المسيحية بين المؤسسة الدينية والشهادة اللاهوتية استمرارية أم قطيعة ؟ رؤية أرثوذكسية

بقلم الأب الدكتور أثناسيوس حنين
نصل الى النتيجة النهائية ونختم بحثنا بالاقرار أن هذا كله يفرض علينا أن نتعاطى بشكل "حوارى " وجدلى مع قضيتنا جول المسيحية بين المؤسسة الدينية والبشارة الانجيلية وهل العلاقة استمرارية أم قطيعة ؟ وهذا يجبرنا ايضا على طرح سؤال جديد وهو اذا ما كنا ’ نحن الحضور هنا ومن يسمعنا ويقرأنا ’ نتمنى بشكل أو بأخر نهاية "المسيحية المؤسساتية"! . ولنطرح السؤال بشكل أخر على فرض انهيار المسيحية كمؤسسة ’ ما هو شكل الحضور المسيحى المرجو فى عالم اليوم ؟

الاجابة النهائية ’ فى رأيى ’ سيكون بخصوص بقاء بعد النهاية أى استمرارية بعد النهاية أى بداية النهاية ! أى استمرارية للمسيحية بشكليها المؤسساتى والكرازى بشرط خضوع كلا المنظومتين للنقد العلمى واللاهوتى واستعداده لقبول روح النبوة الانجيلية التى تهب حيث يشاء روح التغيير والتجديد والتى بدورها اى الروح النبوية تندرج فى رؤية اخروية غائئية للعالم والتاريخ وهذا يؤدى الى تحرير المسيحية المؤسسة من رباطاتها الغير الشرعية مع مؤسسات هذا العالم ’ والأهم من هذا كله وبالاضافة اليه أن تبدأ المؤسسة الدينية وفورا فى الاستماع الى صوت الشعب بحب وبتوبة وبعمق لأن للشعب الدور الرئيسى فى تفسير مسيرة الايمان المستقيم وأن تتوقف وفورا عن معاملة الشعب كأؤخلوس وليس كالاؤس (كرعاع وليس كشعب) ! .

هنا سيكون نهاية لون من الوان المسيحية لكى ما يحل محلها حضور رافض لكل الوان الفخر الشكلى والانتصارات الكلامية والفشخرة الطائفية ’ حضور منكسر ومتواضع ودارس ومتفاعل بثقة تحت وابل ضربات العولمة المتلاحقة والتى نعيشها جميعا اليوم ’ الا اذا كانت المؤسسة الدينية تعيش فى عالم أخر غير عالمنا مثل ما تحكى الاسطورة من أنه وبينما القنسطنطينية تسقط تحت أقدام عساكر العثمانيين ’ كان اللاوهوتيون البيزنطيون يتناقشون ’ وبكل جدية ’ فى جنس الملائكة وهل الملاك ذكر أم أنثى !!! وهذه قضية أخرى ! .

نحن فى حاجة الى خطاب لاهوتى يؤمن بثقافة الخدمة والميل الثانى العلمى والروحى والثقافى وليس ثقافة وأليات السلطة ’ نحن نحتاج الى لاهوتيين وخدام يتابعون هبوب الروح ويذهبون معه حيث يذهب ! مفكرون ينظرون الى أسئلة الناس على أنها بركة للتفكير وليس نقمة للتعكير ! يسيرون الميل الثانى مع اسئلة الناس ’ بشرط ا، تكون اسئلة الناس عميقة وموضوعية ومصيرية ! لأن تفاهة اسئلتنا تصنع الخادم التافه ! وهنا تصير اسئلة الناس وسيلة للمنظرة ويتحول المنبر اللاهوتى الى "دار فتوى".

