عرض كتاب : الإفخارستيا عشاء الرب للأب متى المسكين

7
الباب الأول
الينابيع الأولى للأفخارستيا
 
صور وأمثال ورموز الإفخارستيا فى العهد القديم
يبدأ الكاتب رحلته مع "سر الإفخارستيا" من العهد القديم فى الكتاب المقدس، وأظنه كان يضع كلمات السيد المسيح أمام عينيه "فتشوا الكتب لانكم تظنون ان لكم فيها حياة ابدية. وهي التي تشهد لي."، ويتوقف أمام ستة مقاربات يجد فيها اشارة واضحة لسر الإفخارستيا، ثم فى فصل تال يتوقف أمام مضمون الصلاة ومفهوم البركة واستخداماتها فى العهد القديم، خاصة فى زمن المسيح.
 
فى الفصل الأول والذى يحمل عنوان "صور وأمثال ورموز الإفخارستيا فى العهد القديم" ويؤسس رؤيته على قاعدة آبائية مستقرة "أن كل ما عمله الله فى الماضى عمله بتدبير خاص حتى يكون كأساس مُسبق يبنى عليه الإنسان رجاءه وأمله فيما هو عتيد أن يعمله الله فى مستقبل الزمان من أجل تكميل خلاصه"، وعليه تعد "الإفخارستيا" "استمرار عميق وسرى لذكرى الذبيحة التى قدمها هابيل الصديق، وتقدمة ذبيحة ملكيصادق، وذبيحة إبراهيم لإسحق ابنه .
 
ـ تقدمة ملكيصادق
والتى يراها العلاّمة كلمندس الإسكندرى (195م.) صورة نموذجية للإفخارستيا، فيما "يتعمق القديس كبريانوس (210 ـ 258م) فى الربط الدقيق بين العهدين الجديد والقديم من حيث هذا السر الإفخارستى فيقول (إن ملكيصادق هو قبل كل شئ "مثال" صورة نموذجية للمسيح، ودليلنا على ذلك قول المزمور 109 : أنك أنت الكاهن إلى الأبد على طقس ملكيصادق. ثم من هو ذلك الكاهن لله العلى أكثر من ربنا يسوع المسيح الذى قدم للآب نفس التقدمة أى الخبز والخمر ـ كملكيصادق ـ اللذين هما جسده ودمه). فيما يذهب القديس امبرسيوس (340 ـ 397م) إلى أننا (نذكر أن هذه الأسرار قد انحدرت إلينا قبل زمان إبراهيم، لأن ملكيصادق "الشخص المقدس" الذى قدم نموذجاً كان بلا بداية أيام ولا نهاية أيام).
 
ـ الإفخارستيا والمن السماوى (خبز الخروج)
ثمة ملاحظة لافتة فى طرح الأب متى هنا أنه يذهب فى شرح رؤيته إلى آباء الكنيسة فى قرون ما قبل الإنشقاق، فى القرون الميلادية الخمسة الأولى، وهم محل اجماع كل الأطراف، وفيما يتعلق بعلاقة الإفخارستيا بالمن السماوى، ينطلق من قول القديس بولس الرسول "جميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح" (1كو 10 : 3 و4). ويعقب بقوله "مع ملاحظة أنه لم يقل إن الصخرة كانت تمثل المسيح ولا كانت رمزاً للمسيح، بل كانت المسيح.
 
ويعود مجدداً إلى القديس امبروسيوس الذى يؤكد التماثل الحقيقي القائم بين المن والإفخارستيا [إن المن كان معجزة كبيرة عندما أمطره الله من السماء على آبائنا الأولين، لقد تولت السماء تغذية الشعب يومياً بالطعام كما هو مكتوب: "وأكل الإنسان خبز الملائكة" مز 75 : 25، ولكن بالرغم من ذلك فكل الذين أكلوا هذا الخبز ماتوا، أما هذا الطعام الذى تتناولونه الآن "جسد المسيح" فهو الخبز الحقيقي النازل من السماء الذى يمدكم بجوهر الحياة الأبدية لأنه جسد المسيح. فكما أن النور أعظم من الظل والحقيقة أقوى من المثال، هكذا جسد اخالق أعظم من المن الذى نزل من السماء].
 
