تأليف – روماني صبري 

منذ تفشى فيروس كورونا التاجي المستجد "كوفيد-19"، أجبرت الإجراءات الوقائية الصارمة الشاب يوسف على التزام المنزل ... انه الآن لا يجرؤ على الخروج إلى الشارع إلا في الساعات التي تسمح بذلك ... يضجر كثيرا ويتذكر كم استهزأ بكثير من المارة في قرارة نفسه قبل أن يعود إلى المنزل عندما كان يعيش بكيفية طبيعية، يركع على ركبتيه في الوقت الحالي بين الحين والحين يصلي، بعدها يقبل والدته المتعبة، فتذرف أمامه الدمع وتقول في كثير من الأحيان "متى سيقتل الله كورونا ؟!.. إن عرفني الموت سيصلون علي روحي بحضور عدد قليل من الأهل والأقارب، وهذا مريعا وسيصيب الإحياء بأشد الضجر والفزع"...الشاب الذي كان يعمل من الصباح حتى المساء بات يقول لكم هذا متعبا، ويستطرد : على أي حال سيزيل الله الغمة في النهاية، نعم أنا واسع الذكاء أقول هذا بحر إرادتي من اجل روحي الحزينة وفقراء العالم، طلاب الجامعات، جامعي القمامة، المقبلين على الزواج، محبي العلوم، مدمني التدين، الذين يحتالون على غيرهم من اجل متعة السخرية، محبي القراءة والتعلم، العاهرات، رجال الدين، العفيفات، كل من ولد فقيرا، وكل من تربى في كنف عائلة واسعة الثراء، سريعي الغضب، محبي الألعاب الصبيانية،  الجميلة التي سأتزوجها ذات يوما أن بقيت حيا." 
 
وقف يوسف في شرفته خجولا، نظيف الثياب، وأبصر أحد المارة رجل فارع الطول ينتمي لهؤلاء غريبي الأطوار الذين يصرون على ألا تظهر عليهم سعادة الحياة، فيقول في نفسه :" كنت من ضمن الملايين حول العالم، الذين رأوا في رجال الدين فقط  الحقائق بما فيها العلمية، وطالما يرفعون الصلاة فلا وباء أو خطرا سيعصف بالعالم، وكأنهم بمحض إرادتهم عمدوا تمرير أنه حتى الإنسان ألاتكالي المؤمن الذي لا يستطيع صب فنجان من الشاي لنفسه ستظل تعرفه السلامة، ما جعل هؤلاء أيضا يخرفون في الوقت الحالي بكلام غير معقول، فالذي قال أن "فيروس كورونا" التاجي المستجد غضبا من الله على الصين كونها قمعت أقلية "الايغور" المسلمة، اعتبر الوباء ابتلاء من الله على العالم أجمع كما رحت اصبر نفسي منذ يومان، كون الوباء تفشى في الشرق الأوسط."
 
منذ يوم مضى اخبر جاره العجوز زوجته، بعد دقيقتين من الجنس السريع :" أرى أن هذه الأفكار باتت إثم كبيرا وخطيرا في الحقيقة، تتكبد مشقة تبعاته الشعوب دائما، هذا ما يقوله التاريخ لاسيما في بلاد الشرق، فالإنسان الذي يضع قدما فوق أخرى معتقدا أن الله ميزه دون غيره لأنه يصوم ويصلي وفقا لمعتقده يواجه كارثة... ثمة إصرار بوضع الله في صورة الإله اللي عنده (خيار وفقوس) .. في الحقيقة جميع البشر قريبون من دائرة الخطر والأمراض والتجارب، ربما يتحسر إنسان على نفسه ذات يوما (ربما)، حيث ثمة الملايين يتمتعون "بجلد تخين"، حين يدرك استنادا على الكوارث والقتلى من كافة الأجناس والوباء القذر الذي لم يفرق بين أحد، لكم كان مخطئا وان الكيفية التي كان يعتمد عليها لتفسير ما يحدث من الواجب ألقاها في سلة المهملات.
 
ويستطرد يقول لهذه الشابة :" نعم الأقرب إلى الحكمة، هو الشعور بأننا لسنا مميزين عن غيرنا، وكاتب هذه السطور سيبدو طائشا لكثيرين بسبب ودون سبب، ولكن أليس من الاستهزاء بالنفس اعتبار أن قوانين الطبيعة ستتغير من أجلك ألا يشعر هذا الإنسان العاقل السوي بالاختناق ؟، وليس مرد هذا عدم الإيمان بالمعجزات، .. ذات يوما قتل شاب في حادث سير، أبصرت وقتها هذه الواقعة صرخت والدته تقول :" لكم تجنبت من المخاطر  الكثير وفي النهاية تموت في حادث سير ؟!، ثم اختصت الله :" أهذا ما اجنيه جراء دعواتي لك لتحميه دائما!"، فإذا بسيدة تشرع على الفور وتكتم فمها ببطن يدها، وراحت تقول لها " حرام هتكفري .. وحدي الله ربنا عاوزه هتقوليله لاء ؟!، بدلا من أن تخفف من آلامها أو تتركها لحالها هي التي بدت شديدة الحزن والوهن، ولا يعلم حجم فجيعتها إلا الله !،  يبدو إننا نعيش في دوامة جراء هذه الكيفية في التفكير.
 
