سحر الجعارة
أكثر من عشرين عاماً فى بلاط «صاحبة الجلالة»، كانت كل معاركنا وأقصى أحلامنا تدور حول كلمة واحدة: «الحرية»، كنا نذهب إلى مبنى النقابة العريق فى شارع «عبدالخالق ثروت» إما تضامناً مع زميل يتعرّض للحبس بسبب «جريمة رأى»، أو نحتشد فى الانتخابات لصد التتار «الإخوان» ومنعهم من الاستيلاء على مقعد النقيب ومجلس النقابة، أو نجتمع فى إحدى المؤسسات الصحفية لنقرر احتجاب الصحف مثلاً (بعد الحكم على أربعة رؤساء تحرير بالحبس نهاية عهد مبارك). وبعد 25 يناير تحولت «سلالم النقابة» إلى مقر ثورى ضد الفاشية الدينية للإخوان.. ثم فتر العمل النقابى ربما بحكم إيقاع الحياة التى أصبح الكل يلهث فيها بحثاً عن الاستقرار فحسب.. المهم أننا لم نسأل يوماً ما عن الأحوال المادية للصحفى لأننا نعرفها جيداً.

معظم القيادات الصحفية الحالية، خصوصاً الأصدقاء منهم، يعلمون جيداً أننا دائماً كنا «نغنى ونحارب».. نُضرب صباحاً عن العمل دفاعاً عن «الكلمة»، وفى المساء نشقى بحثاً عن «الستر».. لو نطق أثاث منازلنا لقال كم قناة فضائية عملنا بها، وكم جريدة عربية كتبنا بها.. وكم محنة إنسانية مرت علينا، ونحن نتكاتف ونضم جراحنا النازفة.. وكم عزيزاً فقدناه بسبب مرض خطير لم تتحمل ميزانيته تكلفة علاجه.. ربما لهذا أصبح فارس الكلمة «مجدى مهنا» أيقونة العمل النقابى والمهنى، ورمزاً لصلابة الإنسان فى مواجهة شراسة المرض.

أتذكر أننى استضفت «مهنا» حين كنت أقدم برنامجاً على قناة «روتانا»، كان يتحدث عن خطورة زراعة الكبد، وكان فيروس C هو طاعون هذا الوقت، وهاجمته الكاتبة الإسلامية المعروفة «صافيناز كاظم» لأنها تعارض زراعة الأعضاء.. وبعد انتهاء التصوير سألته عن تحاليله وكانت مؤشرات النهاية قد ظهرت.. إنها المرة الأخيرة التى تصافح عيناى ملامح «مجدى».. ثم غاب.

فى لحظات الفقد أشعر بالعجز الكامل، تسقط كل خطوط الدفاع النفسية، أستدعى نفس المشاهد المماثلة التى كنا نسأل فيها بعضنا البعض: «من سيتكفل بمصاريف العلاج؟».. لقد ذهب صديقى العزيز «محمد حمدى» بنفس السيناريو ولم يمكنه القدر من فرصة زراعة الكبد.. لكنه ترك لنا فلذة كبده «سيف» الذى أصبح شاباً الآن.

كانت صديقتى الإعلامية «مآثر المصرفى»، أرملته، قوية وصلبة، تحملت مسئولية تربيتة حتى بعد أن تركت رئاسة «راديو مصر»، لم تشك ولم تطلب العون من النقابة، ولا من مؤسسة «الأهرام» التى كان يعمل بها «محمد».. ابتعدت لتخفى أحزانها وانكسارها وتصدّر لنا «عزة النفس» وتبادر هى بالحنو علينا.

أوقن أن الموت هو «الحقيقة» الوحيدة فى الحياة، بصخبها وجنونها، بطوفانها الجارف لأحلامنا الصغيرة، وسرقتها لأعمارنا من تجربة لأخرى.. وأن الموت يقطفنا دون أن ينظر لصرخات الثكالى واليتامى من حوله.. فنموت فى صمت ونترك الأسئلة للورثة!.

