مؤمن سلاّم
لأسباب كثيرة نزلت الأمة المصرية إلى الشوارع والميادين مطالبة بالتغيير ورحيل النظام، ورفعت القيادات السياسية لهذه التظاهرات شعارات رددتها خلفهم الجماهير، فقد كانت تعبر عن العناوين الكبرى لأسباب غضب المصريين وهى عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية. شعارات لا يختلف عليها اثنين ولهذا التف حولها الملايين من المصريين، إلا أن هذه الشعارات العامة كما كانت سبب الإجماع، ربما كانت سبب الفشل أيضا.

فالناظر للقوى السياسية التي قادت التظاهرات والفاعليات في يناير 2011 سيرى بوضوح أنها تنتمي لكل مكونات الطيف السياسي المصري، من أقصي اليمين الإسلامي الراديكالي وحتى أقصى اليسار الراديكالي مرورا بالليبراليين والاشتراكيين والشيوعيين والناصريين، وقد اتفقوا جميعا على رفع هذه الشعارات أو المطالب الأربعة للثورة المصرية ضد النظام الحاكم، إلا أنهم لم يضعوا رؤية توافقية لهذه المطالب التي تحمل معاني مختلفة لدى كل تيار من هذه التيارات السياسية، فكان الصراع بعد رحيل مبارك والتفكك والتشرذم، ولا أدري في الحقيقة لماذا لم تصاغ هذه الرؤية؟ هل عن عمد أم نسيان؟ هل عن رغبة في استمرار التوافق الحالي دون رؤية مستقبلية؟ أم لأن أحد لم ينتبه لحقيقة الاختلاف حول معاني هذه الكلمات وكل تيار اعتبر أن معانيها بديهية لا تحتاج لترجمة وهى المعاني التي يحملها في رأسه هو؟

فشعار العيش أو الخبز تختلف معانيه ما بين الليبرالي واليساري والإسلامجي. فالليبرالي يرى فيه ضمان الدولة للاحتياجات الأساسية للإنسان وهى الصحة والتعليم والسكن الآدمي الذي يليق بكرامة الإنسان، وعلى الفرد بعد ذلك أن يجتهد ويعمل لتحقيق المزيد من الرفاه. واليساري يراها مسؤولية الدولة عن الإنسان من الميلاد إلى الوفاة، فالدولة مسؤولة عن طعامه وشرابه وسكنه وتعليمه وعلاجه وتوظيفه. أما الإسلاميين فيرون فيها إطعام الفقراء وعلاجهم وإسكانهم عن طريق منظومة الزكاة والصدقات التي قد تشرف عليها الدولة أو لا تشرف، فهي تعتمد على العمل التطوعي أكثر منها على سياسات الدولة.

أما العدالة الاجتماعية، فهي عند الليبرالي إعادة توزيع الثروة بطريقة تحافظ على حقوق الملكية الفردية وحرية السوق، فهي تتم عبر إدارة الاقتصاد من خلال السياسات المالية والنقدية. وبالنسبة لليسار العدالة الاجتماعية تتحقق بتأميم الدولة للاقتصاد وامتلاكها لأدوات الإنتاج وتطبيق شعار “من كل حسب طاقته، إلى كل حسب حاجته”. أما الفكر الإسلامي فقد اعتمد على شعارات ترتبط بمنظومة الميراث والزكاة والصدقات لإعادة توزيع الثروة دون رؤية واضحة لكيفية القيام بذلك في العصر الحديث، ومن خلال مؤسسات الدولة الحديثة.

الحرية، وهنا يظهر التباين الكبير بين التيارات المختلفة، خاصة التيار العلماني بجناحيه الليبرالي واليساري، وبين التيار الأصولي بأطيافه المختلفة. فعند الليبراليين الحرية مطلقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ليس لها حد إلا حرية الآخرين. أما اليسار، باستثناء بعض التيارات الراديكالية التي مازالت تؤمن بديكتاتورية البروليتاريا، فالحريات السياسية والاجتماعية مطلقة وتصبح الإشكالية في الحرية الاقتصادية ومدى هذه الحرية. عند الإسلاميين الحرية هي حرية بما لا يخالف شرع الله، أي بكل وضوح لا حرية إلا في إطار ضيق جدا حددته كتب الفقه، فلا حرية عقيدة وممارسة شعائر، ولا حرية فكر وتعبير، ولا حريات شخصية ولا حريات عامة.

وترتبط الكرامة الإنسانية بالحرية، فكلما كانت الحريات مطلقة كلما كانت كرامة الإنسان محفوظة في ظل سيادة قانون يطبق على الجميع بلا استثناء. ففي النظم المستبدة دينية كانت أو لادينية، لا كرامة لأحد إلا الحاكم وأعوانه، لهذا يتسبب شعار الكرامة إنسانية كما الحرية في إشكالية كبرى مع التيار الإسلامي، والذي أثبتت سنة حكمه أنه لا يعترف بالحرية ولا بالكرامة الإنسانية.

لهذا كان لابد لثورة يناير أن تفشل في تحقيق أهدافها حتى الآن، إلا أن يتدارك القائمين عليها هذا الخلال بعدم الاكتفاء برفع هذه الشعارات أو المطالب ولكن صياغة رؤية توافقية تفسر هذه الشعارات وما تعنيه ووضع برنامج عمل توافقي لتطبيق هذه المطالب على الأرض، في هذه الحالة ربما يصبح فشل الثورة فشل مؤقت يتحول إلى نجاح في تحقيق الهدف الاستراتيجي وهو تأسيس مصر الديمقراطية الحديثة.