د.عبدالخالق حسين
ضرورات التغيير
هناك بديهية تفيد أن كل مرحلة تاريخية هي وليدة المرحلة السابقة، لذلك فمن نافلة القول أن بذور ثورة 14 تموز قد نمت في رحم العهد الملكي نفسه. والثورات لا يمكن تفجيرها "حسب الطلب" أو بفرمان من أحد، وإنما هي نتيجة لانفجار تراكمات ومظالم ومتطلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، وعندما تنتفي الوسائل السلمية الديمقراطية لتحقيق هذه التحولات المطلوبة، وتتوفر لها الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، عندئذِ يحصل التغيير بالعنف الدموي وما يصاحب ذلك من هزات عنيفة واضطرابات خطيرة في المجتمع.
 
كذلك يجب التوكيد على إن ثورة 14 تموز كانت الإبنة الشرعية لثورة العشرين (30 حزيران 1920) و وريثتها، مضموناً وفكراً والتي أرغمت المستعمرين الإنكليز في الإستجابة لمطالب الشعب العراقي في تأسيس الدولة العراقية فيما بعد، كما مر بنا في الفصل السابق. إلا إن الإستقلال السياسي بقي ناقصاً دون طموحات الشعب وقواه السياسية، وكانت الدولة مرتبطة بمعاهدات جائرة، لذلك استمرت الإنتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية والإنقلابات العسكرية، تتفجر بين حين وآخر، وكانت ثورة 14 تموز تتويجاً لتلك الانتفاضات والحركات السياسية ومكملةَ لثورة العشرين، إذ حققت طموحات الشعب العراقي في إنجاز إستقلاله السياسي الكامل، وسيادته الوطنية، ومهدت السبيل للسيطرة على ثرواته الطبيعية مستقبلاً.
 
سأحاول قدر الإمكان، وبشكل موثق، إثبات إن المسئول الأول والأخير عن اندلاع ثورة 14 تموز 1958،هو النظام الملكي نفسه، ونوري السعيد يتحمل هذه المسؤولية أكثر من غيره، لأنه كان متنفذاً أكثر من غيره، و وقف ضد الديمقراطية والتحولات الاجتماعية، وأمعن في انتهاك حقوق الجماهير الديمقراطية وأعاق تطوير مؤسسات المجتمع المدني وأوقف التطور السلمي التدريجي، ووقف عقبة كأداء أمام التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها قوانين التطور ومسار التاريخ إلى أن استنفد دوره. وحتى الإنتفاضات الشعبية والوثبات الوطنية فشلت في تغيير سياسة السلطة نحو الأفضل بسبب شراسة القمع، لذلك صرح قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم مرة: " لو اعتقدنا أنه كان باستطاعة الشعب أن يزيل كابوس الظلم الجاثم على صدره، لما تدخلنا بالقوة المسلحة، ولكننا كنا نعرف أن الناس كانوا يائسين ولا من يدافع عنهم ."
 
تدشين مرحلة الإنقلابات وتسيس العسكر
يحاول البعض، سواء عن جهل أو عمد، تحميل ثورة 14 تموز 1958، تبعات سياسات النظام البعثي الساقط في العراق وما حل بهذا البلد من خراب ودمار لاقتصاده، وتمزيق وحدته، وتلويث بيئته، وتدمير نسيجه الاجتماعي، وتشريد أكثر من خمسة ملايين من أبنائه إلى الخارج، وتحويل الوطن إلى سجن كبير لمن لم يستطع الخروج منه…، يعتقد هؤلاء، أنه لولا ثورة 14 تموز لما ابتلى العراق بنظام البعث، ولما نزلت عليه هذه الكوارث. فهؤلاء يذكرون فقط ما حصل بعد الثورة، ويتجنبون ذكر ما كان يجري قبل الثورة من مظالم، أي الأسباب التي أدت إلى تفجيرها.
 
وقد استغل أنصار عودة الملكية، وحتى البعض ممن أيدوا الثورة في وقتها، هذا الوضع المزري الذي عاشه العراق في عهده الجمهوري -البعثي، وتبعات سقوطه، فيلقون باللائمة على ثورة 14 تموز وقادتها مسؤولية تسييس العسكر، وتسلطهم على الحكم، ومقدرات البلاد والعباد، وأنها دشنّت عهداُ للانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار. ويدّعون أيضاً، أن العهد الملكي كان عهداً ديمقراطياً ليبرالياً زاهراً مستقراً، فيه دستور وانتخابات وبرلمان وأحزاب معارضة ديمقراطية، كانت تمارس نشاطاتها بحرية تحت قبة البرلمان، وحقق تقدماً واسعاً في التطور الاجتماعي والاقتصادي، وكان نبتة طرية لبناء المجتمع المدني ومؤسساته الديمقراطية "لولا اقتلعها عبد الكريم قاسم" على حد تعبير أحدهم. وبذلك فهم يدَّعون أنه لم تكن هناك أسباب كافية لقيام "الإنقلاب" وإن ما حصل في 14 تموز 1958 كان نتيجة طيش بعض الضباط المغامرين في الجيش لتحقيق طموحاتهم في السلطة والجاه.
 
إن سبب هذا التفسير الخاطئ لما لحق بالعراق في عهد صدام حسين من دمار، هو لأن العراق يعيش مرحلة الإنحطاط الحضاري والإنهيار الوطني، منذ تسلط حزب البعث على السلطة. والإنهيار الوطني يصاحبه عادة إنهيار فكري، وأخلاقي، إذ يسيطر اليأس والإحباط على النفوس في الخلاص من الوضع المزري، وتحصل البلبلة والتشويش، فيلجأ قطاع واسع من الناس إلى الإيمان بالخرافات والتفسيرات الغيبية، فيفسرون ما حصل انه عقاب من الله تعالى لإبتعادنا عن تعاليم الدين، وانه إمتحان لنا بهذا البلاء. لذلك نجد قسماً كبيراً منهم، يلجئون إلى الغيبيات والدين متضرعين إلى الله تعالى، طالبين منه العفو والغفران عن المعاصي لخلاصهم من هذا الظلم.
 
وهذا الإنهيار الفكري لم يشمل الناس البسطاء في المدن والأرياف فحسب، بل أثر بشكل وآخر حتى على عدد من المثقفين. فلم نستغرب أن نرى شخصاً كان بالأمس متحمساً للماركسية وإذا به الآن يدعو للورع والتقوى والتدين. هذه هي ظاهرة الإنهيار الفكري التي تصاحب الإنهيار الوطني في كل مكان وزمان نتيجة الشعور باليأس والإحباط في الخلاص من الكارثة، لأنها فقدت الثقة والأمل بتحقيق الخلاص من هذه المحنة عن طريق النضال الحاسم والقوى المادية، فتلجأ النفوس إلى الإيمان بالخرافات والغيبيات والقوى الخارقة الميتافيزيقية.. أملاً في الخلاص.
 
