القارئ الحبيب: كالكثيرين شغلتني نظرية التطور منذ عقود عديدة وبالأخص في سنوات العقد الحالي حيث اتيحت لي الفرصة لدراسة متعمقة وفاحصة لها ولكثير من فروعها وعلمائها في بحث عن الإجابة على السؤال عن مدى تأثيرها على الكثير من نواحي الحياة وأثر ذلك التأثير علينا جميعا وأيضا في التحديات التي تواجهها والردود عليها. 
 
اعتقد انني بالتأكيد لست أفضل شخص يتحدث عن نظرية هامة مثل نظرية التطور شديدة التشعب والتعقيد وهناك بالطبع الكثيرون ممن هم أفضل مني بكثير في هذا المجال، سيسعدني مع ذلك ان كنا نستطيع تناول المادة المقدمة ومحاولة الإجابة العلمية المنطقية على ما نطرحه في هذه السلسلة.
تمثل نظرية التطور العمود الفقري لمناهج التعليم في الغالبية العظمى من المدارس على مستوى العالم، كما تلعب دور المفسر الأوحد لكثير من الظواهر الطبيعية مثل علوم الحيوان والحياة والجيولوجيا والكثير من العلوم الاساسية والفرعية الأخرى، كما تهيمن تلك النظرية على الغالبية الساحقة من البرامج العلمية في الميديا محليا وعالميا. 
 
ونظرية بمثل هذا الوزن والتأثير تستحق ان منا جميعا فحصا متأنيا يساعدنا على الاقتراب منها والتعرف على تفاصيها ومحتواها والتحديات التي تواجهها. وقبل ان نتناول بعض تلك التحديات نبدأ بمقدمة سريعة عنها.
أشهر نوع من التطور هو ما يُسَمًى ب "التطور الكبير" وهو تطور أنواع الكائنات الحية من جدود لها اقل تطورا وتعقيدا من كائنات الخلية الواحدة الى كل التنوع الذي نراه في الكائنات الحية، ولكن نظرية التطور توسعت لتشمل مجالات اخري وهي:
 
1. نظرية تطور وتكون المادة، وأشهر ما في هذا الفرع هو "الانفجار الكبير" او "Big bang" الذي يفسر تكوين الكون. ويحدد هذا الفرع عمر الكون بحوالي 13.7 مليار سنة
 
2. نظريات التطور الكيميائي، فحسب نظرية التطور كان ناتج الانفجار الكبير كونا مكونا من العناصر الخفيفة فقط مثل غاز الهيدروجين، ويقدم هذا الفرع نظريات تطور العناصر الأخرى الاثقل مثل النحاس والحديد والذهب وغيرهم عبر ما يسمونه بأجيال النجوم
 
3. نظريات تطور المجرات والنجوم والكواكب مثل مجموعتنا الشمسية وتشكلها من المواد المختلفة، وتقدم النظرية فرضيتها بأن الشمس هي نجم من الجيل الثالث وتتشارك مع كوكب الأرض في كون عمرهما حوالي 4.7 مليار سنة
 
4. نظريات التطور العضوي أي تكوين المواد العضوية شديدة التعقيد والخصوصية والتي هي أساس كل الكائنات الحية، وتقول تلك النظريات ان هذه المرحلة انتجت ما يُسَمًى ب "الشوربة العضوية" التي تكونت منها بعد العديد من الصدف اللانهائية الخلية الحية الأولى او ما تُدعى "الخلية الام" وأيضا "الكائن الأولي" والتي تطورت منها عبر مليارات السنين كل الكائنات الحية الأخرى، بما فيهم الانسان. تلك الشوربة العضوية تكونت منذ حوالي 3.8 مليار سنة (تغيرت حديثا الى 4.1 مليار سنة)، أي عندما كان عمر كوكب الأرض اقل من 500 مليون سنة بحسب تقديرات نظرية التطور
 