ويواصل الكاتب دعم هذا الربط بأقوال القديس اغسطينوس والقديس يوحنا ذهبى الفم، ثم يعود ليفرد مساحة أكبر للقديس بولس الرسول فى تنبيه شديد وحازم لتبعات التقدم للأسرار بدون استحقاق "من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهوت يموت بدون رأفة، فكم عقاباً أشر تظنون يُحسب مستحقاً من داس ابن الله وحَسِبَ دم العهد الذى قُدِّس به دنساً وازدرى بروح النعمة" عب 10 : 28 و29.
 
ـ الإفخارستيا والماء النابع من صخرة حوريب
"الصخرة كانت المسيح" هكذا رأى القديس بولس احداث تفجر الماء من صخرة حوريب فى رحلة خروج شعب الله من مصر، وبحس لاهوتى مرهف ادرك اباء الكنيسة الأولى الإشارة والرابط بينها وبين "سر الماء النابع من جنب المسيح المطعون، مع سر الماء الممزوج فى خمر الإفخارستيا. وهنا القول للقديس امبروسيوس : (الماء نبع من الصخرة لليهود، والدم نبع لكم من المسيح. الماء روى عطشهم ساعة؛ والدم يطفئ عطشكم إلى الأبد. فاليهود شربوا وعادوا عطاشى؛ أما أنتم فإذا شربتم فان تعطشوا أبداً. ذاك كان مثالاً؛ وهذا هو الحقيقة. فإذا كان المثال هكذا يظهر لكم عجيباً فكم تكون الحقيقة التى مثالها أنتم توقرونه هكذا!!)
 
وأيضاً الكلام هنا للقديس امبروسيوس : (هم شربوا ون الصخرة الروحية التى ترافقهم، وهذه الصخرة كانت المسيح، اشربوا أنتم أيضاً حتى يرافقكم المسيح. انظر السر: موسى كان هو النبى؛ والعصا ـ التى ضرب بها الصخرة ـ كانت هى كلمة الله. والماء تفجر وشعب الله ارتوى، هكذا الكاهن يقرع "بالصلاة" فيتفجر ماء الحياة داخل الكأس لحياة ابدية.)
 
ـ الإفخارستيا وخروف الفصح
"فصح" تعنى "عبور" وهناك اتجاهين عند الآباء فى شرحهم، الأول يراه "عبور بنى اسرائيل فى البحر الأحمر"، والثانى يراه "عبور الملاك المهلك على البيوت التى لخذت علامة دم الخروف دون أن يصيب الابن البكر فيها"، "وهذا الاتجاه الأخير هو السائد عند الآباء، وهو أيضاً بحسب التدقيق اللغوى الأقرب إلى معنى الكلمة الحقيقى.
 
وهو اشارة بالغة الدقة ـ يلتقطها الكاتب ويبرزها ـ "إلى مفهوم الفداء عملياً؛ فقد صدر حكم بالهلاك ضد العالم بسبب الخطية التكون ى سادت فيه وعليه، ولكن الله قام بعملية فداء عظمى تغطى كل الأجيال فى كل الدهور وتشمل الذين يقبلون دم المسيح كعلامة خلاص، وهذا الدم إذ يلزم أن يكون موجوداً باستمرار وفى كل مكان وزمان، قدمه الله من عنده بروح أزلى ثم استودعه فى سر الكنيسة، أى سر الإفخارستيا مجاناً"، وينبه الكاتب اذهاننا إلى "أن سر المعمودية لا يخلو أيضاً من تعبير عن هذا الفداء والعبور أى الفصح، فعندما يُدفن الشخص فى الماء يكون كمن مات (تعبيراً عن الطوفان)، ثم عندما يقوم من الماء يُدهن بزيت الميرون بعلامة الصليب (دم المسيح) فيكون قد نجا بالصليب وقَبِلَ الفداء بدم المسيح كعلامة حتى لا يموت مع العالم.
 