ولا نستغرب أيضاً من تفسيرات غريبة وعجيبة يطلقها هذا المثقف أو ذاك في تفسيرات مشبوهة، أو خرافية وغير معقولة لتعليل هذه الظاهرة أو تلك، متصيدين بالماء العكر في عملية خلط الأوراق وحرق الأخضر بسعر اليابس. والجدير بالذكر أني ذكرت مثل هذا الكلام في إحدى الندوات في شمال شرق إنكلترا عام 1998، فقاطعني أحد الحضور بغضب، متهماً إياي بالكفر، مدعياً إن هذا التوجه الإيماني والحملة الإيمانية في العراق بعد حرب الخليج الثانية، ما هو إلا من الله تعالى الذي أدخل الإيمان في قلوب العراقيين. فذكرته بأن هذا السلوك ليس غريباً على الدين وقد جاء ذكره في القرآن الكريم أيضاً وتلوت عليه الآية الكريمة: "وإذا مسكم الضر في البحر من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً" (الآية67، سورة الإسراء). إن لجوء الإنسان إلى الله أيام المحنة فقط وتخليه عنه فيما بعد ليس بالأمر الجديد. واتهام الآخرين بالكفر أصبح أمراً مألوفاً في هذا الزمن الرديء. لذلك فلا عجب أن نواجه بعضاً من هذه التفسيرات الخاطئة، ومنها تحميل ثورة 14 تموز تبعات ما حصل في العراق على يد النظام البعثي الصدامي في العراق. وهذا التفسير الخاطئ هو نتيجة الإنهيار الفكري وإستثمار الأزمة لأغراض مشبوهة من قبل البعض.
 
إن إلقاء تهمة تسييس العسكر وتدشين مرحلة الانقلابات على ثورة 14 تموز لم يصمد أمام أية مناقشة منصفة. إذ لم يكن العسكر غرباء عن الدولة العراقية في عهدها الملكي، فأغلب المساهمين في تأسيس الدولة العراقية كانوا من العسكر، سواءً الذين عرِفوا بالضباط الشريفيين (نسبة إلى الشريف حسين- شريف مكة)، من خريجي المدرسة العسكرية التركية، ومنهم نوري السعيد نفسه الذي كان برتبة جنرال، والذي تولى رئاسة الحكومة 14 مرة. وكذلك ياسين الهاشمي والفريق جعفر العسكري والفريق نوري الدين محمود كانوا عسكريين وتسنموا رئاسة الحكومة في العهد الملكي، وغيرهم من الضباط العراقيين في الجيش العثماني. لا بل أن العسكر قد وجدوا حتى قبل تأسيس الدولة العراقية، بمعنى أنهم كانوا مسيّسين قبل تأسيس الدولة، ولهم دور كبير في تأسيسها. وكون العراق يعيش وضعاً متخلفاً كأي بلد في العالم الثالث، وهو أن الدولة كانت تابعة للجيش وليس الجيش تابعاً للدولة.
 
لذلك، فمرحلة الإنقلابات العسكرية لم تبدأ بيوم 14 تموز 1958 كما يدعي البعض، وإنما دشنت في العهد الملكي نفسه بإنقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، (ويعتقد البعض أن الملك غازي كان مشاركاً به)، وما تلاه من خمسة إنقلابات عسكرية مستترة أخرى وأحداث مايس 1941 بقيادة العقداء الأربعة والتي عرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني. وكانت هناك محاولات انقلابية عسكرية لم يكتب لها النجاح، كلها حصلت في العهد الملكي أي قبل 14 تموز 1958 . وبذلك فإن تسييس العسكر قد حصل في العهد الملكي، وإن ثورة 14 تموز هي نتيجة وليست سبباً لتسييس العسكر.
 
الثورة والتطور السلمي التدريجي
وإنصافاً للتاريخ يجب أن يذكر أن العهد الملكي لم يكن شراً كله، كما يدعي بعض أنصار الثورة، ولم يكن خيراً كله وازدهاراً عميماً كما يدعي أنصار الملكية، بل كانت هناك جوانب إيجابية تبشر بالخير لو سارت الأمور كما كان مخططاً لها من قبل المخلصين من أمثال الملك فيصل الأول. أقول لا يمكن لأي منصف أن ينكر دور الملك والسياسيين الأوائل من أتباعه فيما بذلوا من جهود مضنية في تأسيس الدولة العراقية الحديثة وبمساعدة الإنكليز بعد تحرير العراق من الاستعمار التركي العثماني المظلم، وما أعقبه من تململ الشعب العراقي في ثورة العشرين. إذ كان العراق يسير بقيادة فيصل الأول، بخطى ثابتة ومتزنة على طريق التطور السلمي التدريجي لبناء دولة عصرية دستورية وديمقراطية وفي أشد الظروف تخلفاً وصعوبةً. ولا يمكن أن نقلل مطلقاً من الصعوبات التي واجهها الرواد الأوائل في بناء الدولة العراقية.
 
ولكن هذا التطور السلمي التدريجي توقف فجأة بعد وفاة الملك فيصل الأول، وتسلط الثنائي نوري السعيد وعبد الإله على مقادير السلطة خاصة بعد مقتل غازي، كما أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق. ويؤكد هذه الفرضية الباحث الدكتور كمال مظهر أحمد فيقول: "وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام [الملكي] في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة".
 
لذا فإني اعتقد جازماً أن نهاية النظام الملكي قد بدأت عملياً برحيل مؤسسه الملك فيصل الأول، ولم يحصل أي نوع من الاستقرار السياسي في العراق منذ وفاته عام 1933 حيث فقدت الحكومة العراقية هيبتها، وصار نوري السعيد هو الحاكم المستبد في العراق، ولعب دوراً كبيراً في إيقاف عجلة التطور السلمي التدريجي، وتجميد أو تهميش الدستور، وبدأت مرحلة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. وكانت الأحكام العرفية هي القاعدة وليست استثناءً، حيث أُعلِنَتْ 16 مرة بين 1932 و1958.
 
إذ كان فيصل الأول سياسياَ محنكاَ بالفطرة والتجربة، وذو ثقافة سياسية واجتماعية جيدة نسبياً حسب ظروف ذلك الزمان، فكان يلتقي باستمرار بقوى المعارضة، والشخصيات الوطنية، ورجال الدين ورؤساء العشائر، يستمع إلى آرائهم وطلباتهم ويشرح لهم الصعوبات التي تواجه الدولة في تلك المرحلة وكان يطمئنهم على تحقيق مطالبهم على شرط أن لا يحاولوا فرضها على السلطة بالعنف، وأن هذه الطلبات ستتحقق مع الزمن وأن خيراً عميماً سينتظرهم إذا ما تجنبوا العنف. لذاك سارت الأمور في عهد فيصل بهدوء وكان التطور يجري بسلام.
 
ولكن بعد وفاة فيصل تغيّرت الأمور رأساً على عقب وامتنعت السلطة وخاصة بعد مصرع الملك غازي، عن أي حوار أو تفاهم مع المعارضة الوطنية. فكان نوري السعيد غير ملمٍّ بفن الحوار والتواصل مع الآخرين، إذ لم يكن خطيباً مفوهاً، ولا كاتباً بارعاً، ولم يهتم بالدعاية والإعلام لشرح سياساته وإقناع الجماهير بجدواها، بل كان ينظر إلى الجماهير نظرة إستخفاف، مستهيناً بالمعارضة، معتمداً كلياً على الجيش في حمايته، وشيوخ الإقطاع في إدارة الحكم وإستمراره في السلطة وفق مقولته المعروفة (دار السيد مأمونة).
 
