بقلم : محمد حسين يونس

أغلبنا لا يعرفون ماذا جرى من أحداث علي هذه الأرض التي نعيش فوقها و نسميها وطن .. قد يكون السبب أنه مع حكم اليونانيون .. بدأت الذاكرة الجماعية عن تاريخ بلدنا تبهت و تنمحي .. و الكتابات التي تقص ما حدث تتحول لطلسمات ..

وكنا سنبقي علي هذا الحال من الإنكار .. نتداول قصص اليهود عنا التي تنز بغضا و حقدا .. و نتصور أن ما دون بكتب الأقدمين الصفراء من خيالات مريضة حقائق .. رغم بلاهتها في كثير من المواضع ..

الفضل في بزوغ الوعي .. يعود لجهد الباحث الأجنبي.. خصوصا الفرنسي و الألماني في مطلع القرن التاسع عشر .. الذى لم يرض بقصص التلفيق السائدة فدرس و بحث ..ومنه عرفنا أننا شعب له تاريخ ممتد لالاف السنين يحمل الكثير من الإنجاز والعمل والإنتصارات و الهزائم و الأفراح و الأحزان .. و أننا لسنا هؤلاء السذج المعاتية الذين يتكلم عنهم اليهود و من أخذ عنهم.

.. علماء الأثار المصريون سردوا ملامح من القصة ..نقلا عن المراجع الأجنبية .. و لكن (سليم حسن) أمضي عمرة يكتب القصة بكاملها و يدونها في موسوعة ( تاريخ مصر ) التي من المفترض أن يكون بكل منزل نسخة منها تزين مكتبتة...

جمال حمدان فارس اخر من عشاق بلدنا كتب في موسوعته ((شخصية مصر ))الجزء الثاني نفس القصة بإسلوب أخر .

((في اخريات العصر الفرعوني حين أخذت بعض الاسرات تعتمد علي الجنود المرتزقة إزداد تدفق الاجانب خاصة من حوض البحر الابيض الشرقي و جزائره و بالاخص الاغريق الذين يرقي ظهورهم الي القرن ال6 ق.م علي الاقل اى ثلاثة قرون قبل الاسكندر

الإغريق أقاموا بصفة اساسية في مدن الدلتا وتحت الاسرة 26 كان بسماتيك أكبر من شجع اليونانيين علي الهجرة الي مصر لمساعدته في حروبه الداخلية ومنح الجنود منهم اراض يزرعونها و يسر للتجار منهم سبل الاقامة )).

التسلل الاغريقي لم يلبث أن تحول الي غزو ، ثم هجرة ، مع الاسكندر نفسه وإستعمار خلال حكم البطالسة

(( او كما ذكر (جوجيه ) شهدت مصر في القرن الثالث قبل الميلاد هجرة يونانية قوية و حقيقية )).

((في نهاية العصر البطلمي تراخت هذه الهجرة لكن بعد ان كانت قد حققت حجما مؤثرا بالفعل وتحولت الي إستعمار إستيطاني ))

و يتفق كل من الاستاذين (سليم ) و (جمال ) علي ان الاستعمار الاستيطاني اليوناني كان له وقعا مؤثرا علي المجتمع المصرى

(( تجلي خطره فيما حدث بالنسبة للغة المصريين فالطبقة الحاكمة البطلمية كانت تتكلم و تكتب اليونانية واصرت علي ان تكون المعاملات مع الحكومة بتلك اللغة وعلي الجانب الاخر كان المصريون يتكلمون ويكتبون الديموطيقية وهكذا إستعان المصريون بالمترجمين لكتابة عرائضهم و اهملوا تعلم لغتهم الديموطيقية . ))

(( في البداية كانت الوثائق تكتب باللغتين ثم إنكمشت الديموطيقية فلقد كانت لغة علي جانب عظيم من التعقيد و الصعوبة خاصة ان تعليمها كان يكلف مصاريف طائلة يعجز معظم الشعب المستنفذ امواله ان يفي بها )) ..

 

رويدا رويدا حلت لغة الحكومة محل لغة الشعب .. حتي ذلك اليوم الذى لم يعد هناك من يستطيع كتابة الديموطيقية أو الهيروغليفية .. او قراءتها من اهل مصر ...رغم كونهم يتحدثون بها . لتنحط إلي مستوى لغة شفاهية .