ويؤكد هذا المعنى القديس يوستين الشهيد ، بل ويتجه جميع الآباء فيما بعد فى هذا الاتجاه السرائرى التقليدى فيما يختص بدم خروف الفصح، وهو عين ما أكده لاحقاً القديس هيبوليتس اسقف روما (170 ـ 235م)، فى قوله "الدم كعلامة هو للخلاص، كما كانت على البيوت كذلك على النفوس، لأن النفوس بالإيمان وبالروح القدس ما هى إلا بيوت (هياكل) مقدسة. هذا هو سر البصخة (الفصح) العامة للعالم كله".
 
وبحسب اقتباسات الكاتب نجد نفس المعنى عند رهط من قديسي الكنيسة الأولى لعل ابرزهم :
ـ ق. كيرلس الأورشليمى (313 ـ 386م.)
ـ ق. غريغوريوس النزينزى (329 ـ 390م.)
 
ـ ق. كيرلس الإسكندرى (378 ـ 444م.)
ـ ق. يوحنا ذهبى الفم (349 ـ 407م.)
 
وبينهم يجول الكاتب فى سياحة لاهوتية مبدعة يكشف فيها عن محورية سر الإفخارستيا فى الكنيسة، ينتهى إلى أن المسيح هو الفصح الجديد وهو ما يؤكده الكتاب المقدس "لأن فصحنا ايضاً المسيح قد ذبح لأجلنا (1كو 5 : 7)، فصار جسده حياة وقيامة، ودمه عهداً جديداً وغفراناً لخطايا العالم كله.
 
ـ الإفخارستيا ووليمة المسيا
"فى سفر التثنية يُحَدث الله شعبه عن وليمة مزمعة أن تكون فى الهيكل، يأكل فيها الشعب خبزه وخمره وأبكار غنمه أمام الرب (فى الهيكل) (تث 12 : 5 ـ 7).، وهذه الوليمة التى حددها الناموس لتكون وليمة المستقبل لكل الشعب فى الهيكل، يمكن اعتبارها صورة موسعة تذكارية لولية موسى ورفاقه الأخصاء على جبل سيناء، التى فيها رأوا الله وأكلوا أمامه والتى سجاها سفر الخروج (خر 24 : 9 ـ 11)."
 
"وكانت هذه الوليمة هى أول وليمة ذُكر فيها أن الإنسان أكل أمام الله، وكانت بعد استلام موسى دقائق ناموس العهد، فكانت بمثابة "وليمة العهد"، حتى أن كل وليمة أُقيمت بعد ذلك تُعتبر إحياء بالتذكار لها أو امتداداً لذلك العهد.
 
"ومن خلال هذا المضمون السرى لهذه الوليمة الأولى يمكن اعتبار الإفخارستيا التى صنعها الرب وأكل فيها تلاميذه معه وأمامه أنها وليمة العهد الجديد، وكان التلاميذ يمثلون الكنيسة، أى شعب الله الجديد.
ويذهب الكاتب إلى إشعياء النبى ليتعرف على أوصاف هذه الوليمة، بين الدعوة (ص55)، لها وبين من قبل الدعوة ومن رفضها (ص 65)، ورؤية اشعياء التى يرى فيها أنها وليمة لكل الشعوب "ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب فى هذا الجيل وليمة سمائن (مسمنات)، وليمة خمر ...مصفى (إش 25 : 6).
وبمراجعة أوصاف هذه الوليمة كما صورها العهد القديم "أنها وليمة حكمة فى المكان الذى يعينه الرب لكل الشعوب، لكل من يسمع الرب ويأتى، ويأكل فى حضرة الله، فهى وليمة عهد للشبع المجانى وشُرها للإرتواء المجانى، خمرها مصفى وممزوج، كلها مسمنات للفرح والترنم وطيب القلب، الجاهل إذا أكل صار حكيماً، والناقص الفهم يصير مباركاً!!"
 
ويطابق الكاتب هذا التوصيف على الوليمة التى اسسها الرب ليلة آلامه، فيجد أن الإفخارستيا هنا هى الاستعلان الواضح والعميق لوليمة المسيا فى جميع صورها التى ركز عليها العهد القديم كله فى ناموسه وطقوسه ونبواته ومزاميره ورؤاه، فى كل الأجيال.
 
