عاطف بشاي
-1-
كنت قد انتهزت فرصة الإقامة الجبرية بالمنزل بسبب جائحة الكورونا، وتفرغت للانتهاء من الفصل الأخير من كتابى الجديد «الرجل ديناصور منقرض»، الذى أعنى فيه بنجاح مجهودات المرأة والجمعيات النسائية النشطة فى إرساء فعاليات قهر الرجل وطرد القبيلة الذكورية من المجتمع المعاصر..

استيقظت فزعًا، وضجيج جَرّ قطع الأثاث، وصوت المكنسة، وتهشُّم الأكواب بالمطبخ، واشتباك، مشحون بهوس انفعالى وعصاب هستيرى، من جانب زوجتى، فى مقابل تبلُّد وجدانى، مصحوب بـ«بارانويا الاضطهاد»، من جانب الشغالة.. هرولت خارجًا من حجرة النوم إلى «الهول»، فانزلقت قدماى بسبب المياه والصابون، اللذين يغمران الأرضية.. وصحْت صارخًا فى زوجتى: كيف وأين أستطيع العمل فى وسط هذه الفوضى.. ألم أتفق معك على إلغاء يوم التنفيض هذا بسبب الخوف من العدوى، فى مقابل أن ندفع للشغالة أجرها دون عمل؟!.. قالت: لم يعد بمقدورى تنظيف المنزل بمفردى..

أسرعت بجمع أوراقى على عجل، وقررت مغادرة المنزل، وليكن ما يكون..

-2-
كان من حسن الحظ أن الحكومة قررت عودة الكافيهات والمقاهى إلى العمل على استحياء.. فذهبت إلى كافيتريا قريبة، وشرعت فى الكتابة.. فجأة انقض علىَّ رجل كان يجلس إلى منضدة مجاورة.. (فى نحو الأربعين من عمره.. نحيل.. زائغ النظرات.. متواضع المظهر).. بادرنى وهو يمد يده مصافحًا فى حرارة:

- إزيك يا أستاذ.. أنا باشبِّه عليك.. سيادتك «نجيب محفوظ» مش كده؟..

نظرت إليه مأخوذًا ذاهلًا مُردِّدًا:

- لا، الأستاذ نجيب محفوظ تعيش انت..

- بس حضرتك كاتب مش كده؟؟

- أيوة.

- أنا عندى مشكلة عاوز أعرضها عليك..

- أنا مابحلِّش مشاكل.. إبعتها لباب مشاكل القراء فى «الأهرام»..

- مش بتقول حضرتك كاتب.. تبقى دماغك كبيرة..

ولم ينتظر حتى أرد عليه بالموافقة من عدمها، وأسرع جالسًا مُردِّدًا، وهو يقرض أظافره، فى توتر عنيف: أنا أعيش فى مأساة يا سيدى.. فقد تزوجت منذ ثلاث سنوات امرأة إذا بلعها الشيطان عجز عن هضمها.. إنها نموذج بشع لسوء الخلق والعدوانية والشر المستطير.. داعشية السلوك.. الشجار والسباب هوايتها واحترافها.. بعد ثلاثة أشهر فقط من الزواج ضربَتْ رأسها فى الحائط، وذهبت إلى قسم البوليس، والدماء تغطى وجهها، مُدَّعية أننى الجانى.. وبعدها بعدة أسابيع عدت من عملى، فلم أجدها، ولم أجد أثاث المنزل بأكمله.. وأسرعَتْ بتحرير محضر سرقة وتبديد منقولات ضدى.. وبعدها..

هتفت، مستنكرًا مقاطعًا: وبعدها إيه؟!.. لم يعد سوى الاعتداء عليك بالضرب.. وأنا أعلم أن نسبة ضرب الزوجات لأزواجهن زادت فى الفترة الحالية..

- حصل.. وعملتلى فضيحة فى العمارة كلها..

- ولماذا لم تُطلِّقها؟؟!

تردد قليلًا، ثم ردد مؤكدًا: لأنها رغم كل عيوبها، سيدة شريفة عفيفة تعرف الحلال والحرام، فهى غير متبرجة كالسافرات الكاسيات العاريات النامصات المستوصلات، لم يلمسها فى حياتها أحد غيرى.. ومن ثَمَّ، فليست من أهل النار..

أصابنى الذهول، وقلت له: بل إنها الجحيم نفسه.. وأنت ضحية المتشددين الذين يتعلقون بالفهم الضيق لقشور الخلق والفضيلة والتدين الشكلى.. إن زوجتك بها من العيوب ما يكفى لتطليق عشرات الزوجات من أزواجهن.. المشكلة تنحصر فيك أنت لأنك شكّاك.. سيئ الظن بدرجة يستحيل معها أن تطمئن إلا إذا تزوجت غولة.. لأنك ضعيف الثقة فى نفسك، وتتصور أن الزوجات خائنات بالسليقة.. وهذا غير حقيقى..

-3-
عدت إلى المنزل، وقد أضاع الرجل وقتى دون أن يتسنى لى أن أكتب حرفًا واحدًا..

واجهت زوجتى، بغضب، بأن كتابى الطَّموح لن يرى النور أبدًا مادمت لا أنعم بالهدوء الكافى والقدرة على التركيز داخل المنزل.. ورجوتها أن توافق على منحى إجازة زوجية تقضيها فى منزل والدها.. وافقَتْ على مضض..

-4-
انتهيت من كتابة الفصل الأخير من الكتاب، ولم أنسَ أن يكون الإهداء إلى زوجتى الحبيبة، وهو: «إلى قرة عينى.. أيقونتى الغالية.. رفيقة دربى.. وملهمتى الرائعة.. التى لولا عدم وجودها لما رأى هذا الكتاب النور»..
نقلا عن المصرى اليوم