خليجية بامتياز، المال وفير، ومصر منكفئة على نفسها تلعق جراح أزماتها، ودول المغرب، كعادتها، غير منشغلة بالمشرق وقضاياه. والحق أن الخليج لعب في لحظات كثيرة أدوارا مؤثرة ثقافيا وإعلاميا، بل وسياسيا في قضايا متفجرة عبر المصالحات والوساطات والدعم الاقتصادي الهائل، ومثال ذلك اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. غير أن ذلك التأثير لم يرقى أبدا إلى مستوى القيادة، وهو ما بدا واضحا في ظل التحديات الإستراتيجية المتنامية التي كشفت عن الحدود القصوى للدور الخليجي، وذلك بفعل عوامل بنيوية مفهومة.

     وهكذا يشى لنا التاريخ والجغرافيا العربيين بسرهما: كان العراق قوة فائقة دون حكمة ما أفضى لانطفاء قيادته بسرعة، أما الخليج فكان دوما مصدر حكمة دون قوة فائقة، ما يعطل إمكانية قيادته المنفردة، وعندما حاول بعض أطرافه اصطناع القوة وتوظيفها في ادعاء القيادة تورطوا في صراعات عجزوا عن حسمها. وفي الوقت الذي كان د. عبدالله يعلن فيه عن مولد اللحظة الخليجية، كان التاريخ يؤكد أنها غير ممكنة أصلا. فالخليج يصلح فقط للقيادة من الخلف، للعب دور الياور فى كل لحظة، أما مصر فالقيادة تنتظرها فى أى لحظة، شرط استعادتها لعافيتها، وحينئذ يمكننا الحديث عن لحظة عربية تضم القائد مع الياور فى مثلث قاعدته الخليج، تحديدا السعودية والإمارات اللتين تملكان الرغبة والقدرة على الفعل، ورأسه القاهرة، يسندانها فيرجحان كفتها، لكنهما لا تصلحان بديلا لها. إذا ما أدرك أهل الخليج السر وجدوا لحظتهم مع مصر، وإن أغفلوه ضاعت اللحظة العربية كلها.. ولكن ما هى الشروط التى يتعين على مصر تلبيتها لاستعادة لحظتها فى التاريخ وحقها فى القيادة، وتدفع أصدقائها ثم العرب جميعا للإصطفاف خلفها.. نكمل فى الأسبوع المقبل.
نقلا عن الأهرام