منى أبوسنة
أصدر المشرع المصرى عدة قوانين لتجريم عملية ختان الإناث بدأت بقانون ١٩٩٦ وما تبع ذلك من تعديلات فى ٢٠٠٧ ثم ٢٠٠٨ من أجل تغليظ العقوبة على كل من يرتكب عملية ختان الإناث باعتبارها جناية.

وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت ظاهرة ختان البنات فى مصر مستمرة. ومنذ حادث الطفلة بدور التى ماتت على إثر إجراء عملية الختان لها فى عام ٢٠٠٧، والتى سلط الإعلام عليها الضوء وعلى إثرها صدر قانون ٢٠٠٨ لتغليظ العقوبة، بعدها خفتت الأضواء وساد الظلام، وفى الظلام ترتكب الجرائم دون رقيب ولا حسيب.

وفى مطلع عام ٢٠٢٠، فوجئنا بجريمة ختان جديدة راحت ضحيتها الطفلة ندى وفى نفس العام وتحديداً فى يوم ٤ يونيو ٢٠٢٠، اهتزت الدوائر الإعلامية بخبر جريمة جديدة ارتكبها أب من الصعيد متضامناً مع شريكه الطبيب فى ارتكاب جريمة ختان ثلاثية، وأعنى بذلك إجراء ختان على بنات هذا الرجل وعددهن ثلاث بعد تخديرهن وتقييد أرجلهن حتى لا يتحركن وهنا تدخلت الأم وأبلغت النائب العام بالجريمة. والنائب العام بدوره أصدر قراراً بالقبض على المجرمين الأب والطبيب.

والهدف من هذا المقال هو إعادة إلقاء الضوء على تلك الظاهرة العنيدة التى تتحدى القانون ونبدأ بتحليل الظاهرة.

فى تقديرى أن عادة الختان ليست قضية دينية ولا قانونية... بل أزمة ثقافية تحتاج إلى إعادة النظر فى فكر المجتمع وسلوكه.

فمن خصائص الشخصية المصرية التمسك بالقديم والحفاظ على العادات والممارسات الموروثة إلى حد التقديس، ويلزم من هذه السمة المميزة الخوف من التغيير إلى درجة تصل الى محاربة أى محاولة للتغيير، لأن التغيير يشترط نقد الماضى من أجل تجاوزه إلى مستقبل مغاير لهذا الماضى.


ومن هذه الزاوية فإن البنات الثلاث لن يكن الأخيرات اللائى يقدمهن الآباء والأمهات كقرابين لطقس بدائى تحول إلى عادة اجتماعية. والدليل على ذلك أن حادثتى الطفلة بدور 2007، والطفلات الثلاث 2020 هما الاستثناء الذى يؤكد القاعدة وذلك لأن الإعلام قد ألقى الضوء عليهما.

ونستنتج من ذلك أن ثمة أعدادا كبيرة من بنات مصر مازال يمارس عليهن جريمة الختان.

ولكن بدلا من أن يكشف الإعلام عن جذور الأوهام، وقع فى وهم آخر وهو أن ختان البنات قضية دينية ليس إلا، ومن ثم لجأ الإعلام إلى مفتى الديار المصرية لكى يعلن فتواه أن «ختان الإناث حرام» وتصور الإعلام أنه بتلك الفتوى قد تم اجتثاث عادة ختان البنات من جذورها، ومن جهة أخرى، لجأت بعض مؤسسات الدولة إلى سن القوانين التى تجرم تلك العادة وتعرض مرتكبيها لأشد العقوبات، توهماً من تلك المؤسسات أن القوانين الرادعة ستقضى على عادة ختان البنات.

وفى خضم تلك الأحداث، لم يلتفت أحد إلى أن الفتاوى الدينية والقوانين الحكومية كلها مشاهد متكررة على مدى عصور متواصلة، ونتيجتها أن الكثير من بنات مصر يمارس عليهن الختان، فهل يؤدى الحادث الأخير وفتوى للمفتى والقوانين الرادعة المبتكرة إلى تناقص الأعداد المتزايدة للبنات ضحايا الختان؟

الإجابة «لا»، لأن عادة الختان ليست قضية دينية ولا قضية قانونية، بل إنها قضية ثقافية، أو بالأدق، قضية ثقافية نسائية مرتبطة بوضع المرأة فى المجتمع المصرى من زاوية واحدة محددة، وهى «شرف البنت»، إذ إن ختان البنات، سواء فى الريف أو فى المدينة، مرتبط ارتباطا عضوياً بالعذرية، فعذرية البنت لا تكتمل إلا بختانها لأن البنت العذراء إذا لم تكن مختتنة فهى بالضرورة بنت غير شريفة، ومن شأن هذا أن تجلب العار والفضيحة لأسرتها، بينما عدم الختان أمر لا يمكن مداركته ويظل دليلاً على عدم عفة الفتاة فى نظر المجتمع.

