فاطمة ناعوت
(بناء على تعليمات السيد رئيس مجلس الوزراء بضرورة ارتداء القمامة من السادة الموظفون الذين يعملون بمقر العمل طرفكم ابتداء من اليوم السبت الموافق ٢٠٢٠/٥/٣٠ وذلك حتى نحمى أنفسها والمواطنين من خطر فيروس كرونا وذلك حتى لا يتعرضون للمسائلة القانونية ودفع الغرامة المقررة وايضا عدم دخول أى مواطن دون ارتداء القمامة. احمى نفسك واحمى بلدك. والوحدة تحملكم المسؤولية فى حالة ثبوت تواجد موظف دون ارتداء القمامة او مواطن يريد خدمة من طرفكم دون ارتداء القمامة. وتفضلوا بقبول وافر التحية والاحترام). هذا قرار صدر عن إحدى الوحدات المحلية بمحافظة الفيوم، وقّع عليه رئيسُ الوحدة وموظفون آخرون، وأُمهِر بختم المحافظة.

وبدايةً، أقدّم التحية للدكتور «أحمد الأنصارى»، محافظ الفيوم، على قراره بعزل جميع الموظفين الموقّعين على تلك الورقة الرسمية، التى تضمّنت كلمة: (القمامة) بدلا من (الكمامة)، وكان تكرار الكلمة أربع مرات فى الورقة دليلا حاسمًا على كون الخطأ عن (جهل سافر باللغة العربية)، وليس عن تعجّل أو سهو.

والحق أن (القمامة) ليست الخطأ الوحيد فى الورقة، فارصد معى ما يلى:

(من السادة الموظفون/ صحيحها: «الموظفين»)، (حتى لا يتعرضون/ صحيحها: «يتعرضوا»)، (المسائلة القانونية/ صحيحُها: «المساءلة»)، (احمى نفسك/ صحيحها «احمِ»)، (تواجد/ صحيحها: «وجود»)، فضلا عن ركاكة الصوغ والهمزات الغائبة والضالّة طريقها، ثم إن «الكمامة» لا تُرتدَى! بل نقول: «أضعُ الكمامة على وجهى، أو: أغدقها على وجهى».

تلك الورقة المدجّجة بالأخطاء الإملائية والخطايا النحوية والصرفية والدلالية والبلاغية صارت حديث السوشيال ميديا أيامًا كثيرة، وذكّرتنى برئيس أحد أحياء القاهرة فى زمن الإخوان الأسود، حين ظهر على القناة الثالثة، قائلا إن الحى غير مسؤول عن الكارثة التى أسفرت عن موت العشرات تحت أنقاض منزل منهار فى زمام الحى، بل إن قاطنى العقار هم المسؤولون (لأن المنزل كان «قايل» للسقوط!!)، وبالطبع كان يقصد: (آيل) للسقوط.

والحقُّ أن المرء ليحزن من تهافت اللغة العربية على ألسن الناطقين بها، نحن أبناء لغة القرآن الكريم التى نتعلّمها منذ طفولتنا على مقاعد الدرس ونتحدث بها طوال يومنا، ونستحى حين نرى العالم الغربى بات يعرف قيمة لغتنا الجميلة، ويضعها فى مكانتها الرفيعة، فتُدرَّس فى المدارس الغربية ضمن اللغات الحية التى يختارها الطلاب كلغة ثانية لهم غير اللغة الأم.

واختار اليونسكو يوم ٢١ فبراير من كل عام يومًا للاحتفال بعيد «اللغة الأم» لدى الأمم المتحدة، وهو اليوم الذى تحتفل به كلُّ أمّة باللغة الخاصة بها، فاختار الروس يوم ٦ يونيو عيدًا للروسية، وهو عيد ميلاد الشاعر الروسى «ألكسندر بوشكين»، واختار الصينيون ٢٠ إبريل عيدًا للصينية، وهو ذكرى «سانج چيه»، مؤسس الأبجدية الصينية، واختار الإنجليز ٢٣ إبريل للاحتفال بالإنجليزية لأنه يوم ميلاد العظيم وليم شكسبير، واختار الفرنسيون ٢٠ مارس يوما للفرنسية ليتزامن مع اليوم العالمى للفرنكفونية. أما نحن، الناطقين بالعربية، فوقع اختيارنا على ١٨ ديسمبر عيدًا عالميًّا للغة العربية، وهو ذكرى اعتماد العربية لغةً رسمية فى الأمم المتحدة عام ١٩٧٣، بعد محاولات دؤوب بدأت منذ خمسينيات القرن الماضى. ولستُ أدرى لماذا نُقرُّ بوجودنا من خلال إقرار الآخرين بوجودنا، بدلا من اختيار يوم ميلاد المتنبى أو طه حسين أو المنفلوطى أو شوقى، ليكون يومًا للغة العربية؟!

ولأننى أميلُ دائمًا إلى الإيجابى بدلا من السلبى، لن أستمر فى حال التباكى على ما وصلت إليه لغتُنا من حالٍ تعسة على ألسن الناطقين بها، ولن أخوض فى ركاكات الإعلاميين وأخطائهم التى تصمُّ آذاننا ليل نهار، ولا انهيار مستوى معلّمى اللغة العربية وعجزهم عن الأخذ بأيدى أبنائنا ليُحبّوا لغتهم ويتقنوها، إنما سأذكر الإشراق الذى أصادفه بين «أُميّين» لا يعرفون القراءة والكتابة، لكنهم قادرون على ارتشاف سحر العربية، دون عِلمٍ أو دراسة.

أدعوكم للإنصات للمزارعين المصريين وهم يدندنون فيما يضربون فؤوسهم فى طمى الأرض ليخرجوا كنوزها الخبيئة، تجدهم يحفظون عن ظهر قلب قصائد ابن الفارض، الشاعر الصوفىّ الأكبر، بعدما سمعوها بصوت الشيخ ياسين التهامى، المنشد الدينى الشهير، ابن قرية منفلوط، ويحفظون قصائد أحمد شوقى وأحمد رامى وجورج جرداق وأبى فراس الحمدانى وغيرهم ممن غنّت لهم أم كلثوم، وإن سألتهم عن مكامن المجاز والاستعارات، أجابوك بفطرتهم بما يدهشك من معارف.

للغة العربية سحرٌ خاص، دعه يتسلّلُ داخل روحك وارتشفْ شيئًا من جمالها. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم