سحر الجعارة
يبدو أننا فى حاجة -كل فترة- لمراجعة مفهوم «الحرية»: هل هى التى تتفق مع الدستور والقانون وتتطابق مع العادات والتقاليد والمنظومة الدينية - الأخلاقية، أم أنها «التمرد» على جميع أشكال القيود، لإحداث تغيير جذرى فى الموروث الاجتماعى وتغيير بوصلة الحياة السياسية والاقتصادية؟.

هل هى «حق مطلق» لكل مواطن مهما كانت ثقافته متدنية أو كان وعيه زائفاً.. أم أنها تحتاج لـ«حصانة ما» ويحتكرها بعض الأفراد حتى لو كانوا من ألد أعدائنا؟!

إن فكرت من زاوية «الأمن القومى» للبلاد ستجد أنه باسم الحرية والديمقراطية جاء خريف الغضب ليحطم أوطاناً باسم «الفوضى الخلاقة».. لكن البلدان التى نجت من طوفان الفوضى «مصر نموذجاً» نجحت فى مواجهة الإرهاب وتشكيل وعى جمعى بخطورته، وحققت خطوات الإصلاح الاقتصادى بأقل آثار اجتماعية ممكنة، وتمكنت من اكتساب احترام العالم، وتكوين لوبى عربى ضاغط ضد الدول الداعمة للإرهاب.. لكن بقى الكائن الخرافى المسمى بـ«العالم الافتراضى» يهدد استقرارها السياسى من كل زاوية.

على الشبكة العنكبوتية يقوم تنظيم «داعش» الإرهابى باستقطاب الشباب وتجنيدهم، ومنها تعلم الأطفال تركيب القنابل اليدوية، أصبحت السوشيال ميديا ساحة حرب، وأدواتها أخطر بكثير من وسائل الإعلام التقليدية، وعادة ما نطلق عليها إحدى أهم آليات الجيل الخامس من الحروب، والذى أصبح معروفاً بالحرب الرقمية.

على السوشيال ميديا ستجد أبواق التحريض الإخوانية بالصوت والصورة، ومحاولة «التفجير من الداخل» مستمرة.. ستجد أبواق الكراهية ضد الأقباط لإشعال الفتنة الطائفية، ومواقع «حزب الكراهية» الذى يسعى لاغتيال القوى الناعمة لمصر وفى مقدمتها المفكرون والمبدعون بانتزاع العبارات من سياقها والصور والألفاظ الخارجة.. وكلها مواقع حربية امتدت إلى السياسيين!.

موقع واحد مثل «أنا سلفى» لياسر برهامى، أو هاشتاج #الأزهر - قادم، لـ«عبدالله رشدى»، الممنوع من الخطابة، كفيل باغتيال الشخصية المصرية ومحو هويتها لتصبح مسخاً مجذوباً يسير فى القطيع خلف «شيخه»، إنها سياسة زرع الخلاف ما بين الدولة والمجتمع، باستغلال جميع الوسائل، لإحداث الخلل فى العلاقة بينهما، فيقول الخبراء إن حرب الجيل الخامس تعتمد فى استراتيجيتها على احتلال العقول لا الأرض.. ونحن نتعرض لحرب ممنهجة.. وكان يُفترض أن نجد فى المقابل جيلاً جاهزاً للتصدى بنشر الاستنارة وتجفيف منابع الفكر التكفيرى، لكن هذا التيار -بكل أسف- محروم من التعبير عن نفسه لأن سيف «قانون الازدراء» مسلط على رقبته وكتائب الحسبة تطارده ومواقع «الجهاد التكفيرى» تتولى اغتياله معنوياً!.

هذا العالم لا يطبق القانون إلا على الصحفى، لأنه الوحيد الذى يساءل -بموجب قانون الصحافة- حتى عن تعليقات القراء على ما يكتب!.. كان لا بد أن نجد خلف الكتاب التنويريين كتيبة من الشباب الوطنى الذى يخوض معركة غير متكافئة مع كتائب الإخوان الإلكترونية.. هؤلاء الشباب سوف تجدهم على «تويتر»، ربما لأن «تويتر» لا يخضع للقواعد القانونية التى يفرضها «الفيس بوك» حيث يمنع الأخير جرائم الكراهية أو انتهاك حقوق الطفل وما إلى ذلك.. فأين ذهب بقية الشباب؟!.

