تأليف – روماني صبري 
 
كان يقود سيارته على الطريق الصحراوي السريع بسرعة جنونية، وسط موجة حر قاسية، فإذا به يبصر الشمس من شباك سيارته، فحدث نفسه :" ها هي تنظر ألينا نحن قاطني الأرض لتحرقنا بحرارتها، تستيقظ مبكرا لتجعلنا نتصبب عرقا، وهو ما ليس فيه أي احترام متبادل، وأقول ذلك كوني اكره موسم الصيف... إن ما الممكن الآن تخيل الشتاء امرأة جميلة نضرة تفرك عيناها فرحا لتقبلني وتحتضنني مختلسة فيا النظر فلا تنفر مني، كما تفعل زوجتي، ما يجعلني أبادلها هذا النفور والاشمئزاز غير الحقيقي، نعم غير الحقيقي، وها أنا ذا عدت أفكر في العودة لمصالحتها، سترحب بذلك كثيرا، فهي على أي حال طيبة النفس، يستطيع طفل في الرابعة من العمر خداعها بضحكة خبيثة لتعد له كوبا عاشرا من الايس كريم، كل ما في الموضوع أنها مختلفة عني أشد الاختلاف علاوة على أنها غيورة للغاية وتحبني كثيرا ! .
 
مد "عادل" يده في جيبه واخرج منديلا من القماش يراه رخيصا قذرا، ومرد استخدمه لهذا النوع القديم من المناديل، يعود إلى حبه لوالده رحمه الله، ثم أخذ ينشف عرقه، وعلى حين فجأة قرر العودة للمنزل، بعد ان استبد به الخوف، فالطريق الصحراوي شديد الكآبة وسيارات النقل الثقيل بدت في عينيه تجسيدا للموت وبشاعته، وهو نفسيا ليس على ما يرام، وكل ما اوهن قواه خلافاته مع زوجته، في الحقيقة رجلنا صاحب الأربعون عاما خرج من بيته بعد أن نظف حذاءه بمفرده وجعله يلمع، هربا من ثرثرة زوجته التي يراها ثرثرة لا طائل تحتها، فيعود يقول بعد ساعات كلا كلا ثمة نفع لها، فثرثرة النساء أمام الرجال تختلف كثيرا عن ثرثرتهن أمام بعضهن،  كما تختلف ثرثرة الرجال أمام النساء.
 
      
بعد أن سلك طريق العودة، رأى حمامة جريحة ملقاة علي جانبي الطريق تصارع الموت، ولأنه لا يصطنع حب الحيوانات فيأكل بعضها عند عودته للمنزل قائلا لا ضير في ذلك، أوقف سيارته الملاكي على الطريق، وتناول زجاجة مياه معدنية ثم ترجل من السيارة، ليجتاز الطريق بسلام صوب الحمامة، وحين وصل انحنى وامسكها برفق، وسرعان ما شعر انه لا يملك عقلا متقد الذكاء يجعله يداوي جراحها دون اللجوء للحل البشري المألوف، منقار الحمامة كان مشوها مكسورا، لم تكن تلهث جراء الحر، ليست في حاجة للمياه، لكنه رغم ذلك لم يحتقر نفسه واخذ يصب المياه على منقارها لعلها تشرب القليل، لم يكن ما يفعله تحديا، عاد يقول وهو ممسكا زجاجه المياه، سأظل هنا... إني أخاف في الحقيقة ليتها تتحدث وتلح علي حتى أدويها، لكنها لن تفعل وستظل تتكبد مشقة وهنها وضعفها وأخيرا جرحها القذر.
 
      
اختلس النظر فيها خجلا، نعم استبد به هذا الشعور الآن على حين فجأة، أبصر جناحيها المكسورين، وعظامها التي نفذت من لحمها، ومنقاريها وهما تخرجان دما، فاعتقد أن ناقلة خضراوات كانت مسرعة صدمتها، فمزح ضاحكا مختصا الحمامة : ولماذا السرعة الم تنتهي سنوات القحط والفقر واحتفى الجياع، حيث أن الجوع حين يضربنا يجر في ذيله الدميم الكوارث، فيأخذ فيفضح أقوانا لأننا لسنا مميزين عن الحيوانات والطيور، جميعنا نعاني الوهن، ما يجعلني أشفق على الجميع، ها قد خارت قواي، وأنا لا أرحب بالكوارث ولا أتزين لها كالبعض، ولا اسد أذناي حين تعزف الموسيقى... الموسيقى جميلة تجعلني لطيفا في الحديث، لطالما أوليت لها اهتماما، حين روعتني تجربة وفاة والدي، كدت أقدم على الانتحار نعم كنت سأشنق نفسي  كما يفعلون مع القتلى شديدي الخطورة، حتى سمعت وقع خطوات جلبت البهجة وحين التفت رأيت فتاة تعزف على الكمنجة أمام سينما "مترو" بمنطقة وسط القاهرة، وظلت تركض وهي تذرع محيط المكان طولا وعرضا، وبعدما مضى شهرا فقط أصبحت زوجتي "ياسمين"، لذلك ألا يكفي أن نتفق على حب الموسيقى أليس ذلك يجعلنا سعداء رغم الاختلاف ؟!.
 
