محمد طه
النهاردة أتممت 45 سنة فى هذا العالم.. وعلى هذه الأرض.. رقم يخض.. ويحمل كثير من المشاعر.. والآمال.. والمخاوف.. والاحتمالات..

الخمس سنين اللى فاتوا كانوا من أثرى سنوات حياتى.. كثير من الوعى.. كثير من الاكتشاف.. كثير من التغير النفسي والعقلى والروحى.. وكثير من القرب من الناس.. وأهم من كل ده.. كثير من الحرية..

أعتقد إن أعظم حاجة ممكن تحصل جواك لما يزيد سنك ووعيك وتجاربك.. هى إنك تتحرر من سجونك العتيقة الخفية، واحد ورا التانى..

تحررت أولاً من القالب النمطى للطبيب اللى دافن نفسه فى عيادته.. ينزلها سبع أيام فى الأسبوع.. يقعد فيها اكتر ما يقعد فى بيته.. ويمحور حياته كلها حواليها.. قللت عدد أيام عيادتى.. وعدد حالاتى اليومية.. وبقى معايا فريق من أفضل وأكفأ الأطباء والمعالجين النفسيين فى مصر.

تحررت من خوفى من انتشار الشعر الأبيض فى راسى.. اللى هو أصلاً خوف من الموت.. قاومت صبغة الرأس.. وطلع كده أحسن بكتير..

تحررت من كلام الناس.. ونظرة الناس.. وأحكام الناس..

تحررت كمان من عقدة انى لازم أكتب باللغة العربية الفصحى، اللغة اللى بحترمها جداً.. بس مش باتكلم بيها ولا باسمع بيها ولا بافكر بيها.. فكتبت بالعامية المصرية.. كتبت طب نفسي وعلم نفس وعلاج نفسي بأبسط لهجة، وأسهل ألفاظ.. وخاضت دار تويا للنشر معايا المخاطرة بكل شجاعة.. علشان نعمل نقلة نوعية حقيقية فى الوعى النفسي فى مصر والعالم العربى.

تحررت بعد كده من الرغبة فى تلبية كل دعوة لندوة أو محاضرة أو لقاء فى قناة تليفزيونية، أو محطة إذاعية، أو مكتبة أو صحيفة أو موقع اليكترونى.. لزيادة النجاح والانتشار (وهو هدف مغرى جداً).. واكتفيت بفقرة واحدة ثابتة.. فى قناة واحدة محترمة.. كانت أفضل ناقل وموصل لفكرى ورسالتى.. بدون صخب أو ضجة.

تحررت من كثير مما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من ذكورة شرقية خائبة.. تختزل الأنثى وتحتقرها وتسجنها فى خانة حياتية واحدة اسمها الجنس.. فالمرأة إما سجينة مخاوفنا الجنسية.. أو محققة أحلامنا الجنسية.. أو مشروع فضيحة جنسية..

تحررت من أى حب أو سعى نحو اسم أو لقب أو منصب.. ومانع نفسي عن الاستقالة من التدريس بالجامعة بالعافية..

تحررت من أى نهم أو جرى وراء ثروة أو مال.. عايش حياتى يوم بيوم حرفياً..

بدأت أتحرر من البدلة والكرافتة قدام الكاميرا..
وكمان البدلة والكرافتة اللى جوايا..
من الأكل الكلاسيسكى التقليدى..
من كل معنى مزيف للحب..

ولسه كتير..

ولكن..

الأسبوع اللى فات كتبت بوست على صفحتى، وكانت معظم تعليقات القراء ناقدة ورافضة ومهاجمة لى.. وبالرغم من إنى كنت متوقع قدر معين من المعارضة واختلاف الرأى.. لكنى ماكنتش متوقع أن يصل الأمر للدرجة دى..

وبغض النظر عن محتوى البوست ومحتوى التعليقات.. بس اللى حصل ورانى نوع جديد من السجون.. اللى مهم يكون عندى الشجاعة إنى أتحرر منها.. والاستعداد لدفع تمن ده.. سجن الجمهور.. سجن المتابعين.. سجن المحبين والمريدين..