ونعود للسؤال الذي يطرح نفسه دائماً وهو: أما كان الأجدر بالقوى السياسية والعسكرية الانتظار ومحاولة تغيير الوضع بالطرق السلمية؟ وهل كانت هناك حاجة لثورة مسلحة كثورة 14 تموز 1958؟
 
والجواب هو إن التطور سنة الحياة يشمل كل شيء في الوجود، في المجال البايولوجي والبيئي وحتى في شكل القارات ومواقعها، وكذلك فيما يخص التطور الحضاري والإجتماعي والسياسي. فهذا الوضع الحضاري المتقدم الذي يعيشه العالم اليوم في الغرب لم يحصل بين يوم وليلة، بل حصل عبر هزات وكوارث تاريخية وإجتماعية وحروب وثورات وزلازل وبراكين سياسية على مر العصور، وهذه مسألة طبيعية جداً في حركة التاريخ ومساره. فالتطور حتمي ويشمل جميع الأشياء ومجالات الحياة، فإما أن يحصل بصورة سلمية إذا لم تقف الحكومات عائقاً أمامه، أو على شكل ثورة عارمة تجرف أمامها كل عائق إذا ما وقفت الحكومات عائقاً للتطور السلمي التدريجي. وهذا هو منطق الحياة في كل زمان ومكان.
 
وهناك مقولة ماركسية تفيد بأن التراكمات الكمية تؤدي بالتالي إلى تحولات كيفية (نوعية).
 
ويوضح ذلك الراحل حسين مروة فيقول: "يرشدنا المنهج العلمي إلى حقيقة مهمة في تاريخ تطور المجتمعات البشرية والحضارات، هي ان التراكمات الكمية ضمن مجرى هذا التاريخ يمكن أن يتخذ أشكالاً مختلفة في تحولها الكيفي. يمكن مثلاً، أن تتحول إلى كيفية سياسية، أو إجتماعية، أو فكرية نظرية، أو إلى نوع من العنف الثوري.
 
لقد تابع إنجلس أشكال المعارضة الثورية للإقطاع في القرون الوسطى كلها، فوجد أن الظروف الزمنية، كانت تظهر هذه المعارضة حيناً في شكل تصوُّف، وحيناً في شكل هرطقات سافرة، وحيناً في شكل إنتفاضات مسلحة. إن شكل التحول الكيفي في هذا المجتمع أو ذاك، وفي هذا الزمن أو ذاك، إنما تحدده طبيعة الظروف الملموسة، وربما كانت الظروف هذه مؤهلة وناضجة أحياناً لحدوث تحولات كيفية مختلفة الأشكال في وقت واحد، أي قد تجتمع في ظروف معينة تحولات سياسية واجتماعية وفكرية معاً، قد ترافقها إنتفاضات مسلحة، وقد تأتي هذه التحولات تمهيداً لإنتفاضات مسلحة، وقد يستغني بها التطور عن أشكال العنف الثوري كلياً."
 
إذن هناك حاجة ملحة للتطور السياسي ليتناسب مع حاجة الشعب من الناحية الإجتماعية والمعيشية، أي الوضع المادي الإقتصادي وتحقيق العدالة الإجتماعية وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات.. الخ. فإذا كانت السلطة واعية لهذه القوانين وتسمح بالتقدم والتطور حسب ما تقتضيه المرحلة، يحصل هذا التقدم تدريجياً بدون هزة ثورية ودون الحاجة إلى عنف وسفك دماء. أما إذا كان الحكام لا يؤمنون بالتطور وأنانيين ولا يعترفون بالحاجة إلى التغيير لمواكبة التطور والإستجابة لحاجة الشعب إلى التغيير، فتكون هذه السلطة رجعية ومحافظة تعمل على إبقاء ما كان على ما كان، كما يقال، وتقمع أية محاولة لمواكبة التطور.ومع مرور الزمن تزداد الحاجة إلى التغيير ويحتدم الصراع بين قوى التجديد والقوى المحافظة، فتضطر السلطة الرجعية ومن أجل بقائها في الحكم، إلى إستخدام العنف والإرهاب والقوة لقمع القوى المطالبة بالتغيير، إلى أن تتراكم الحاجة إلى التغيير مع الزمن أكثر فأكثر وتصل حداً تصبح الحياة غير ممكنة مع الوضع القديم، عندئذٍ ينهار الجدار العائق أمام السيل العارم، ويحصل الطوفان، والإنفجار الثوري والذي يحرق الأخضر واليابس، فتأتي سلطة تستجيب لحاجات التطور الإجتماعي، ورغبات الشعب. إن القانون الفيزيائي المعروف: الضغط يولد الإنفجار، ينطبق على جميع مجالات الحياة، الإجتماعية والسياسية وغيرها.
 
لذلك فالتطور يفرض نفسه، إما بصورة سلمية كما يحصل في الأنظمة الديمقراطية، أو بالثورة المسلحة الدموية كما في الأنظمة المستبدة. ففي النظام الديمقراطي، توجد حكومة منتخبة من قبل الأغلبية من الشعب تحاول قدر المستطاع ان تستجيب لرغبات الناخبين. لنفرض أن جاء حزب محافظ إلى السلطة ديمقراطياً. فهذه السلطة تحاول الحفاظ على ما هو موجود من قوانين محافظة لأوضاع إجتماعية معينة وفي مرحلة تاريخية معينة.
 
وتكون هناك أحزاب معارضة تراقب السلطة وتحاسبها على كل شيء وتوجه لها النقد ضد الأخطاء. وبمرور الزمن تفرض الحياة أموراً جديدة تتطلب التغيير، لكن سلطة الحزب المحافظ ترفض التغيير، إلى أن يؤمن الأغلبية من الناخبين أن مصالحهم أصبحت مهددة بوجود سلطة المحافظين، وهناك ضرورة ملحة للتغيير بسبب التراكم الكمي، ففي الإنتخابات القادمة يأتي الناخبون بالحزب الذي يضع في بيانه الانتخابي برنامجاً يستجيب لحاجة الناس إلى التغيير.
 
وهكذا تأتي السلطة الجديدة التقدمية بلغة اليوم، فتأتي بالقوانين الجديدة التي تتماشى مع متطلبات المرحلة وتبقى في الحكم وتستمر بخلق قوانين جديدة إلى أن تذهب بعيداً أكثر مما يطيقه الشعب، عندئذٍ يأتي دور المحافظين لإيقاف التغيير وإعطاء الشعب وقتاً كافياً لهضم وإستيعاب ما هو موجود إلى أن يصبح الجديد قديماً في المستقبل ويتعداه الزمن وتستجد أمور أخرى وتشتد الحاجة للتغير فتعود الدورة من جديد ويأتي الحزب الذي مع التجديد إلى السلطة. وهكذا يتم تداول السلطة بين الأحزاب المحافظة والمجددة بالتناوب بصورة سلمية حسب الحاجة للتغيير أو البقاء على الموجود، بدون سفك دماء عملاً بالقول: Ballet instead of bullet. أي قصاصة ورقة بدلاً من الرصاص. فالمجتمع في الأنظمة الديمقراطية يسير على قدمين، قدم تتحرك إلى الأمام وأخرى ثابتة على الأرض للإستراحة!
 
وأفضل وصف لظاهرة الثورات جاء في كتاب (عصر القطيعة مع الماضي)، للمفكر الأمريكي بيتر ف دركر (Peter F. Drucker) فقال: "أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية تستدعي (إحداث) تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية".
 
وبناءاً على ما تقدم، نستنتج أن اللجوء إلى الثورة المسلحة في العراق، كان أمراً محتوماً وذلك لعدم سماح الحكم الملكي-السعيدي بإجراء التغييرات المطلوبة بالوسائل الديمقراطية السلمية.
 
ومن هنا نعرف أيضاً إن ثورة 14 تموز كانت ثورة حتمية، و من غير الممكن تجنبها في ظل الأوضاع السائدة آنذاك. والذي يقول إن الثورة قامت بها مجموعة من الضباط المغامرين بدوافع ذاتية بحتة، فإنما يدل على عدم إطلاعه على قوانين التطور وجهله بتاريخ العراق. وهذا لا ينكر وجود بعض الضباط المغامرين ضمن تنظيمات الضباط الأحرار بدوافع ذاتية في الحكم، ولكن نؤكد مرة أخرى أن هؤلاء لا يمكنهم تفجير ثورة، ما لم تكن الظروف الموضعية مهيأة لها.
 
الدستور (القانون الأساسي)
نعم كان في العهد الملكي دستور مدوَّنْ يصلح لأرقى المجتمعات المتحضرة والدول العريقة في الديمقراطية. ولعل أروع ما كان فيه هو مادته السادسة التي نصت على ما يلي: "لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون وإن اختلفوا في القومية والدين واللغة…". وتنص المادة السابعة: "الحرية الشخصية مصونة لجميع سكان العراق من التعرض والتدخل، ولا يجوز القبض على أحدهم أو توقيفه أو معاقبته، أو إجباره على تبديل مسكنه أو تعرضه لقيود أو إجباره على الخدمة في القوات المسلحة إلا بمقتضى القانون.
 
أما التعذيب ونفي العراقي إلى خارج المملكة العراقية فممنوع بتاتاً".
 
ولكن هذا الدستور من الناحية العملية كان مجمداً، وقد وضع على الرفوف العالية.
 
فمن المعروف أن النخبة الحاكمة كانت تحكم البلاد بدستورين. دستور ديمقراطي مدون غير معمول به. ودستور مجحف غير مدون وهو القانون الفعلي الذي كانت تسير عليه السلطة في حكم البلاد والعباد. وهذا الدستور غير المدون، فيه تمييز عرقي وطائفي، وإلغاء المعارضة الديمقراطية، وسحق حقوق الإنسان.
 
وقد قامت السلطة الملكية عام 1943 بتعديل الدستور الذي عزز من سلطات الملك خلافاً لقاعدة (مصون وغير مسؤول) التي كانت أساس الدستور الأول.
 
الإنتخابات البرلمانية
نعم كان النظام الملكي برلمانياً، ولكن بالإسم فقط، وذلك وسيلة لإخفاء الدكتاتورية في الواقع. وغالباً ما كان يفتضح أمره خاصة عندما يصل الوطنيون المعارضون إلى البرلمان عن طريق الإنتخابات، فتبادر السلطة الملكية لحل البرلمان وإغلاق الصحف، وفرض الأحكام العرفية، و تزييف الإنتخابات ليفوز أنصار السلطة بالتزكية. وقصة السيد عبد الكريم الأزري، النائب والوزير في العهد الملكي باتت معروفة كما ذكرها هو في مذكراته. خلاصتها انه استلم مكالمة تلفونية في يوم من أيام تشرين الأول سنة 1943 من قريبه السيد حسن الرفيعي قائلاً له: "أهنئك من صميم القلب، فسألته على ماذا تهنئني؟ فأجابني على فوزك في الإنتخابات النيابية!.. فقد ذكرت الإذاعة الصباحية إسمك بين الفائزين في الإنتخابات النيابية عن لواء العمارة (محافظة ميسان حالياً). قلت له: هل تمزح؟ قال لا والله لا أمزح. وقد تبين فيما بعد أن ما أنبأني به السيد الرفيعي كان صحيحاً، وإنني قد أنتخبت نائباً عن لواء العمارة وأنا لا أدري، فلم أراجع أحداً، لا من الناخبين ولا من المنتخبين الثانويين.. ولم أرشح نفسي... وهكذا نمت ليلتي وأصبحتُ في الصباح نائباً عن لواء العمارة".
 
وهنا يقول الجواهري:
وبأن أروح ضحىً وزيراً مثلما أصبحتُ عن أمر بليل نائبا.
ويذكر عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في كتابه (خوارق اللا شعور) قصة مشابهة لحالة السيد الأزري فيقول: "روى لي أحد الثقاة قصة تكاد لا تصدق لو رويت في بلد غير هذا البلد. يقول الراوي: إنه سمع ذات يوم، في موسم من مواسم الانتخابات الغابرة، بأن برقية هبطت على متصرف اللواء من بغداد تأمره بانتخاب شخص معين. وقد ذهب هو وجماعة معه لتهنئة الشخص المحظوظ، فقبل الشخص منهم التهنئة. هذا مع العلم أن يوم الانتخابات الرسمي لم يكن قد حان وقته، وأن الاستعداد للانتخابات كان قائماً على قدم وساق كما يقولون.". ويعلق الوردي على ذلك قائلاً: "إن نائباً يُعيًن في مجلس النواب على هذه الصورة لا يشعر طبعاً بأنه ممثل الشعب، والشعب كذلك لا يشعر بأن في الحكومة من ينطق باسمه ويدافع عنه حقاً.. على هذا المنوال تتسع الثغرة بين الشعب والحكومة وينشق الضمير والأمر لله الواحد القهار."
 
نتائج الإستهانة بالجماهير والديمقراطية
إن سياسة استهتار واستهانة السلطات في العهد الملكي بالجماهير والديمقراطية والدستور وتزييف الانتخابات البرلمانية واضطهاد الأحزاب المعارضة وقمع المظاهرات وقتل السجناء السياسيين وبؤس قطاعات واسعة من الشعب، رغم ادعاء السلطة بالديمقراطية، هي التي جعلت الجماهير العراقية تفقد ثقتها بالدستور والبرلمان والديمقراطية ومؤسساتها، واليأس من الإصلاح السياسي بالوسائل السلمية لانتفائها. وهذه السياسة هي التي فتحت الباب أمام العسكر لدخولهم السياسة من أوسع أبوابها، وجعلت قيادات الأحزاب الوطنية تفقد كل أمل في تحقيق الإصلاح السياسي بالوسائل السلمية ولم يبق أمامها أي خيار آخر سوى فرضه بالقوة. وقد اضطر العديد من السياسيين الوطنيين المخلصين الذين لا يمكن الشك في نزاهتهم وإخلاصهم للوطن مثل الزعيمين الوطنيين جعفر أبو التمن، وكامل الجادرجي، وغيرهما إلى الاعتماد على العسكر واللجوء إلى القوة لفرض الإصلاح السياسي كما حصل في انقلاب بكر صدقي عام 1936. وتكررت المشكلة ذاتها عام 1941، ثم في الخمسينات عندما اضطهدت السلطة السعيدية القوى الوطنية وحلت البرلمان عام 1954 كما مر بنا.
 
إن المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية هي التي تشكل القوة الدافعة وراء الثورات، خاصة عند انتفاء الوسائل السلمية  الديمقراطية لإحداث التغيير المطلوب. ولكن ومع الأسف الشديد، يرفض البعض الأخذ بهذا التحليل العلمي للثورات والهزات الاجتماعية تاركين المجال لعواطفهم ومخيلتهم في تفسير الأحداث الكبرى كثورة 14 تموز العراقية تفسيراً عاطفياً.
 
