بقلم :رأفت تادرس
تحديات علمية في مواجهة علوم التطور (7)
قارئي العزيز
اسمح لي ان أبدأ مقالي هذا بإشارة هامة الى موقع الدكتور غالي  www.drghahly.com.  هذا الموقع هو واحد من أهم مصادر المعلومات المتاحة في هذا المجال ومصدر لمعظم المعلومات الواردة في هذه السلسلة ولعله أيضا المرجع الوحيد الشامل لها باللغة العربية: أشجعك عزيزي القارئ على تصفح هذا الموقع الشامل والثمين. 
والآن نستكمل رحلتنا الى شمسنا المنيرة الدافئة.
هل فكرت عزيزي القارئ، كم هو عدد رمال البحر، وكم هو عدد نجوم السماء؟ العلماء وضعوا تقديرا مشابها لعدد كل منهما، فالشمس واحدة من نجوم الكون التي يقدر علماء الفلك عددها بحوالي رقم عشرة بمضاعفات 22 أي واحد وامامه 22 صفر أي عشرة مليار تريليون نجم، وكذلك كان تقديرهم لعدد رمال البحر، فمن البديهي ان نفكر ان من بين كل هؤلاء النجوم آلافا بل ملايينا من النجوم المشابهة للشمس؟ علماء التطور ينادون منذ عقود وقرون بأن الشمس مجرد نجم عادي جدا وسط ملايين ومليارات الشموس، وهذا بالطبع يرفع عنهم عبء الرد على السؤال عن "التصميم" الرائع الذي يشهد لمصمم فائق الحكمة والقدرة، واما الأبحاث الحديثة فإنها تميل رويدا الى الاعتقاد بأن الشمس بالفعل فريدة من نوعها. وهذا هو موضوع اليوم.
لمحة تاريخية عن العلوم الشمسية
 
منذ بدء التاريخ اعتقدت الكثير من الحضارات القديمة بأن الشمس هي نجم فريد لا مثيل له واحاطتها بالكثير من التبجيل الذي يصل الى حد التأليه وجعل الأجداد يهتمون بتسجيل اطوار الشمس وظواهرها مما وفر الكثير من البيانات التاريخية التي يستخدمها العلماء حتى الآن للدراسة والمقارنة. 
 
في النصف الأول من القرن السادس عشر قدم الراهب وعالم الفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس نظريته بأن الأرض ليست هي مركز الكون بل هي مجرد واحد من العديد من الاجرام الفلكية التي تدور حول الشمس، وسجلت نظريته تلك بداية الأبحاث الحديثة في علم الفلك.
 
في بدايات القرن السابع عشر نشر العالم الإيطالي جاليليو نتائج ابحاثه التي استخدم فيها التليسكوب مستكشفا الفضاء بكواكبه ونجومه بل ومجراته مما ساهم عبر السنين في نزع هالة التقديس المحيطة بالشمس.
 
وفي سنة 1924 اكتشف العالم الامريكي إدوين هابل Edwin Hubble وجود المجرات التي تحتوي كل منها على مليارات النجوم ومضيفا اعدادا لا تُحصَى من النجوم التي يفوق العديد منها الشمس حجما وحرارة وتوهجا حتى باتت شمسنا لدي العديد من دارسي علم الفلك المعاصرين مجرد نجم عادي بل وكحبة رمل في وسط مليارات المليارات من النجوم الأخرى.
 
رحب علماء التطور بشدة بفكرة ان الشمس ليست نجما فريدا وان العديد والعديد من النجوم الأخرى كان في مقدورها ان تقوم بالدور الذي تقوم به الشمس وإلا أعطت الشمس مبررا جديدا لدعاة الخلق وان الاله الخالق هو الذي صمم الشمس بكل ذلك الاتقان والروعة لخدمة خليقته.
 
اضافت كثير من الدراسات والأبحاث القائمة على بيانات التلسكوبات الفضائية وسفن الاستكشاف الفضائي الحديثة مثل "هابل" و "كبلر" وغيرهما الكثير من المعرفة عن النجوم بما فيها الشمس، كما ساهمت بعض الأبحاث الحديثة في إعادة "دفء المشاعر" العلمية تجاه الشمس بعد فترة طويلة من "برود" الأعجاب العلمي بالشمس الفريدة.
بعض المعلومات عن الشمس  
يصنف العلماء النجوم بحسب توهجها وحرارتها الى سبع فئات، وتقع الشمس في فئة "قزم اصفر، G-Dwarf" وهي فئة من النجوم تبلغ حوالى 2,5-10% من النجوم.
 