هاتعمل إيه يا محمد يا طه لو اكتشفت ان متابعينك كانوا شايفين فيك مثل أعلى.. وقدوة.. وعاملين ليك اللى انت حذرت منه على صفحتك الف مرة.. Idealization- تقديس، تنزيه، طلوع للسما؟ هل عندك استعداد تواجه النص التانى من اللعبة.. اللى هو الDevaluation- نزع القيمة، التهوين، النزول لسابع أرض؟

هاتعمل إيه فى اللحظة اللى هايكون عليك فيها انك تختار بين انك تنافق جمهورك.. أو تكون نفسك.. مش انت مليت الدنيا كلام عن النفس الحقيقية والنفس المزيفة.. اللى هدفها إرضاء الناس والتكيف معاهم؟

قد إيه مستعد تخسر جمهورك؟ قد إيه موافق تختلف عنهم؟ قد إيه تقدر تصطدم بيهم؟

قعدت أسبوع كامل أسأل نفسي الأسئلة دى وغيرها.. لغاية ما شوفت السجن.. وشوفت قد إيه هو فعلاً سجن.. وقد إيه ممكن يكون قيد على النمو.. وشلل للحركة..

وأعتقد إنى لقيت الإجابة..

أنا مش قدوة.. ومش مثل أعلى .. ومش عاوز أكون قدوة أو مثل أعلى..
أنا بنى آدم.. ليا أفكارى.. ومعتقداتى.. اللى ممكن تثبت.. أو تتغير.. أو حتى لا تصبح أفكارى ومعتقداتى ثانية..
أنا بشر.. من حقى أجتهد.. وأصيب.. وأخطأ.. وأتفق.. وأختلف..

مش هاينفع أتسجن فى عيون الناس.. وأنا باعلّم الناس مايتسجنوش فى عيون حد..
مش هاينفع أفضل عند توقعات غيرى.. وأنا عمال أوعي غيرى انه مايكونش عند توقعات حد..
مش هاينفع أِكون غير نفسي.. زى ما بادعو كل نفس ماتكونش غير نفسها..
ومش هاينفع اتربط بسلاسل النجاح.. لغاية ما تخلينى مشلول مكانى..

لو كان الثمن هو خسارة الجمهور.. فهو ده نفس الثمن اللى بيدفعه أى حد أنا باطلب منه يكون نفسه.. ده بيخسر أحياناً أقرب الناس ليه.. انا مش أحسن منه..

لو كان المقابل هو الاصطدام بالناس.. فهو اصطدام بمعنى الconfrontation (التقابل وجهاً لوجه).. وليس بمعنى الChallenge (التحدى)..

ولو كان الحل.. هو أن أزين كلامى.. وأزيف نفسي.. فده السجن.. اللى مش هاينفع أتسجن فيه أبداً.. ولتسعنى عيادتى.. وبيتى.. ومدرج محاضراتى..

أول اصطدام بينى وبين أستاذى دكتور رفعت محفوظ كان من حوالى 18 سنة، كنت باحضّر بحث علمى بسيط، وطلب منى أحد المشرفين إنى أخفى معلومة معينة عن د. رفعت، وقاللى لو دكتور رفعت سألك قوله ماعرفش.. وهانخليها ليه مفاجأة فى اللآخر.. وراح الشخص ده نفسه بعد شوية قال لدكتور رفعت عما أخفيناه عنه. قام دكتور رفعت عمل اجتماع للقسم كله.. وجابنى قدام كل الناس.. وقاللى: كنت عارف المعلومة دى يا محمد؟ قولتله: آه.. قاللى: وفلان طلب منك تخبيها عنى؟ قولتله: آه.. قاللى بصوت عالى فى أول وأقوى رسالة توصلنى منه: بتشوه نفسك علشان فلان يرضى عنك يا محمد؟ بتشوه نفسك علشان بنى آدم يرضى عنك؟

بس يا سيدى..
خلينى أقول تانى من الأول..
أعتقد إن أعظم حاجة ممكن تحصل جواك لما يزيد سنك ووعيك وتجاربك.. هى إنك تتحرر من سجونك العتيقة الخفية، واحد ورا التانى..

أنا عارف انه لسه فيه سجون تانى.. بعضها أعرفه.. وبعدها ماعرفهوش لسه..
ولسه فيه اكتشافات تانى.. وصعوبات تانى.. وتغيرات تانى..
ولسه الرحلة طويلة..
رحلة الوعى.. الوعى بالنفس.. والناس.. والحياة..
رحلة المعرفة.. معرفة النفس.. والناس.. والحياة..
رحلة التحرر.. من سجون النفس.. وسجون الناس.. وسجون الحياة..
آه..
لأنى متصور إن آخر خطوة فى الرحلة دى.. هى إن الواحد يكتشف إن الحياة نفسها سجن.. سجن واسع وكبير ومغرى..
وأعتقد إنه عند اللحظة دى..
هايكون الموت ليه معنى..
معنى التحرر التام والدائم..
من كل سجن..
من سجن الجسد نفسه..

ياللا..
كل سنة وأنا طيب 😊