 

ادى هذا الي ما يشبه الانفصام والذى أصبح بعد ذلك سمة من سمات المصريين حتي زمن قريب عندما كانت الارستقراطية تتكلم التركية ثم الفرنسية فالانجليزية في حين كان الشعب يتكلم العامية و ينحت كل يوم معاني جديدة يضيفها لمفرداتها .

 

كتب سليم حسن (( وهكذا لم يعد لمصر أداة إيضاح صالحة تهيء لها مخاطبة العالم خارج حدودها مباشرة ..فلقد كانت الهيروغليفية و الديموطيقية لغة ليست بالبساطة التي تسمح لها ان تكون عالمية )).

 

أى انه منطقيا أصبحت الطبقة الحاكمة البطلسية هي القادرة علي توصيل مقالها للعالم في حين سكت الصوت المصرى .. و بدأت الحضارة المصرية في الإنزواء داخل حدودها .. و بدأ غالبية المصريين في التقوقع بعيدا عن زمنهم ..

 

مقال الطبقة الحاكمة اليونانية إحتوى علي إنجازات مدينة الاسكندرية التي أصبحت موطنا جديدا للعلوم و تأسس بها (الميوزيون ) اى اكاديمية العلوم في زمن بطليموس الثاني و كان من نتاج ذلك نمو عظيم في علوم الرياضة و الميكانيكا و الفلك و الطب

 

((ورغم انها قدمت باليونانية(أى هذه العلوم ) الا انها كانت اساسا مصرية تم ترجمتها لوضع دور مصر في تاريخ علوم العالم في الظل )).

 

اليهود في ذلك الزمن قاموا بدور ملحوظ في تعميق الانفصام فلقد هاجروا باعداد كبيرة في إتجاه الاسكندرية وتكلموا بلغة الإغريق .. بل أصدروا من مصر اول توراة باللغة اليونانية .. وتسموا باسماء يونانية وعملوا في جميع الاعمال العقلية و الذهنية و التجارية منحيين المصريين مقدمين انفسم للحكام كبدائل جاهزة .

الفلاح المصرى الذى أطلق عليه الاغريق (لاوى ) اى الطبقة الدنيا او الكادحة كان لا يعرف القراءة او الكتابة بأى من اللغتين ولكنه ظل مصريا أى

((مرتبطا بالحلقات المستمرة من الماضي السحيق التي تربط ابناء الشعب بعضهم ببعض من حيث العادات و الاخلاق و المحافظة علي القديم ... عاملا في الارض لتوفير نفقات إنشاء الجيوش و الاساطيل و مد الطبقات الحاكمة بكل اسباب الرفاهية و الترف )).

((ومن ثم اصبح تاريخ الشعب المصرى مجهولا للعالم بصورة بينة إذا ما قورن بما نعرفه عن تاريخ مصر الهيلانستيكية و لا غرابة في ذلك فقد كان في أيدى الباحثين في تاريخ مصر في هذا الزمن أكثر من ثلاثين الف بردية إغريقية خاصة بتاريخ الاغريق في الديار المصرية .. في حين أن ما لدينا الان من الاوراق الديموطيقية لا يتعدى الالفين و هذا العدد ان كان في ظاهره قليل الا انه يعبر عن الواقع مع ما كان للحكام الاغريق من قوة و سلطان في البلاد و ما كان عليه اهل البلد من ضعف و استكانة و انزواء و عدم مشاركتهم الاغريق في حكم البلاد )) .

وإنطفأت الاضواء تدريجيا عن تاريخ مصر و حضارتها بعد ان افقدت نفسها وسيلة التعبير عنها لغتها الديموطيقية ليظهر جنس اخر من المصريين منبت الصلة بكل ما كتب الاجداد .

..لقد كان هذا التحول .. اول الانكسارات الكبرى في تاريخ مصر .. دونه العاقلون من الابناء و لم يعد يهم المحدثين بعد أن شغلتهم الالعاب البهلوانية التي يطلقها كهنة العصر الجديد و مرتزقته .

 

العقلاء يتعلمون من السقوط اكثر من النجاح .. وبلدنا سقطت منذ 2500 سنة اى عام 341 ق.م سقوطا طويلا إنتهي بابناءها الي إنكار عظمة الاجداد و الانتماء الي ثقافة المحتل الغريبة . ( نكمل حديثنا غدا عن كيف إنتهي حكم البطالسة بمأساة إكتيوما .. )