ومن كل ما تقدم، نفهم أن النظام الملكي قد توقف عن التطور السلمي التدريجي واستنفد دوره وصار عقبة أمام التطور، وبعمله ذاك قد بدأ يزرع بذور الثورة ضد نفسه، وأصبح تغييره بالعنف مبرراً وخاصة عند الإقتدار عليه. أما ما حصل فيما بعد، ومجيء نظام صدام حسين، فهذا ليس بالأمر الغريب في التاريخ. إذ كما قال كارل ماركس: "الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكن النتائج لن تكون كما يرغبون.
 
دور الدستور والبرلمان في العهد الملكي
نعم كان في العهد الملكي دستور وانتخابات وبرلمان ومعارضة. ولكن العبرة ليست بوجود دستور وبرلمان فحسب، بل المهم هو دور هذا الدستور والبرلمان في الحكم وحياة الشعب. ويتفق أغلب الذين كتبوا في تاريخ العراق الحديث، أن الحكومة هي التي كانت تسيطر على البرلمان وتقرر مصيره وليس العكس. لقد كان الدستور حبراً على ورق والبرلمان جسماً بلا روح. لذلك وصف الشاعر معروف الرصافي محذراً حكومات ذلك العهد بسوء
العاقبة بقصيدة نقتطف منها:
عَلَمٌ ودستور ومجلس أمـــــــة كل عن المعنى الصحيح محرَّفُ
إن دام هذا في البــــــلاد فإنه بدوامـــــه لسيوفنا مسترعف
كم من نواصِ للعـدا سنجزهـا ولحىً بأيــد الثائرين ستنتفُ
 
لقد كتب العديد من المهتمين في تاريخ العراق الحديث عن تلك الفترة ومنهم حسين جميل، والجواهري، وعلي الوردي، ومجيد خدوري، وعبد الرزاق الحسني وآخرون، جميعهم يؤكدون على استهتار سلطات العهد الملكي وخاصة نوري السعيد وعبد الإله، بالديمقراطية وانتهاكهما للدستور والبرلمان وتزييف الانتخابات، واستخفافهما بالأحزاب السياسية والجماهير الشعبية. وفي هذا الخصوص نعود إلى أستاذ علم الإجتماع الدكتور علي الوردي فيقول: "إن جلاوزة العراق، ومن لف لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين ينظرون إلى الشعب الفقير نظرة ملؤها الإحتقار والإستصغار. ولعلهم لا يشعرون بهذا الإحتقار الذي يكنّونه لأبناء الشعب، إذ هو كامن أغوار نفوسهم، اللاشعور من أنفسهم، فهم ينساقون به وقد لا يعرفون مأتاه أحياناً." .
 
كما ويصف الجواهري وضع البرلمان آنذاك وكان نائباً فيه فيقول: لقد وقف نوري السعيد ذات يوم وقد ضاق صدره من هذا المعارض أو ذاك ليقول بالحرف الواحد: " هل بالإمكان أناشدكم الله، أن يخرج أحدنا مهما كانت منزلته في البلاد، ومهما كانت خدماته في الدولة، ما لم تأت الحكومة وترشحه؟ فأنا أراهن كل شخص يدعي بمركزه ووطنيته، فليستقيل الآن ويخرج، ونعيد الانتخاب، ولا ندخله في قائمة الحكومة، ونرى هل هذا النائب الرفيع المنزلة الذي وراءه ما وراءه من المؤيدين يستطيع أن يخرج نائباً" . وأكد هذه الرواية كل من حسين جميل ومجيد خدوري في مؤلفاتهما. ويضيف الجواهري: "… هكذا كانت الأوضاع في العراق وهكذا كانت الديمقراطية. ولا شك إن أوضاعاً كهذه لا بد أن تخلق حالة من الكبت الجماهيري الذي يبحث عن مفجر" .
 
حرية المعارضة السياسية
لم تكن المعارضة السياسية حرة في العهد الملكي كما يدعي البعض في محاولة منهم لتأهيل العهد الملكي وتسويقه. إذ كانت أحزاب المعارضة محظوراً عليها النشاط العلني وخاصة الحزب الشيوعي، الذي تم سجن وتعذيب أعضائه وإعدام عدد من قادته بسبب المعتقد السياسي. وقد سنت السلطة قانوناً يمنع به نشاط الحزب. واتخذت تهمة الشيوعية ذريعة وسيفاً مسلطاً على رقاب الأحزاب الديمقراطية وحتى القومية وضد كل من يتجرأ في إعلان معارضته للسلطة.
 
ولم يسلم من السجن والاضطهاد في العهد الملكي حتى القوميون والديمقراطيون الليبراليون مثل كامل الجادرجي وآخرون. كما تم إسقاط الجنسية العراقية عن مناضلين عراقيين من جميع أحزاب المعارضة بمن فيهم القوميين بسبب معارضتهم للسلطة.
 
ويقول المؤرخ مجيد خدوري في هذا الخصوص: "لقد تم القضاء على حرية التعبير، فأُسكِتَ السياسيون والكتاب والمواطنون الواعون بإجراءات تعسفية لم يسبق لها مثيل، وغصت السجون ومعسكرات الإعتقال بأناس مختلفي الإتجاهات.. من شيوعيين إلى ليبرالين إلى إشتراكيين إلى ناصريين إلى كرد قوميين إلى ساخطين على الوضع بصورة عامة ووضع جانب منهم تحت الرقابة بإبعادهم عن مسقط رأسهم وشمل القمع كل قطاع.. "
 
القمع والعنف السياسي
لم تكن هناك حرية التظاهر أو الإحتجاج ضد السلطة. وقد قمعت مظاهرات سلمية قامت بها الجماهير احتجاًجاً على بعض إجراءات السلطة أو المعاهدات الجائرة المخلة بالسيادة الوطنية، حيث قمعت بشراسة وثبة كانون الثاني 1948، وانتفاضة 1952 وانتفاضة 1956 بالحديد والنار وإعلان الأحكام العرفية وزج الوطنيين بالسجون.
 
كذلك أغرقت السلطة الملكية إضرابات عمال النفط في كركوك (مجزرة كاورباغي)عام 1946 وفي حديثة 1947، وفي البصرة 1953 بدماء العمال. وأقيمت المذابح للسجناء السياسيين العزل من السلاح في بغداد والكوت في حمامات دم فظيعة، كما حصل ذلك لانتفاضة فلاحي آل أزيرج ودزه ئي والديوانية وغيرها. وإعدام قيادة الحزب الشيوعي عام 1949.
 
ومن هنا نعرف أن العهد الملكي-السعيدي هو الذي بدأ باستخدام العنف السياسي ضد المعارضة، وضرب الجماهير و اصبح العنف السياسي الدموي عرفاً وتقليداً في السياسة العراقية لدى الحكومات اللاحقة في العهد الجمهوري.
 
إرهاب الجماهير
كانت السلطة الملكية غير مهتمة بسمعتها بين الشعب العراقي وغير مبالية في تحسين هذه السمعة، بل كانت في أحيان كثيرة تستخدم القبضة الحديدية في مواجهة الجماهير وضربها وإعلان جبروتها ضد الناس من أجل إرهابهم. وهناك أمثلة عديدة على ذلك. منها استخدام الجيش في ضرب العشائر العربية في الفرات الأوسط ومناطق أخرى.
 