تكون الشمس أكثر من 99,8% من كتلة المجموعة الشمسية وتبعد عن الأرض بحوالي 150 مليون كيلومتر ويحتاج ضوءها الى 8 دقائق ليصل الى الينا.
 
بينما تحصل الأرض على واحد من المليار من طاقة الشمس ، نجد أن مقدار الطاقة التي ترسلها الشمس الى الأرض في ساعة واحدة يفوق ألف مرة ضعف ما ينتجه البشر من طاقة في سنة كاملة.
 
لاحظ الفلكيون بدءا من القرن التاسع عشر وجود بقع داكنة على سطح الشمس، وتلك البقع الشمسية تمثل بؤرا مغناطيسية تشير الى تزايد النشاط الشمسي وتتغير تلك البقع الشمسية في الموقع والعدد كل بضعة أسابيع.
 
تمر الشمس بدورات نشاط مختلفة تمتد كل منها حوالى 11 سنة وتشمل كل دورة فترة او أكثر من النشاط يصحبها تزايد للبقع الشمسية تعقبها فترة من الخمود بعدد أقل من البقع الشمسية.
 
والآن نعود الى سؤالنا الأول، هل الشمس نجم فريد؟
هل الشمس الفريدة اسطورة ام تصميم لخالق؟
النقاط التالية هي مجرد امثلة ضئيلة تشير كلها الى تميز الشمس وتطرح سؤالنا التقليدي، هل هذه مجرد صدفة ام تصميم خالق عظيم؟
الشمس فريدة في موقعها
تدور الأرض، مثلها مثل بقية كواكب المجموعة الشمسية، حول الشمس في مدار بيضاوي، ومدار الأرض يبعد في المتوسط حوالي 150 مليون كيلومترا عن الشمس، يكفي تغيير 1% من هذا البعد لتحترق الحياة على الأرض او تتجمد وتموت . اما أي تغيير في المدار نفسه فسيؤدي بالضرورة الى اصطدام الكواكب ببعضها وانهيار النظام الشمسي بأكمله. "يا له من حظ"، يقول التطوريون، واما الخلقيون فيسبحون الخالق الحكيم.
 
