محمد حسين يونس
لم تحكم المسيحية البلاد منذ إنتشارها بعد القرن الأول الميلادى ..حتي اليوم .. بل اختفت المراحل الأولى من تاريخ الكنيسة ..فأصبحنا لا نعرف عنها شيئاً. .

.و حتي عندما كانت ( المسيحية ) تمثل دين الأغلبية بين السكان لم يتاح لها أن تمسك بصولجان الحكم وإتخاذ القرار ...

و مع ذلك فالمتتبع لمسيرة الأقباط .. يجد أنها مرتبطة عضويا بتاريخ الوطن لدرجة لا يمكن تصديقها ...

فأنت إن لم تدرس تاريخ الأقباط لن تستطيع أن تتعرف علي مصر خلال الألف سنة الميلادية الأولي عندما كانت قبطية الهوى .

سبب ذلك أن الكنيسة القبطية كانت الوصلة بين ما تبقي من مصر القديمة المندثرة ..و إمتداتها .. أورثت شعبها اللغة القبطية التي تكاد أن تكون ديموطيقية ..و حافظت علي الطقوس القديمة.. و الموسيقي و التراتيل .. و العادات في الميلاد و السبوع و الدفن و العزاء .. وإذا دققت أكثر تجد أنها تكاد أن تكون المنشيء الأول لأغلب التقاليد الكنسية المعروفة للمسيحيين .. من حيث الترتيب الهرمي لوظائف رجال الدين .. أو إسلوب إقامة الصلوات .. أو الترتيل الكنسي أو حتي الملابس و الإكسسوارات .. و بالخصوص إنشاء الأديرة و نظام الرهبنة .

بعد الإنشقاق بين الكنائس ( 1054 م)... الذى هو ليس موضوعنا اليوم .. طورت كل كنيسة إسلوبها في إدارة الحياة الروحية لشعبها .. إلا الكنيسة الأورثذكسية فقد تمسكت علي مر العصور بما أسسة البطاركة الأوائل .. بحيث يكاد الأمر لا يختلف اليوم عن بدايات القرن الثالث إلا قليلا .

الحديث عن تطور المسيحية علي أرض مصر .. أتركة لاصحابة .. و لكن يشدني في هذا اللتاريخ دائما سيرة رجلين كادا أن يحدثا تغييرا في مسار العقيدة .

((إكليمندس الإسكندري احد أبرز معلمي مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، ولد في منتصف القرن الثاني الميلادي (150 )..وتوفي بين عامي 211 و 215. أبرز ما ميز تعاليمه هو ربطه وتوحيده بين الفلسفة اليونانية واللاهوت المسيحي، فكانت كل كتاباته بشكل عام موجهة للعالم الهيليني والثقافة اليونانية)).
و الثاني هو ((أرجينيز ادمنتيوس - ارجن )) و هو الرجل الذى سأقدمة اليوم للقارىء

((تأثر إكليمندس بالفلسفة الهلنستية بدرجة أكبر من أي مفكر مسيحي آخر في عصره، وخاصةً أفلاطون والرواقية. و تشير أعماله السرية، التي لم يتبق إلا أجزاء منها، إلى أنه كان على دراية أيضًا بتعاليم باطنية وغنوصية يهودية ما قبل المسيحية. .. في أحد أعماله، جادل بأن الفلسفة اليونانية ترجع أصولها إلى غير الإغريق، وأن كلا من أفلاطون وفيثاغورس تم تعليمهم من قبل علماء مصريين.))

كتب ديورانت (( غير أننا نسمع فجأة في أواخر القرن الثاني عن مدرسة لتعليم أصول الدين بالسؤال والجواب قائمة في مدينة الإسكندرية قرنت المسيحية بالفلسفة اليونانية، وأخرجت للعالم أبوين من أعظم آباء الكنيسة هما كلمنت وأرجن. وكان كلاهما واسع الاطلاع على الآداب الوثنية، محباً لها على طريقته الخاصة. ولو أن الروح التي كانت تغمرهما سادت في ذلك الوقت لما كان لانفصال الثقافة القديمة عن المسيحية ما كان له من أثر مُتلف شديد)) .

قبل أن نبحث في فكر ( أرجن ) أود أن أشير إلي أنه يكاد أن يكون شبيها لإبن رشد و سابقا له في تغليب العقل علي النقل .. و ألإهتمام بالفلسفة اليونانية .. .. كل منهما لاقي حديثة .. ما لقاة .. من رفض و عنت و إستهجان و محاربة في حين أنه لو تطور أى منهما .. لتغيرت أمور عديدة .

((عندما بلغ أرجينيز ادمنتيوس (ارجن )السابعة عشرة من عمره عام (202) قُبض على والده بتهمة أنه مسيحي، وحُكم عليه بالإعدام. وأراد ابنه أن يشاركه في السجن وفي الاستشهاد، ولم تستطع أمه أن تمنعه من ذلك إلا بإخفاء ملابسه كلها، فأخذ يبعث إلى أبيه رسائل يشجعه فيها على احتمال مصيره؛ وقد جاء في إحدى هذه الرسائل: ((إحذر أن ترجع عن آرائك من أجلنا)). وأُعدم الوالد ووقع عبء كفالة الأم والأطفال الصغار على الشاب.

و هكذا بعث ما شاهده من استشهاد كثيرين من المسيحيين في نفس أرجن مزيداً من التقى والإيمان، فعمد إلى حياة الزهد والتقشف، وأكثر من الصوم، وأقلل من ساعات النوم، وافترش الأرض، ومشى حافياً، وعرض نفسه للبرد والعري، نسكا وزهدا و ورعا .

في عام 203 خلف (كلمنت) في رياسة المدرسة الأفريقية. ومع أنه لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من العمر إلا أنه اجتذب إليه بعلمه وبلاغته كثيرين من الطلبة وثنيين أومسيحيين على السواء، وطبقت شهرته جميع أنحاء العالم المسيحي.

يقدر بعض القدامى عدد "كتبه" بستة آلاف، وكان الكثير منها بطبيعة الحال نبذاً وجيزة، وحتى على هذا الاعتبار قال فيها جيروم متسائلاً: ((مَن منا يستطيع أن يقرأ كل ما كتب؟)).

ولقد قضى أرجن عشرين عاماً هائماً بحب الكتاب المقدس، واستخدم طائفة كبيرة من المختزلين والنساخين يضعون في أعمدة متوازية النص العبري للعهد القديم، وإلى جواره ترجمة يونانية حرفية لهذا النص، وفي خانة أخرى ترجمة يونانية له منقولة عن الترجمة السبعينية، وفي رابعة أكويلية، وخامسة سيماكوسية، وسادسة ثيودوت ثم أخذ يوازن هذه التراجم المختلفة بعضها ببعض، واستعان بمعرفته باللغة العبرية فأخرج للكنيسة ترجمة سبعينية مصححة؛ ولكن هذا لم ينقع غلته فأضاف شروحاً بعضها غاية في الإسهاب إلى كل سفر من أسفار الكتاب المقدس.

كتابه المبادئ الأولى يحتوي علي أول عرض فلسفي منظم للعقيدة المسيحية؛ وفي كتابه الشذرات أخذ على عاتقه أن يفسر و يشرح و يثبت جميع العقائد المسيحية بالرجوع إلى كتب الفلاسفة الوثنيين. وأراد أن يخفف عن نفسه عبء هذا الواجب الثقيل فاستعان بالطريقة الرمزية الاستعارية التي استطاع الفلاسفة الوثنيون أن يوفّقوا بها بين أقوال هومر وبين ما يقبله العقل المنطقي، والتي إتبعها بعد ذلك فيلون ليوفق بها بين اليهودية والفلسفة اليونانية.

من أقوال أرجن ((أن من وراء المعنى الحرفي لعبارات الكتاب المقدس طبقتين من المعاني أكثر منه عمقاً - هما المعنى الخلقي والمعنى الروحي - لا تصل إليهما إلا الأقلية الباطنية المتعلمة)).

وكان يرتاب في صحة ما ورد في سفر التكوين إذا فهم بمعناه الحرفي؛ ويفسر ما كان يلقاه بنو إسرائيل من يهوه من معاملة غير طيبة أحياناً بأن ما وصفت به هذه المعاملة إنما هو رموز؛ وقال إن القصص الواردة في الكتاب المقدس والتي تقول إن الشيطان صعد بعيسى إلى جبل عالٍ وعرض عليه ملكوت الأرض ليست إلا أساطير. ويضيف إلى ذلك إن هذه القصص قد اخترعت في بعضٍ الاحيان لكي توضح بعض الحقائق الروحية ثم يتساءل

((أي رجل عاقل يصدق إن اليوم الأول واليوم الثاني واليوم الثالث، وأن المساء والصباح، قد كانت كلها من غير شمس أو قمر أو نجوم؟ وأي إنسان تصل به البلاهة إلى حد الاعتقاد أن الله قد زرع جنة عدن كما يزرع الفلاح الأرض، وغرس فيها شجرة الحياة... حتى إذا ما ذاق إنسان ثمرتها نال الحياة؟.))