5. الفرع الأشهر من نظرية التطور هو نظريات التطور الحيوي ويقدم ابحاثا وتفسيرات عن تطور الكائنات وتنوعها من اسلافهم الأقل تعقيدا وتخصصا، بما فيهم مثلا نظرية تطور الانسان من القرد او وجود جد مشترك بين الانسان والقرد يفصلهم العديد من حلقات التطور عبر ملايين السنين.
منذ بدأ التاريخ وحتى أواخر القرن ال 18 أي عبر آلاف وآلاف من عمر الحضرة البشرية لم ينادي أي أحد بتعليم يشابه نظرية التطور واقتصرت التفسيرات المختلفة على نسب الخلق وعلة وجود الكائنات والحياة الى الإله كما نسبت اساطير الأديان الأخرى التي تؤمن بتعدد الآلهة الخلق الى كثير من تلك الآلهة
في سنة 1770 بدأ الطبيب الإسكتلندي جيمس هوتون James Hutton ينادي بقدم عمر الأرض وان الكتاب المقدس أخطأ في تسجيله لتاريخ خلق الأرض وأنها خُلِقَت في ستة أيام كما نادى بفكرة العمر الطويل للأرض وبدأ الشك في مصداقية الكتاب المقدس لدى الغربيين وفي وجود إله خالق في التداول. ولكنه لم يقدم أي دليل على أفكاره او نظرية بديلة للخلق ووجود الكائنات.
 
 البعض يقدم هوتون كأب لعلم الجيولوجيا الحديثة وان كان أكثر التطوريين يرون في تشارلز لايل Charles Layell الشخص الأكثر جدارة بهذا اللقب.
سنة 1830 قدم المحامي البريطاني تشارلز لايل Charles Layell بحثه عن قدم عمر طبقات الأرض بناء على جيولوجيا شلالات نياجرا وفيه قدر عمر الأرض ليكون حوالي سبعين ألف سنة بدلا من ستة آلف سنة وهو عمر الارض المتداول لدي اللاهوتيين. 
هناك امران جديران بالذكر هنا، ان لايل أخطأ كثيرا في تقديره المغال لعمر شلالات نياجرا، وان هدفه الأساسي لم يكن علميا وانما كان هو تدمير الكتاب والمقدس والتاريخ الكتابي كما كتب هو ذلك بنفسه في الخطابات التي أرسلها الى شقيقته.
أيضا هنا لم يقدم لايل أي تفسير بديل لوجود الكائنات والحياة، الامر الذي بات مشكلة عويصة لكل تلك النظريات.
في سنة 1859 كتب خريج كلية اللاهوت الانجليزي تشارلز داروين Charles Darwin كتابه الأشهر "أصل الأنواع" او "On the Origin of Species" وفيه قدم نظرية التطور كتفسير لتطور الكائنات الحية من كائنات بسيطة أحادية الخلية، نلاحظ هنا ان عنوان الكتاب "أصل الأنواع" لم يتحدث عن "الأصل" أي عن ذلك "الكائن الأولي" او كيف تكون وتطور حتى بدأت الحياة ذاتها. 
تولى العديد من علماء التطور بعد داروين تعديل وتطوير نظريته في تطور الأنواع كمثل "الداروينية الحديثة" وغيرها، وقدموا في هذا السياق ما لا يُحصَى من المقالات والدراسات المتوافقة او المتعارضة والرافضة لكثير من أبحاث الآخرين.
يعوزني الوقت حتى أقدم اهم المحطات التاريخية لنظرية التطور والتي لا تقل أهمية عن نشأة النظرية ذاتها، ولعلنا سنعرض لبعض هذه المحطات في إطار هذه السلسلة.
في المرة القادمة سنتحدث عن تحديات علمية تواجه العنصر الأهم في هذه النظرية الا وهو بالطبع عنصر الزمن الممتد الى مليارات عديدة من السنين، فحتى نلتقي ابقوا سالمين.