كذلك ارتكاب مجزرة ضد الآشوريين في تموز 1933.
 
وكان بالإمكان تفادي العنف في جميع هذه الحالات لو شاءت السلطة إستخدام سياسة التفاوض والتفاهم لحل تلك المشاكل.
 
والمثال التالي يكشف بدون أدنى شك عن سياسة السلطة في إختلاق المناسبات للتحرش بالناس ورغبتها في ارتكاب المجازر ضدهم لا لشيء إلا من أجل إرعابهم دون أن تدرك ما لهذه السياسة من عواقب وخيمة عليها وعلى الشعب في المستقبل.
 
المثال المقصود هو:
فاجعة الكاظمية: قامت قوات الحكومة بمجزرة في الكاظمية (شمال بغداد) يوم 23/3/1935 عندما قررت إقامة مبنى للبريد على مقبرة الكاظمية، فاستفزت عواطف الأهالي الذين هرعوا إلى قبور موتاهم معتصمين فيها، رافضين إقامة البناء فوق المقبرة، فأرسل وزير الداخلية رشيد عالي الكيلاني يوم 23/3/1935 مفرزة مسلحة من الشرطة بقيادة وجيه يونس الموصلي، على سيارات مصفحة، ففتحت النيران فوراً على هؤلاء المعتصمين.
 
وعاد وجيه يونس إلى مقره وصدر بيان رسمي من وزارة الداخلية حول الحادث.
 
وقد قارب عدد القتلى الثلاثين، فقد دفن معظمهم في الظلام بصورة سرية خشية الملاحقات الحكومية لعائلاتهم. وجرح ثمانون شخصاً. ويقول السيد عبد الرزاق الحسني أن الحكومة قد سهلت الدفن السري لأنه ليس من مصلحتها الجهر بالعدد الحقيقي للقتلى.
 
فهل كانت هناك شحة أراضي في الكاظمية ولا يمكن بناء دائرة بريد إلا في مقبرة؟ ألم يكن ذلك بدوافع طائفية لاستفزاز مشاعر الأهالي من أجل التحرش بهم وإرهابهم وارتكاب المجازر بحقهم عن قصد بحجة الإعمار؟ إذن ما الفرق بين هذه السياسة وسياسة صدام حسين فيما بعد؟
 
ومن هنا نعرف أن السلطة في العهد الملكي، كانت هي التي تبدأ في استخدام العنف السياسي ليس ضد الأحزاب السياسية المعارضة فحسب، بل وضد الأهالي العزل أيضاً، واصبح العنف السياسي الدموي عرفاً وتقليداً في السياسة العراقية لدى الحكومات اللاحقة في العهد الجمهوري. إن سلطة كهذه، كانت بالتأكيد تعمل على خلق هوة سحيقة بينها وبين الشعب وتهيئ دون وعي لحصول إنفجار بركاني هائل.
 
ومن المفيد بهذه المناسبة الإشارة إلى ماذكره بول جونسن عام 1957، وهو صحفي بريطاني كان يحسب على الجناح اليساري في حزب العمال المعارض، كتب في كتابه (رحلة إلى الفوضى): "إن بغداد ، وبمعنى سلبي، هي الأهم في المنطقة. فإذا سقطت في أيدي الوطنيين، فلن تستطيع أية قوة أن تنقذ النظام {الأمني في الشرق الأوسط}، حتى الولايات المتحدة". ثم تساءل: "هل تسقط بغداد؟" ويقول عن نوري السعيد: "نوري السعيد، وإن كان ما يزال حياً، فهو أشبه بالمخلفات التاريخية البالية." .
 
التمييز العرقي والطائفي
لو تأملنا ملياً لرأينا إن أغلب سياسات صدام حسين في التمييز العرقي والمذهبي، لها جذورها في العهد الملكي الذي مورست خلاله هذه السياسة ببشاعة، وتشهد بذلك مذكرة الملك فيصل الأول نفسه يعترف في الفقرة الثالثة منها: " .. بأن العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسَسَة على أنقاض الحكم العثماني وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً.. وأكثرية شيعية منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة. إلا إن الإضطهادات كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الإشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين"
ويخاطب الملك النخبة السياسية قائلاً: "أخشى أن أتهم بالمبالغة، لكنه من واجبي أن لا أدع شيئاً يخامرني، خاصة لعلمي بأنه سوف لا يقرأ هذا إلا نفر قليل، ممن يعلمون وجائبهم ومسؤولياتهم. ولا أرغب أن أبرر موقف الأكثرية الجاهلة من الشيعة (كذا)، وأنقل ما سمعته ألوف المرات، وسمعه غيري من الذين يلقون في أذهان أولئك المساكين البسطاء من الأقوال التي تهيجهم، وتثير ضغائنهم، إن الضرائب على الشيعي، والموت على الشيعي، والمناصب للسني، ما الذي هو للشيعي؟ حتى أيامه الدينية لا إعتبار لها، ويضربون الأمثلة على ذلك، مما لا لزوم لذكرها"
 
قانون الجنسية العراقية
كان قانون الجنسية العراقية الذي تم تشريعه في عام 1925 مجحفاً بحق الأغلبية الساحقة من الشيعة العرب والتركمان والأكراد الفيليين. لقد تناوبت على احتلال العراق دولتان عظميان في المنطقة آنذاك وهما: الدولة العثمانية التركية السنية، والدولة الصفوية الفارسية الشيعية. وبذلك فكان الناس يحملون إما جنسية هذه الدولة المحتلة أو تلك. ولكن بعد إحتلال العراق من قبل الإنكليز خلال الحرب العالمية الأولى، وتأسيس الدولة العراقية كنتيجة لثورة العشرين، قررت النخبة الحاكمة اعتبار حملة الجنسية العثمانية (المحتلين الأتراك السابقين) هم عراقيون أصليون، وحملة جنسية المحتل الإيراني من التبعية الفارسية. علماً بأن أغلب هؤلاء كانوا من العراقيين يلجئون إلى الجنسية الإيرانية من أجل تجنب الخدمة العسكرية في الجيش التركي.لا بل تجاوز الأمر حملة الجنسية الفارسية، واستغل القانون ضد الشيعة من العرب والأكراد الفيلية والتركمان.
 
وعلى هذا القانون اعتمد صدام حسين في تهجير أكثر من نصف مليون عراقي بحجة التبعية الإيرانية وإسقاط الجنسية عنهم. والجدير بالذكر أن النظام الملكي هو الذي دشَّن سياسة التهجير وإسقاط الجنسية عندما رحّل الشيخ مهدي الخالصي وعائلته، وأسقطتْ عنهم الجنسية بتهمة التبعية الإيرانية وهم عرب اقحاح من قبيلة بني أسد العربية العريقة. كذلك نفي عدد من قيادة الحزب الشيوعي العراقي وحزب الإستقلال وإسقاط الجنسية عنهم. فالتمييز الطائفي وإسقاط الجنسية كان علناً وصراحة في العهد الملكي خلافاً للدستور، ولو بشكل أخف مما في عهد صدام حسين غير القابل للمقارنة.
 