ليست كل المجرات تصلح لأن تكون فيها شمس للحياة، فبضعة مجرات فقط من الحجم الكبير توفر فرصة وجود العوامل الصالحة للحياة، اما المجرات الصغيرة فلا تصلح .
من المعروف ان كل مجرة بها مليارات من النجوم، فهل كل كلها مؤهلة لاحتضان الحياة؟ لا بل ندرة ضئيلة جدا من تلك النجوم هي مرشحة لذلك الدور، ونحن هنا نتحدث عن موقع النجم من المجرة والكفيل بإعالة الحياة Galactical Habitable Zone. تقع الشمس والمجموعة الشمسية معها في الثلث الخارجي من مجرة درب التبانة في أحد الأذرع الفرعية للمجرة المسمى "أوريون Orion Spur" ، وهذا الموقع هو على الشريط الضيق جدا في المجرة الذي يسمح بوجود الحياة، فالنجوم الأقرب الى مركز المجرة معرضة للاحتراق بواسطة الانفجارات النجمية (Super Novae) العديدة المدمرة قرب المركز، بينما لا يمكن للكواكب والنجوم الموجودة على الحافة الخارجية للمجرة الاحتفاظ بالعديد من العناصر الثقيلة المهمة للحياة. 
التطوريون يقولون ان قدرا عظيما من الحظ حالفنا بسبب وجودنا في هذا الموقع، واما الخلقيون فيرون تصميما ألهيا وراءه. ومع ذلك فالنماذج الحاسوبية ترينا ان النجوم ترحل عادة داخل المجرات  مما يعني تغير مواقعها، فكيف استطاعت الشمس إذن ان تحتفظ بموقعها المثالي للحياة عبر مليارات من السنين؟
هذا الموقع في أطراف المجرة يتيح لنا، بالمناسبة، مراقبة الكون الواسع بدون زحام النجوم في قرب مركز المجرة، وبينما هو يتيح لنا رؤية ومراقبة المجرات الأخرى لكنه يمنع رؤية مجرتنا من الخارج بل من الداخل فقط لأننا جزء منها.
شمسنا الهادئة فريدة في تكوينها
إذا سمح "الحظ" وكان هناك موضع صالح في مجرة مناسبة، فليست كل النجوم هناك مرشحة لرعاية كواكب تحمل الحياة، بل نحن نبحث عن واحد من النجوم الصفراء التي هي أقلية ضئيلة، فبالرغم من وجود العديد من الشموس الصفراء، فإن هذا ليس كل ما تحتاجه شمس صالحة للحياة بل لا بد ان يكون حولها كوكب صالح أيضا للحياة وأقل القليل من هذه النجوم مناسب من حيث الحجم والجاذبية والحرارة ومقدار التوهج، اضف الي هذا ان الغالبية العظمي من الكواكب المكتشفة هي عديدة الشموس أي تتم إضاءتها بأكثر من شمس وواحد منها متقلب المزاج كفيل بحرق ذلك الكوكب المرشح للحياة، وهذه الخاصية التي نسميها ب " المزاج الهادئ "هي الأشد ندرة جدا بين الشموس، وتعني عدم وجود انفجارات مفاجئة وعنيفة او حدوث برود شديد وطويل الأمد.
عجز الفلكيون حتى الآن في العثور على نجم مماثل للشمس وسط مليارات النجوم التي يستطيعون فحصها، والبحث التالي هو واحد من عديد من الأبحاث الأخرى التي قاموا بها في سبيل البحث عن نجم مماثل تستطيع الحياة ان توجد وتستمر تحت دفئه:
في سنة 2018 قامت عالمة الفيزياء الفلكية ميجان بيدل Megan Bedell من مركز فلاتيرون للفيزياء الفلكية الحاسوبية بمدينة نيويورك بدراسة حديثة شملت 79 توأما للشمس من بين آلاف النجوم التي بدت مشابهة للشمس ، هذه النجوم الأكثر تماثلا مع الشمس في الحجم والحرارة وقوة الجاذبية ومحتوى الحديد، وموضوع الدراسة كان مقارنة تركيب العناصر لهذه النجوم اعتمادا على الأطوال الموجية المنبعثة من تلك النجوم وهذه الاطوال الموجية هي التي تتيح للعلماء دراسة محتوى عناصر تلك النجوم، وخلصت الدراسة الى تطابق جميع تلك النجوم في معظم خواصها مع بعضها البعض كما تشاركت في أطوار نشاطها مع وجود استثناء وحيد وهذا الاستثناء كان هو شمسنا! 
أثبتت الدراسة ان الشمس تنقصها كميات كبيرة من المعادن وبعض المواد الأخرى من المتوفرة في بقية النجوم المماثلة، وتبلغ كتلة تلك المعادن التي تفتقدها الشمس حوالى اربع أضعاف كتلة الأرض وهذا لا يمثل الا جزءا ضئيلا من كتلة الشمس لكن يبدو ان اثره كبير على النشاط الشمسي، ويظهر أثر التكوين الكيميائي لتلك النجوم عند مقارنة نشاطها مقابل النشاط الشمسي الذي يصف مدى وقوة الانفجارات الشمسية حيث تبعث شمسنا السنة لهب على إثر تلك الانفجارات وبعض السنة اللهب تلك تقترب من الأرض لكنها لا تصل اليها والا كان أثرها على الحياة مدمرا. اما النجوم الأخرى والمفترض انها توائم للشمس فانفجاراتها تصل الى ما بين 12-50 مرة ضعف الانفجارات الشمسية على الأقل وهي بذلك قادرة على التهام الحياة على كوكب الأرض عدة مرات كل سنة.
فما اجملها من صدفة؟
الصورة اسفله تعطي مقارنة بين النشاط الشمسي ونشاط نجم آخر صنفه الفلكيون كتوأم للشمس وظاهر فيه الفارق الكبير بين نشاط النجمين.  
 