هذا الاعتقاد الموروث إذن لا صلة له لا بالدين ولا بالشريعة من قريب أو بعيد. كما أن القوانين مهما بلغت من الشدة لن تردع ممارسى تلك العادة سواء كانت الداية قديما أو الطبيب حديثا أو كليهما معا.

والدليل على أن ختان البنات عادة مصرية موروثة لا صلة لها بالدين أن تلك العادة لا تمارس فى المجتمعات الإسلامية التى تطبق الشريعة، والمفارقة الكامنة فى ممارسة تلك العادة هى أن بعض الفتيات المختتنات قد يكن منفلتات، لكن كل هذا لا يدعو إلى قلق الأسرة إذا كانت تلك الممارسات تتم فى الخفاء ودون علم أحد من الجيران أو الأقارب، ولكن عندما تتزوج هؤلاء الفتيات المنفلتات فإنهن يحرصن على أن يكن عذراوات، سواء كانت عذريتهن طبيعية أو مصطنعة، ومن ثم تصبح عادة النفاق الاجتماعى جزءًا جوهريًا من الشخصية المصرية لأنها لازمة للحفاظ على وهم «شرف البنت».

وتعود جذور وهم عادة ختان البنات باعتبارها الوسيلة اللازمة والضرورية لاكتمال عذرية الفتاة ونقاء سمعتها الاجتماعية، إلى نظرة المجتمعات البدائية إلى الفتاة، ومن ثم إلى المرأة، باعتبارها عورة، أو بالأدق «عار» لأنها مجرد أداة جنسية للتناسل، حيث إن المجتمع يعتقد أن البنت ليس لها شرف مستقل بها، لأنها فاقدة للعقل والإرادة وأنها موضع لرغبات الرجل، وبناء عليه فالفتاة بحكم كونها أنثى، هى دائما موضع اتهام، سواء ارتكبت فعلا مشينا يجرم شرفها أو لم ترتكب، فهى متهمة بالضرورة، أو بالأدق متهمة بالقوة وليس بالفعل، على حد تعبير أرسطو، والدليل على ذلك أن ثمة أعدادا كبيرة من الفتيات اللاتى قتلن فى جرائم الشرف تبين أنهن عذراوات، وقديما حل المجتمع البدائى هذه المشكلة بوأد البنات بعد ولادتهن من أجل التخلص من العار الكامن فى هويتهن الأنثوية، أما اليوم فنحن نكتفى بالختان باعتباره رمزا على وأد البنات وما يسمى شرف البنت هو فى حقيقة الأمر وهم، حيث إن البنت لا شرف لها لأنها بطبيعتها فاقدة للوعى والإرادة طبقا لتصور المجتمع وحكمه على المرأة، فما يسمى شرف البنت هو فى حقيقة الأمر شرف الأسرة أو شرف القبيلة.

وهنا ثمة سؤلان، السؤال الأول: كيف يتخلص المصريون من هذا الوهم المترسب فى عقولهم عبر سنوات من الفكر الأسطورى الخرافى البدائی؟ والسؤال الثانى: هل يستطيع الإعلام المصرى، ومعه مؤسسات الدولة والمجتمع المدنى، اقتحام جذور الأوهام التى «تعشش» فى عقول الناس وتدفعهم دفعا إلى ممارسة عادة ختان البنات؟

ويترتب على هذين السؤالين سؤال ثالث مركب: أین دور المثقفين؟ وهل هم على استعداد لمواجهة مسؤوليتهم الثقافية لتناول تلك العادة اللاإنسانية والقضاء على جذورها فى أذهان الجماهير؟ ويلزم من ذلك السؤال سؤال آخر: هل النخبة المثقفة منشغلة بالصدام مع السلطة بدلا من الصدام مع التخلف، باعتبار أن عادة ختان الإناث تمثل وصمة من وصمات التخلف، أم لأنهم يشاركون فى ذلك التخلف لأنهم غير راغبين فى مواجهته أو ربما لأنهم يشاركون مرتكبى جريمة ختان البنات فى الرأى والاعتقاد بضرورة تلك العادة؟

فى محاولة للعثور على إجابة لهذا السؤال، نستعين برأى قامة كبيرة فى عالم الفكر والأدب هو الأديب والمفكر عباس محمود العقاد الذى احتفلت وزارة الثقافة به أكثر من مرة باعتباره رمزاً من رموز التنوير. يقول العقاد فى كتابه بعنوان (المرأة فى القرآن الكريم): «فالمرأة تستعصم بالاحتجاز الجنسى، لأن الطبيعة قد جعلتها جائزة للسباق المفضل من الذكور، فهى تنتظر حتى يسبقهم إليها من يستحقها فتلبيه تلبية يتساوى فيها الإكراه والاختيار». هذا بعض يسير من كل، يعبر عن رأى أحد رموز النخبة الثقافية فى مصر.......... وعجبى.
نقلا عن المصري اليوم