القضية الكردية
أما الإدعاء بعدم وجود تمييز عرقي ضد الأكراد في العهد الملكي، وأن المشكلة الكردية قد خلقها "إنقلاب 14 تموز" على حد تعبيرهم أنصار الملكية، فهو الآخر يفنده التاريخ القريب وهناك شهود أحياء. لقد حرم الشعب الكردي من حقوقه القومية المشروعة ولما طالب بهذه الحقوق ولم يستجب لها أضطر أن يثور. وقمعت الثورة الكردية بقيادة الشيخ محمود الحفيد في الثلاثينات، ومصطفى البارزاني بين عامي 1943-1945 وتم تشريد ونفي البارزانيين وكرد آخرين في الأربعينات إلى روسيا ولم يعودوا إلى وطنهم إلا بعد ثورة 14 تموز 1958. (نظراً لأهمية الموضوع، سنعود إليه في فصل خاص بالحركة الكردية لاحقاً).
 
السياسة الإقتصادية والطبقات الإجتماعية
كان النظام الملكي قائماً على الإقطاع ومعتمداً عليه. وكان الشيوخ الإقطاعيون مهيمنين على الإقتصاد من خلال هيمنتهم على البرلمان والحكومة. يقول الدكتور منذر الشاوي في مقدمة لكتاب (نظام برلماني ممسوخ قاد إلى ديكتاتورية ملكية): "إن البرجوازية العراقية بدأت تنمو بشكل محسوس، إلا إن هذا النمو البرجوازي صادف وجود طبقة إقطاعية قوية، فلم تستطع الطبقة البرجوازية في ظل النظام الملكي من تنحيتها ولم تحدث بينهما المصالحة التي تمت في العديد من دول أوربا الغربية بين طبقة ملاك الأراضي والطبقة البرجوازية."
 
وقد بلغ ظلم الإقطاع حداً لا يطاق. فيقول الدكتور عزيز الحاج: " فيما كان الفلاح العراقي يتضور جوعاً، وينسحق ديوناً،…أهدى أحد كبار الإقطاع في العمارة سيفاً ذهبياً لعسكري بريطاني، وفي نفس الوقت كان زملاؤه في محافظة الكوت (واسط) يجوِّعون كلابهم الضخمة بانتظار الانقضاض في اليوم التالي على الفلاحين الذين عجزوا عن تسديد ديونهم أو جازفوا بالهروب من جحيم الأسياد. وكان دخل الفلاح الممتاز لا يتجاوز في السنة 5 دنانير قبل الحرب العالمية الثانية، وثلاثين ديناراً إثناءها، في حين كان إيراد بعض الشيوخ من غلة واحدة قد يتجاوز المائة ألف دينار. وكان الإقطاعي يفرض على الفلاح عشرات الأشكال من الضرائب والرسوم، ويستهتر بعائلته، فضلاً عن ظلم التجار ونهبها بالربا الفاحش."
 
فالجماهير المسحوقة وخاصة سكان الأرياف الذين كانوا يشكلون حوالي 70 بالمائة من الشعب، كانوا يعيشون حياة بائسة ضحية الفقر والجهل والمرض، بسبب ظلم واضطهاد شيوخ الإقطاع لهم، مما أرغم الملايين منهم على ترك الفلاحة والهجرة إلى بغداد والمدن العراقية الأخرى مكونين أوراماً سكانية مرعبة على أطراف المدن.
 
معيشية الجماهير في العهد الملكي
يدعي دعاة عودة الملكية بأن الشعب العراقي كان يعيش في رخاء في العهد الملكي. ولإلقاء اللوم على ثورة تموز وعدم ضرورتها، وما حصل فيما بعد، يستشهد هذا البعض بحكاية مشكوك بصحتها، ولكن لنفترض أنها صحيحة، خاصة وقد رواها المؤرخ العراقي الراحل الأستاذ مير بصري في كتابه (أعلام السياسة في العراق الحديث)، عن ثورة 14 تموز، وقد راح يرددها البعض بمناسبة وغيرها كدليل قاطع على عدم وجود مبرر للثورة، وأن الناس كانوا يعيشون في بحبوحة من العيش.
 
الحكاية مفادها أن أحد المهندسين العراقيين في بغداد دعا زميلاً روسياً إلى داره لتناول الطعام (أيام ثورة 14 تموز). فرأى الروسي السيارة الأمريكية الضخمة واقفة عند الباب والثلاجة والمبردة الكهربائية، وسائر وسائل الترف والراحة في داخل الدار. وجيء بالطعام فإذا به وافر شهي على عادة العراقيين في تكريم ضيوفهم. أما الويسكي والبيرة والشراب والكوكاكولا فحدث عن البحر ولا حرج. وتستمر الحكاية " … لم يصدق الخبير الروسي عينيه فقال لصاحبه: هل تعطيكم الحكومة كل هذه الأشياء من سيارة ومبردة وغيرها؟ فأجاب المهندس العراقي بأن الحكومة: "تمنحنا راتباً شهرياً، ولكن هذه الأشياء كلها لنا، والدار ملكنا…الخ. فلم يتمالك الروسي نفسه أن قال: فلماذا ثرتم إذن؟
 
لقد فات مؤرخنا أن المترفين من أصحاب الفيلات والسيارات الإمريكية الفخمة ليسوا هم الذين يقومون بالثورات أو سبباً لها، ولن تقوم الثورات من أجلهم. فهؤلاء عادة يخاصمونها ويناهضون أي تغيير وذلك خوفاً على مصالحهم وامتيازاتهم. إن القوى المحركة للثورات ودوافعها الأساسية هي الجماهير المضطَهَدة الجائعة والمحرومة من أبسط حقوق المواطنة وليس المهندس صاحب البيت المريح والسيارة الأمريكية الفارهة.
 
كم كانت نسبة العراقيين في العهد الملكي الذين كانوا يعيشون مثل صاحبنا المهندس مالك البيت المريح والسيارة الأمريكية الفارهة؟ إن الأغلبية العظمى من الشعب أي 70% منهم كانوا يعيشون في أكواخ بائسة في الأرياف وعلى أطراف المدن وفي حالة بؤس رهيب.
 
يؤكد عالم الاجتماع علي الوردي أن معاناة الجماهير من سكان "خلف السدة" في بغداد وغيرها، هي السبب الرئيسي لتفجير الثورات وسفك الدماء وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في العراق، ولا يمكن إيقاف الثورات والهزات الاجتماعية العنيفة، طالما وجدت هذه الأكواخ حتى ينال هؤلاء حقوقهم في العيش اللائق بكرامة الإنسان، وإلا فهناك المزيد من سفك الدماء. وهذا بالضبط ما كان يصرح به قائد الثورة، الزعيم عبد الكريم قاسم عندما قال مرة إن من أهداف الثورة رفع مستوى الفقراء المعيشي وليس إفقار الأغنياء. فتهكم عليه السياسيون المحترفون.
 
السياسة الخارجية في العهد الملكي
لم تكن السياسة الخارجية بأي حال من الأحوال في صالح الشعب العراقي والشعوب العربية والإقليمية والعالم. فقد رُبِط العراق في معاهدات سياسية وأحلاف عسكرية تضر بالعراق والمنطقة والسلام العالمي حسب مفاهيم ذلك الوقت وفترة الحرب الباردة. وأبسط مثال على ذلك هو أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حيث كانت السلطة الملكية منحازة إلى قوى العدوان متحدية بذلك مشاعر الجماهير الوطنية والقومية، ذلك الموقف المشين الذي ساهم كثيراً في التعجيل في إسقاط النظام الملكي.
 