لكل نجم بصمة شديدة الخصوصية تشير الى تركيب عناصره وكثافته ووزنه وجاذبيته وعمره ونشاطه ومجاله المغناطيسي وغيرها من الخواص، وكل واحدة من هذه الخواص شديدة الأهمية ولا غنى عنها للحياة، لذلك يتجه كثير من العلماء حاليا الى الاعتقاد بتفرد الشمس وعدم وجود مثيلتها.
بالمناسبة، تقول نظرية التطور بأن الشمس وبقية كواكب المجموعة الشمسية تكونوا من نفس السحابة السديمية منذ مليارات السنين، ولكن العناصر الموجودة في الشمس تختلف تماما عن تركيب عناصر بقية كواكب المجموعة الشمسية، وهذا يضيف الى "حظنا السعيد" وإلا كانت للشمس اطوار أخرى ضارة للحياة. وطبعا يبقى السؤال الضار لنظرية التطور، وهو من اين أتت الشمس ان لم تكن مصممة بيد الهية عجيبة خصيصا لمهمتها هذه؟
الرياح الشمسية، خطر يتصدى لكارثة
الرياح الشمسية هي دفق من الجزيئات المشحونة المنبعثة من السطح الخارجي للشمس وتكون على شكل انسياب مستمر للغازات من الشمس بسبب تمدد الغازات في إكليل الشمس (هالة الشمس) وتتسبب الحرارة العالية التي تصل إلى متوسط قدره 2,200,000°م في تسخين الغازات وتمدّدها وتصبح جُسَيمَات مشحونة بالكهرباء. وتُشكِّل هذه الجسيمات المسماة بالأيونات، الجزء الأكبر من الرياح الشمسية. 
وبينما يحمي المجال المغناطيسي كوكب الأرض بصد هذه الرياح وازاحتها بعيدا عن الأرض، فإننا نرى أثرها الفتاك على بعض المذنبات التي تتآكل بفعل اصطدام هذه الجسيمات بها. ولكن هذه الرياح الشمسية الخطرة هي نعمة أعدها الخالق لكي يحمي الأرض من خطر أعظم وهو الرياح الكونية او النجمية، وتلك الرياح تأتي من النجوم النشطة في المجرة او حتى من المجرات الأخرى وهي في العادة أشد شراسة وفتكا بكثير من الرياح الشمسية لأن جسيماتها تصطدم بما يقابلها من أجسام بسرعة رهيبة تقارب سرعة الضوء، وكثيرا ما تسببت في تلفيات جسيمة في سفن الفضاء التي قاربت على التفتت بفعلها،  الأخطر من هذا ان علماء الأحياء لاحظوا ان القليل منها الذي يصل الى الأرض قادر على تدمير الجينات الوراثية للكائنات مسببا تلفا وراثيا دائما للأجيال الوراثية.
 
لكن ما أجمل وأروع "حظنا"، حيث لاحظ الفلكيون ان تلك الرياح تقل في منطقة كواكب المجموعة الشمسية وخاصة كلما اقتربت من الشمس، كذلك لاحظوا زيادة تضاؤلها كلما زاد النشاط الشمسي وما يبعثه من الرياح الشمسية مما يؤكد ان الرياح الشمسية تعمل كدرع يحمي الأرض من الرياح الكونية الأشد ضررا. الرائع هو التوازن الفائق في قوة وأثر العاملين بحيث لا يطغى احدهما على الآخر وإلا كان تأثير ذلك مدمرا للحياة كلها. هل هو الحظ ام الخالق الحكيم؟
الخلاصة
بات البحث عن نجم جدير بلقب "شمس" عسيرا، كمن يبحث عن حبة معينة من الرمل وسط كل رمال المحيط، فهل هو بالفعل الحظ السعيد الي جمع شمسنا بارضنا، ام ان الخالق العجيب التدبير والحكمة هو الذي صمم الحياة وصنع قواعد الكون لننعم بعطاياه ونشكره عليها؟
صديقي القارئ
في المرة القادمة سنواصل رحلتنا خارج الأرض ونتعرف على بعض الظواهر الفضائية مثل أذرع المجرات ودوران الكواكب وذيول المذنبات ونرى، هل تناسب هذه العمر الطويل للكون؟ ام تشهد لخالق رتبها بحكمة منذ عدة آلاف من السنين؟ فإلى ذلك الحين، ابقى سالما!