لم تجب الحمامة لم توليه أي اهتمام، فيكفيها آلامها، خيل إليه أنها تطلب الرحمة، وفي مثل هذه المواقف دائما ما يختار الإنسان حلولا ترضيه، إن ذلك لمن عاداتنا نحن البشر، بات الرجل شديد البلاهة في نظر نفسه، وليجتاز ذلك ألقى بزجاجة المياه بعيدا، دون أن تعرفه الغبطة والسرور، وشرع يحدث نفسه :" أنا أقيم الآن بمدينة من المدن الجديدة، وان أخذت الحمامة إلى عيادة بيطرية سيكون عرفها الموت في الطريق، فضلا عن السخرية الشديدة التي ساجنيها من قبل الأطباء، فمن بإمكانه شفاءها من جرحها البالغ!، هيا هيا اقتلها امنحها الراحة، وإذا به يركض صوب سيارته ليحضر مسدسه حتى يفجر رأسها، رأى انه من الصواب  تخليص الأبرياء من الألم ولو بالموت، وما زاد الأمر تعقيدا وبلاهة قوله لا تعطينا الحياة إلا خيارين كلاهما كارثي لذلك يتسع الخيال ونرسم لوحة لنا داخله بأننا ملوك الأرض و أصحاب القرار، وبمجرد أن امسك مسدسه وكاد يخرج من سيارته، إذا به يبصر سائقا ينتعل حذاء جديدا أوقف سيارته وترجل منها بالقرب من موقع الحمامة، قطع الرجل بضع خطى، وحين وصل للحمامة الجريحة انحنى وحملها برفق، ثم اخذ يدمدم : لو كنت الرجل الذي كنت عليه سابقا لكنت أطعمتها حية لكلابي، وعلى حين فجأة لفظت الحمامة أنفاسها الأخيرة، فأسرع السائق ينبش الرمال فاعد حفرة صغيرة تناسبها، وضعها داخلها برفق ثم أهال عليها الرمال، ومضى يركب سيارته، وقبل أن يقودها حدث نفسه :" في اليوم الذي انتعل فيه حذاء جديدا يجعلني قدري الأسود حانوتي للطيور، ثم شرع يبصق على حذاءه وبواسطة منديله مسحه فجعله يلمع. 
 
 
هبط المساء، وعاد الرجل لمنزله دون أن ينطق بكلمة، لم يدخل حجره طفله ليوقظه كما جرت العادة، فإذ تبصره زوجته، ودون أي تردد راحت تمسك بكلتا يديه، وهي منشغلة البال وغير نظيفة، أخذت تجهش وتبكي، بعد أن لفت ذراعيها حوله، واختصته بالقول :" المطبخ اللعين وإعداد الطعام يجعلان ملابسي قذرة ... لا تترك المنزل غاضبا حين نتشاجر، فدمدم يقول : يجب إرجاء البت في مثل هذه المواضيع التافهة، ثم رفع نبرة صوته وهو يحتضنها بشدة قائلا : أناشدك الرب لا تطلبين مني مجددا  تقويم روحي، سكت هنيهة ثم استطرد يقول : أكان عليك الخضوع لإرادتي حين طلبت منك اعتزال فرقتك الموسيقية بالأوبرا ؟، فردت :" رباه لكم كان قرار دميما طفح بروحي حزنا عظيما .. لكنك أنت أيها الوغد .. نعم أنت ووالدتي السبب، لطالما كرهت الموسيقى، كانت تقول أن الفتاة التي تعزف الموسيقى لن تظفر بزوج صالح... فليرحمها الله كنت أحبها رغم ذلك ... ولكن لماذا تعاتب نفسك الآن أيها الرجل المتناقض .  
 
رد قائلا :" اليوم كدت افجر رأس حمامة حتى أريحها من الألم كان اختيارا سهلا .. حمامة كانت تصارع الموت على الطريق وفي الحقيقة أبديت عزما شديدا لقتلها لكنه السائق الحقير من سبقني، ما يعكس إنني لست جبانا كما يقال عني، إنني أحب نفسي، ... الم تلاحظي كيف إننا رغم الحديث لم ننفك عن بعضنا البعض ؟! ، فقاطعته : دعك من كل ذلك يبدو انك لازلت تغرق في الخيال، أنت في النهاية إنسان بسيط مثلي لذلك سأعزف لك على "كمنجتي" تلك التي كنت اشتريتها قبل زواجي منك من حر مالي، بعدها نتضاجع ثم نذهب لتناول العشاء خارج المنزل .. اها نسيت أن أخبرك الطفل أرسلته لوالدتك .