لازال العجوز يغلي ويثور كلما تذكر معدة إحدى البرامج، حين غيبها الموت، حيث ضجت منصات التواصل بمنشورات الشماتة، كون الفتاة قررت الإلحاد قبل موتها، لم تقتصر التعليقات على الشماتة فقط، بل حمل بعضها الكثير من الوقاحة التي عكست دمامة أصحابها ومنها " أدفنت فين نروح نروح ننبش جثمانها ونحرقه في صفيحة زبالة، اعرف واحد ليه في النيكروفيليا (جماع الأموات)، ماتت بنزيف في المخ شابة عشان تبقى تلحد أهي راحت تتلسوع في النار"، على أي حال كل السلام والاحترام لروحها.
 
قرر يوسف استكمال القصة التي كان سيبصق علي صاحبها منذ سنوات أن رآه، بعدما قرأ بداية هذا الفصل " بالأمس نظرت إلى وجهي في المرآة، بصقت عليه باحتقار شديد، بعدما عدت من مستشفى سرطان الأطفال، كنت أقدم لهم هدايا الكريسماس وداخلي يحدث الله: يا إلهي الرحيم إنهم ضعفاء جدا وأغلبهم أنهكه المرض حتى جعلهم غير مهتمون بقصة الخلق العظيمة ربما ستشفيهم بعد يوم أو اثنين .. شهر أو ثلاث .. في النهاية ستشفيهم نحن نصلي من اجل ذلك... رغم ذلك يا الهي هم يعشقون التفاح والأطعمة اللذيذة!.. أنهم يحبونك يا الهي أتوسل إليك تتم شفاءهم .. قد رأيت الأم تحتضن طفلها المريض بين ذراعيها ولسانه قد بدأ بالنزيف، بعدما عض لسانه، فقال الطبيب لأمه الباكية إنه يحز في نفسه كثيرا ونحاول الخروج به من نفسه لكننا دائما ما نفشل، إنه عنيدا جدا مثل الموت! لم يتفوه الصغير بأي كلمة، تحرر من صدر أمه، سار بضع خطى ثم قفز إلى سريره وعضلات جسده كلها قد تشنجت... ساعدني ذلك الموقف على أن أتذكر هذين الشابين العربيين في المتجر، عندما تحدث الشاب السمين إلى صديقه قائلًا: يبدو أن أختي قد أغضبت الله كثيرا لتنتهي حياتها بهذا الشكل الدرامي، قد شاهدت البارحة رجل دين مغمور وهو يتحدث عن سوء حياة الآخرون عبر إحدى القنوات وتأثيرها على موتهم، أرعبني ذلك الفيديو حتى تمنيت أن يكون كل ذلك حلم، أنا أحب أختي للغاية." 
 
بعد التخرج والحصول على بكالوريوس الزراعة، عمل يوسف بشركة صناعات غذائية كبرى، كان صعب التحمل، قاس على العمال فقط حتى يستحيل سير للعمل للأفضل، ذات يوما صاح بأعلى صوته مختص عاملا :" تنفق الكثير من الأموال على التبغ .. أنت هالك لا محالة وكم جميل أن تتلقى كل هذا التوبيخ صامتا، كونك تدرك حجم جريمتك أيها المغفل"، وضع يوسف يده بجيب بنطاله واخرج محفظته، فتحها وتناول منها ورقة فئة الخمسون جنيها، واختص العامل :" خد هذه أعطيها لابنتك، وحين تقبض راتبك اشتري لها ثياب جديدة، هذه الطفلة كنزا بارك منزلك"، كان الرجل يشكره رغم ذلك، بعدما اخذ الورقة، وهو ما طفح بقلب يوسف الطمأنينة والسلام، بالحق كان في أشد الغبطة، صافحه العامل وشد على يده بحرارة مختصا إياه :" كل الشكر لك فأنت تنصحني وتساعدني سرا .. أدعو لك كثيرا حتى يمنحك الله زوجة صافية النفس خلوقة مثلك"، من الجميل تذكر هذه القصص في أيام الكوارث، ربما تذكرها ما جعل يوسف يضحك في شرفته، ربما تذكرها أيضا جعله يجهش بالبكاء على حين فجأة، ويفكر في الرجوع إلى الإنسان القديم الذي يبرر الكوارث، لا لا قد عدل عن قراره وراح يختلس  النظر إلى طفل في العاشرة من العمر، يلعب برفقة أبناء جيرانه في الوحل الذي نتج عن الأمطار، فإذا بوالدة الطفل تخرج من باب منزلها وتنهره بقولها :" هيا عد إلى الشقة ستصاب بنزلة برد وقد تنتقل إليك عدوى كورونا، لم تعد الأيام مناسبة للعب،  هيا من الأفضل للجميع أن تعود للمنزل، فرد عليها وقد أصابه الحنق والغضب الشديدان :" ملعونة نزلات البرد وليقتل الله هذا الفيروس القذر."  
 
"تمت"