كان موقف نوري سعيد مؤيداً ومشجعاً للعدوان على مصر، حيث تبيَّن فيما بعد، أنه في ليلة 26 تموز 1956، كان أنتوني إيدن، رئيس وزراء بريطانيا، يقيم مأدبة عشاء على شرف الملك فيصل الثاني الذي كان يزور لندن. وقُبَيْل نهاية العشاء دخل أحد العسكريين وسلم إيدن قصاصة ورقة، ولما قرأها أبلغ ضيوفه أن عبد الناصر أعلن تأميم قناة السويس، ولما طلب مشورة نوري السعيد ورأيه، أجابه السعيد: "لم يبق أمامكم سوى سبيل واحد للعمل و هو: اضربوه الآن واضربوه بشدة، وإلا سيفوت الأوان".
 
ضياع الفرصة التاريخية
حقاً لقد كانت أمام حكام العهد الملكي فرصة ذهبية فريدة من نوعها في تاريخ العراق الحديث، لترسيخ قيم الديمقراطية لو توفرت لديهم النوايا الحسنة، وأدركوا أهمية الاستمرار في التطور التدريجي السلمي وتربية المجتمع العراقي على الديمقراطية، واحترام نتائج الانتخابات البرلمانية، لما كانت هناك حاجة لثورة 14 تموز 1958، ولما مر العراق بهذه الهزات والأزمات العنيفة، وسلسلة الكوارث المتواصلة. وخير مثال للمقارنة، هو الأردن الذي كانت تشبه ظروفه إلى حد ما ظروف العراق، ولكنه نجى من هذه الهزات، لأنه لم يحصل فيه القمع السياسي كما حصل في العراق الملكي، ولم يظهر في الأردن شخص يمقت الجماهير والديمقراطية كنوري السعيد.
 
يقول الجواهري عن نوري السعيد والوضع قبل الثورة: "إن الفترات الحرجة التي سبقت الثورة… كان نوري السعيد خلالها يهيمن على حياة البلاد السياسية بشكل غير مسبوق حتى في الفترات القليلة التي كان لا يؤلف فيها هذه الوزارة أو تلك.. إنه خلق اللعنة الموروثة، التي أعجزت خلفاءه عن إتباع سياسة خاصة بهم. وكان حكم (نوري) استبدادياً قضى خلاله على كل نشاط سياسي وهو يعتمد على دعم الجيش وعلى كفاءة إجراءات الأمن مقللاً من شأن السخط الشعبي."
 
مطالبة الشعب بتحمل الظلم
يعتقد البعض أنه وإن كان العهد الملكي لم يكن مثالياً، ولكن كان على الجماهير والأحزاب السياسية الصبر والتريث، فنوري السعيد لا بد وأن يموت في يوم من الأيام ليحل بعده الربيع!. أولاً لم يطالب أحد من السلطة الملكية أن تكون مثالية، بل كل ما كان مطلوباً منها أن تخفف من سياسة القمع، وأن تتبنى سياسة التفاهم والإقناع والمشاركة، بدلاً من القمع والإضطهاد، وإن كان هذا القمع أقل بكثير مما في عهد صدام حسين، ولكن من هو هذا المنجم العالم بالغيب، الذي يستطيع أن يتنبأ أنه سيأتي في المستقبل نظام دموي كالنظام البعثي الصدامي؟ ومن بإمكانه أن يثبت لنا أنه لولا ثورة 14 تموز لما حصلت ثورة أخرى أو إنقلاب عسكري آخر وبالتالي يؤدي إلى ظهور هذا النظام الدموي؟ إذ تشير عدة دراسات إلى إنه كانت هناك مجموعات أخرى من تنظيمات الضباط المسَيَّسين من البعثيين وغير البعثيين في العهد الملكي، تخطط للإنقلاب، (راجع هاني الفكيكي، أوكار الهزيمة).
 
أما أهداف الأحزاب الممثلة في جبهة الإتحاد الوطني في آذار 1957 فلم تكن تعجيزية أو مستحيلة، إذ كانت تتلخص فيما يلي :
1-تنحية وزارة نوري السعيد وحل المجلس النيابي.
2-الخروج من حلف بغداد وتوحيد سياسة العراق مع سياسة البلاد العربية المتحررة.
3-مقاومة التدخل الإستعماري بشتى أشكاله ومصادره، وانتهاج سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي.
4-إطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية.
5-إلغاء الإدارة العرفية وإطلاق سراح السجناء والمعتقلين والموقوفين السياسيين وإعادة المدرسين والموظفين والمستخدمين والطلاب المفصولين لأسباب سياسية.
 
لا يمكن مطالبة الشعب بالسكوت على الظلم وعدم الثورة خوفاً من احتمال أن يكون البديل أسوأ كما تبيّن فيما بعد، لأن الأمور مقرونة بأوقاتها، وهذا الاحتمال موجود دائماً. فبالنسبة لنظام صدام حسين مثلاً، هل من المنطق السكوت عنه لأن هناك إحتمال الأسوأ؟
إن هذا الكلام يفنده منطق التاريخ، فيناقش الراحل علي الوردي في كتابه (منطق إبن خلدون). وإبن خلدون هذا كان لا يعترف إلا بالثورات الناجحة. ويحاجج الوردي موقف إبن خلدون قائلاً: "لو اتبع الثوار هذا المبدأ الخلدوني منذ قديم الزمان لما ظهر في الدنيا أنبياء ولا زعماء ولا مصلحون، ولصار الناس كالأغنام يخضعون لكل من يسيطر عليهم بالقوة، حيث يمسي المجتمع بهم جامداً يسير على وتيرة واحدة جيلاً بعد جيل."
ويضيف: "وقد غفل إبن خلدون عن ناحية أخرى من تاريخ الثورات. فالثورة قد ينتهي أمرها إلى الفشل ولكنها على الرغم من ذلك قد تكون ذات أثر اجتماعي نافع. إنها قد تحرك الرأي العام وتفتح أذهان الناس إلى أمر ربما كانوا غافلين عنه. وكثيراً ما تكون الثورات الفاشلة تمهيداً للثورة الناجحة التي تأتي بعدها. حيث تكون كل واحدة منها بمثابة خطوة لتمهيد الطريق نحو الثورة الأخيرة."
 
خلاصة القول: ما حصل يوم 14 تموز كان ثورة وطنية أصيلة وحتمية فرضتها ظروف موضوعية وتاريخية ملحة. وكانت الثورة حصيلة نضال جماهير شعبنا منذ ثورة العشرين، ومروراً بالإنتفاضات الشعبية، والوثبات الوطنية، لتحقيق الاستقلال السياسي الكامل، والسيادة الوطنية، والديمقراطية. وكانت السلطة الملكية ديمقراطية في المظهر، وديكتاتورية في الجوهر بواجهة برلمانية مزيفة، وقد استنفد دورها وصارت عقبة كأداء أمام التطور الحتمي بحكم التاريخ، وقضت على أي أمل في إجراء التغيير المطلوب بالطرق السلمية. لذلك لم يبق أمام قيادات القوى الوطنية والأحزاب السياسية وتنظيمات الضباط الأحرار، سوى اللجوء إلى القوة، خاصة وقد توفرت لها الشروط الموضوعية والعوامل الذاتية لتحقيق التغيير التاريخي المطلوب بالثورة المسلحة.