وهكذا ذهب الصحفى «محمود رياض»، رئيس قسم الرياضة فى جريدة «الخميس» التى أغلقت أبوابها، رحل فى جائحة «كورونا - كوفيد 19»، التى حوَّلتنا إلى مجرد «أرقام» فى التصريح اليومى لوزارة الصحة، وإحصاء أعداد المصابين والمتوفين.. فلم تبق لنا صفة ولا اسماً!.

كان لا بد أن نتلقى لطمة موجعة علَّنا نفيق، وندرك أن من بين أعضاء نقابتنا من ترك «أيتاماً» بلا عائل، ومن تضعه مهمته أمام خط مواجهة «كورونا» لينقل الأحداث للقارئ أو المشاهد المسترخى فى مقعده ينتظر توقيت انقضاء «الحظر» ليتجول بالشوارع دون أى إجراءات احترازية!.

كان لا بد أن ننتبه أن الأجيال الجديدة من أبناء المهنة، (محمود عمره 42 عاماً)، هم من يقومون بتلك المهمة بكل خطورتها دون أدنى غطاء تأمينى أو صحى، اللهم إلا «مشروع علاج الصحفيين» و«صندوق التكافل».. ولو صرحت بعائد هذه المشروعات ستشعر بحجم المهزلة.. بالمناسبة هذا الوضع قائم فى مختلف النقابات المهنية وأولها نقابة الأطباء!.

ترك «محمود» أربعة أطفال؛ ثلاثة منهم يخضعون للحجر الصحى برفقه أرملته، واتخذ مجلس النقابة قراراً بتعيين زوجة الزميل الراحل بالجهاز الإدارى بالنقابة، لإعانة الأسرة على الظروف المعيشية، والتزم بمتابعة أبنائه، خاصة المحجوزين بمستشفى العزل بعد أن انتقل إليهم الفيروس.. وتم استثناء الزميل الراحل من المدة الكاملة للمعاش لصرفه كاملاً لأسرته.. واقترح البعض مبادرة «أبناؤنا فى القلب»، التى تستهدف رعاية الأيتام من أبناء الزملاء الصحفيين.. وفتح حساب بنكى بالنقابة لصالح أبناء الزملاء الذين توفاهم الله، ليتاح للزملاء الصحفيين ميسورى الحال المساهمة فى رعاية أبناء زملائهم.. أنا أشعر بالخجل والمهانة وأنا أردد هذه الاقتراحات التى تم تفعيل بعضها، لكن فى النهاية هذا حقهم علينا.

وفى هذا الإطار طالب الكاتب الصحفى «عبدالفتاح الجبالى»، وكيل أول المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، بعدة اقتراحات مهمة وهى: أن تلزم النقابة المؤسسات الصحفية بالتأمين الاجتماعى على الصحفيين بأجور حقيقية لدى جهات عملهم.. وتطبيق المادة ١٥ من القانون والقاضية بإنشاء صناديق تأمين تكميلية.. وأن تستمر المؤسسات الصحفية الخاصة فى صرف الأجور والمكافآت التى كانت تستحق لهم حال الاستمرار فى العمل.. لكن أهم ما جاء فى اقتراحات «الجبالى» هو أن تتولى النقابة مسئولية صرف المرتبات فى حالة «الصحفى الحر وغير المعين» فى جريدة.. وكثير منكم قد لا يعلم أن أغلبية شباب الصحفيين ليسوا معينين فى مؤسسة صحفية خاصة أو مملوكة للدولة.

أعلم بأن هذه المساحة مخصصة لهموم القارئ والتعبير عنه، لكننا أيضاً من أبناء هذا الوطن، والدفاع عن المهنة وحقوق أبنائها هو الضمان لاستمراريتها.. فليس أصعب من الموت إلا اليتم، وليس أصعب منه إلا العوز والحاجة. ادعوا لأبناء «محمود رياض» بالشفاء.
نقلا عن الوطن