فإذا ما واصلنا قراءة أقوال أرجن فسيتضح لنا أنه ((رواقي، وفيثاغوري حديث، وأفلاطوني حديث؛ وأدري، وأنه مع هذا كله مُصرْ على أن يكون مسيحياً.))

ولو أننا طلبنا إلى رجل مثله أن يترك الدين الذي نشر فيه ألف كتاب لكلفناه بما لا طاقة له به أن يكون ضد طباعه.

ولقد درس أرجن، (أفلوطينس ) كما درس (أمونيوس سكاس )وإنا ليصعب علينا أحياناً أن نفرق بين فلسفتة وفلسفتهما. فالله عند (أرجن) ليس هو يهوه، بل هو الجوهر الأول لجميع الأشياء. وليس المسيح هو الإنسان الآدمي الذي يصفه العهد الجديد، بل هو العقل الذي ينظم العالم؛ وهو بهذا الوصف خلقه الله الآب، وجعله خاضعاً له، والنفس عند أرجن، كما هي عن أفلوطينس تنتقل في مراحل وتجسدات متتالية قبل أن تدخل الجسم، وهو تنتقل بعد الموت في مراحل متتالية مثلها قبل أن تصل إلى الله.

وجميع الأنفس حتي أطهرها تتعذب زمناً ما في المطهر ولكنها كلها تنجو آخر الأمر، وسيكون بعد "اللهب الأخير" عالم آخر ذو تاريخ طويل، ثم عالم ثالث، ورابع... كل واحد منها خير من سابقه، وهذه العوالم الكثيرة المتتالية ستحقق على مهل الخطة التي رسمها الله.

كم خسرت القبطية من عدم إستكمال هذا الخط بنفس مقدار خسارة المسلمين بعد ذلك بتغليب الغزالي علي إبن رشد .

((وهكذا لن نعجب إذا ما رأينا دمتريوس، أسقف الإسكندرية، ينظر بعين الريبة إلى هذا الفيلسوف النابه الذي تزدان به أبرشيته والذي كان يراسل الأباطرة.

ولقد أدت هذه الريبة إلى أن يرفض رسمه قسّاً بحجة أنه غير أهل للكهنوت. ولكن أسقفين فلسطينيين رسماه أثناء سفره في بلاد الشرق الأدنى. واحتج دمتريوس على هذا العمل وقال إن فيه اعتداء على حقوقه، وعقد مجمعاً من رجال الدين الذين كانوا تحت رياسته، وألغى هذا المجمع رسامة أرجن ونفاه من الإسكندرية

(يا الله نفس ما حدث لابن رشد )، فانتقل إلى قيصرية وواصل عمله في التدريس، وكتب فيها دفاعه الشهير عن المسيحية المسمى(( ضد سلس))، الذى بلغ فيه من إلانصاف أن أقر بقوة الحجج التي أدلى بها (سلسس)؛ ولكنه رد عليها بقوله إن كل صعوبة، وكل فكرة بعيدة عن المعقول، في العقيدة المسيحية يقابلها في الوثنية آراء أصعب منها وأبعد منها عن العقل، ولم يستنتج من هذا أن كلتا العقيدتين باطلة، بل استنتج أن الدين المسيحي يعرض أسلوباً للحياة أنبل مما يستطيع أن يعرضه محتضر يدعو إلى عبادة الأصنام.

عندما امتد اضطهاد (ديسيوس) للمسيحيين حتى وصل إلى قيصرية في عام 250، قُبض على أرجن؛ وكان وقتئذ في الخامسة والستين من عمره؛ ومد على العذراء، وقُيد بالأغلال، ووُضع في عنقه طوق من الحديد، وبقى في السجن أياماً طوالاً. ولكن الموت عاجل ديسيوس أولاً وأُطلق سراح أرجن، غير أن حياته لم تطل بعد ذلك أكثر من ثلاث سنوات، لأن التعذيب ألحق أشد الضرر بجسده بعد أن هد الزهد المتواصل قواه، ومات فقيراً كما كان حين بدأ يعلم الناس، ولكنه كان أعظم المسيحيين شهرة في زمنه))

الاقباط يلتفون حول كنيستهم ( حتي يومنا هذا ) يأبون بكل الوسائل أن يعدلوا من فلسفات أو طقوس قال بها الاجداد منذ الفي سنة يؤمنون بعمق بما قاله لهم الكهنة .. ويقدمون في سبيلها علي مر الزمن الشهداء بسخاء.... ليصبح الاقباط هم اولادك المضطهدين دوما يا مصر. ( نكمل حديثنا باكر )