نحن بحاجة الى انماط عبادة كنسية تحمل بصمات البساطة والأعماق الانجيلية والاستمرارية التاريخية بدلا من الفخامة الشكلية والمواكب أى أننا بحاجة لهدم الحائط المتوسط الذى يفصل الشعب عن الاكليروس ’ كما نحتاج الى خطاب لاهوتى يقر بعدم قدرته على الاجابة على كل التساؤلات فى كل وقت وقى كل موضوع وباجابات نمطية كاسيتوفونية لا تأخذ فى اعتبارها "علامات الزمان".. يجب احترام سر الانسان ’ وعطية الايمان أمام الايديولوجيات المختلفة .يجب اقامة حوار صريح وجاد وعالى كل كل المستويات مع كل الايديولوجيات السائدة الناقدة للخطاب الدينى ’ لاسباب وجيهة وعلمية ’ وحتى الناقمة عليه ’لأسباب نفسانية وحقدوية رجعية ’ بسبب من مواقف له قديمة اوحديثة ’ كما يجب المشاركة بفعالية فى كل الانشطة الرامية الى تجديد البنية التحتية لثقافة للمجتمع ورفع شأن الانسان خاصة فى مجال التمييز العنصرى والدينى وعدم المساواة ومشكلات الفقر والفقراء وانحطاط الثقافة اللاهوتية وتدنى الخطاب الدينى ’ ليس معنى هذا مسكونية جديدة وممجوجة أو تلفيق دينى ساقط وباهت ومجاملاتى ! ’ بل فرادات وابداعات ثقافية ولاهوتية واجتماعية يستظل تحت ظلالها الجميع . يجب فى النهاية ’ ان تفتتح الكنيسة ابوابها كمؤسسة كبيرة لمشاركة العلمانيين فى انشطتها الاجتماعية وتوظف المتخصصين منهم ’ ونكرر المتخصصين منهم أى أهل الخبرة ’ فى كل مجال ’ كما يجب أن تستبعد المؤسسة الكنسية وفورا أهل الحظوة والرشوة والمصالح الذاتية . كما يجب ايضا ان تبدأ الكنيسة فى تطوير نظامها الايراراخى والسلطوى الى جهاز خدمة وعلم حسب كلمات الانجيل بلا اية اقنعة ايديولوجية ولا سلطوية مميزة بلا قدرة على التمايز ومقدسة بلا علامات وثمار فعلية للقداسة !

وبلا حنين الى هذه السيمفونية مع الدولة ’ والتى ثبت فشلها تاريخيا ’ والالتزام فقط بمصالح الامة العليا بغض النظر عن أنظمة الدولة وقصر نظر حكوماتها . هل وصلت المسيحية المؤسساتية الى نهايتها ؟ هل نحن بحاجة الى مسيحية انجيلية خالصة’ غير محتجة بل مندمجة ’ مسيحية مستقيمة الرأى تحمل تاريخ الانسان وتتمخض به لكى يولد فيه اللوغوس ويولد فى اللوغوس من جديد ؟ لابد أن هناك بديل يجب ان نعمل عليه جميعا فى المستقبل القريب .يجب العودة الى الرؤية الشعبوية والعلمانية للمسيحية كما يرى الاب نيقولا افاناسييف اللاهوتى الروسى والمهاجر فى فرنسا فى كتابه الهام "كنيسة الروح القدس " والصادر فى منشورات النور ببيروت عام 1986 " كانت المسيحية الأولى حركة علمانية لأن العلمانيون فى العهد الجديد يشكلون شعب الله وشعب الله يشكل الكنيسة "(ص 45 ) وهذه الرؤية العلمانية للشعب تؤكدها الرسالة الى العبرانيين . لم يعد هناك شعب مختار لله بالمعنى القديم ’ بل أن كل الشعب هو شعب الله وسيأتى علماء الكنيسة لاحقا ليؤكدوا أن كل شعب هو "بالنية " شعب الله الى أن يأتى اليوم الذى فيه ’ بالحب والبشارة والرسالة الحية والشهادة المتجردة ’ يؤكد ذلك "بالارادة "والعمل

الأب الدكتور أثناسيوس حنين
دكتوراة فى تاريخ الحضارات القديمة المصرية واليونانية من كلية الأداب جامعة ليموج بفرنسا