ثم يسترسل فى تأكيد هذا من خلال اقوال اياء الكنيسة فى عصورها الأولى، والتى تؤكد "أن الإفخارستيا كما اسسها المسيح تُحتسب بالحق وليمة المسيا النبوية كما هى وليمة العهد الجديد" "وهى التحقيق النهائى "لوليمة المسيا" النبوية"، "والآن ندرك لماذا جاءت الافخارستيا بخبز وخمر، ولماذا جاءت فى موعدها هذا، لا على أساس آراء واجتهادات ومجادلات لاهوتية، بل على أساس تقليد وأسرار عميقة وإشارات قصدها المسيح وأدركها تماماً وعبَّر بها عن أمور فائقة على التصور والحصر .
 
ـ الإفخارستيا ومائدة الرب
يفتتح الكاتب هذا الفصل بنص المزمور 23 "الرب راعيَّ فلا يعوزنى شئ ..فى مراعٍ خصيبة يقبلنى ... تهيئ أمامى مائدة تجاه مضايقيَّ ....." ليجد القارئ نفسه أمام مائدة يرتبها الرب للإنسان، نحن أمام حضور إلهى على رأس مائدة سماوية يقدم فيها الله قدساته ليأكلها الإنسان:"هيـأت مائدة". هنا الله هو المخاطَب. "وكأسك مروية" هنا الله هو الذى يمزج الكأس ويقدمه!!
 
ويتحصن الكاتب هنا أيضاً بالتقليد ورؤية الآباء الأوائل؛ فيذكر "أن الكنيسة كانت تلقن هذا المزمور للموعوظين قبل المعمودية، وكان الآباء الأساقفة يقومون بشرحه باعتباره النور الهادى من العهد القديم الذى ينير الطريق من المعمودية إلى الإفخارستيا، فى موسم عيد القيامة، بالنسبة للموعوظين."
 
ويورد تعليقات الآباء على هذا المزمور، ومنها ما قاله القديس امبروسيوس (اسمعوا عن ماهية الأسرار التى نلتموها. اسمعوا داود ماذا يقول لكم، لأنه هو أيضاً رأى بالروح هذه الأسرار، وكيف استهل مزموره أنه لم يعد يحتاج شيئاً، لماذا؟، لأن كل من تناول جسد المسيح لم يعد يجوع بعد، انظروا كيف هو يطابق الأسرار السماوية.).
 
فيما يعلق القديس غريغوريوس التيسى على أسرار هذا المزمور بقوله: (بهذا المزمور يعلم المسيح الكنيسة أنه ينبغى عليك أولاً أن تصير غنمة وراء الراعى الصالح، بتعاليمه يقودك إلى المراعى وينابيع المعرفة والتعاليم الصحيحة. بعد ذلك تجوز معه الموت فى دفن المعمودية، غير أن ذلك ليس موتاً بحسب الظاهر وإنما شبه ومثال الموت، وبعد ذلك يعد لك المائدة السرائرية ويمسحك بزيت الروح، وأخيراً يقدم لك الكأس التى تفرح قلب الإنسان وتهب الثمالة الروحية والحكمة.)
 
وبعد أن يورد الكاتب ما قاله الآباء فى هذا المزمور وعنه، يطابق عليه ما قاله الرب يسوع المسيح، الذى قال "أنا هو الراعى الصالح" "إن دخل بى أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى"، "من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد"، "من آمن بى ولو مات فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن بى فلن يموت إلى الأبد"، "أنا هو الخبز الحى الذى نزل من السماء،إن أكل أحد هذا الخبز يحيا إلى الأبد"
 
ويختم الكاتب طرحه بما سجله القديس يوحنا فى رؤياه وهو يرى هذا المزمور وقد صار حقيقة تُرى بالعين:
فَقَالَ لِي:«هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثِيَابَهُمْ فِي دَمِ الْخَرُوفِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ، وَيَخْدِمُونَهُ نَهَارًا وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ.، لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ، لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ». (رؤ 7 : 14 ـ 17).
 
كنيستى ما أعمقك وما أجملك.