نجحت الدول المعادية فى تغييبهم بنفس أدوات السلفية الجهادية - التكفيرية التى تعد الإرهابى بالجنة و«الحور العين»، وتملأ العالم العربى بفتاوى الهوس الجنسى وافتراس المرأة ونهش لحمها بزعم أنها سافرة.. فجاء العدو ببرامج تحقق للشاب جنته الموعودة على الأرض، وبدأت التجربة على موقع تويتر الذى أصبح يبث مقاطع من أفلام البورنو، وفتح المجالات لحسابات تدعو إلى الدعارة بإسم التحرر (إن شئت التأكد اكتب كلمة متحرر على تويتر لن تجد إلا حسابات تدعو للرذيلة)، ومع الإغراء بالرذيلة كان لا بد من تقديم الدعم المادى، وهذا ليس استقطاباً فحسب بل تدمير ممنهج للعقل المصرى.

«يوتيوب» أول موقع يدفع أموالاً على نشر الفيديوهات ويضع عليها إعلانات، ولكن بأحكام وشروط قانونية تشبه قواعد الفيس بوك، ولهذا ستجد لكل الفضائيات مواقع عليه، وستجد شاباً مثل «حسن شاكوش» يمكنه أن يكسب بأغنية واحدة أكثر من 50 مليوناً.. فكان استغلال الشباب من خلاله مستحيلاً، فجاءت برامج مثل «Tik tok، Likee» لتصبح كاميرات الهواتف كلها مفتوحة لمن يشاء فى مراقبة أى موقع.. وتصبح الأجساد متاحة لأى أبله تفرّغ لغرائزه وأسقط من حساباته دوره الوطنى والمجتمعى.

هذه البرامج لا تخضع للأحكام الأخلاقية -من وجهة نظرى- بل هى خطر مؤكد على «الأمن القومى» لأى بلد بالمعنى الدقيق للكلمة.. فخ يقع فيه هواة الشهرة والنجومية والباحثون عن مكسب سريع.

لقد بدأت عملية التغريب والتجريف الثقافى للعقل العربى فى فترات الاستبداد السياسى.. فكان البديل هو اللجوء للسوشيال ميديا (معظم ثورات الربيع العربى بدأت من العالم الافتراضى)، فكانت السوشيال ميديا حاضرة وفاعلة فى الحراك السياسى (ومعها الإعلام المرئى والمكتوب)، كما دقت أول مسمار فى نعش عصابة «الإخوان» التى سرقت مصر.. حركة «تمرد» بدأت منها حتى وصلنا إلى 30 يونيو.. فلا يمكننا الحكم على الشبكة العنكبوتية برقصة أو أغنية أو قضية دعارة، بل لا بد أن نحكم على أنفسنا كيف نستخدمها وكيف نوظفها لخدمة قضايا سياسية أو تنويرية أو حتى ترفيهية.

عندما ظهرت لعبة Pokémon التى تمزج بين الواقع والعالم الافتراضى.. ظهرت «فتاوى التحريم» فى مصر والسعودية -مثلاً- وركزت جميعها على أن اللعبة «ميسر» وهى ليست كذلك بالمناسبة.. بينما حظر الجيش الإسرائيلى على جنوده استخدام التطبيق فى ثكناته، خشية تصوير المواقع العسكرية، فاللعبة تقوم على العثور على شخصيات «بوكيمون» بالأماكن المحيطة باللاعب بكاميرا الهاتف وبخرائط تحددها الشركة المصممة للعبة.. ومن بينها بالقطع مزارات سياحية ومنشآت حيوية.

نحن لسنا مرضى بالوسواس القهرى، ولا أسرى «نظرية المؤامرة».. فقط فتش عن «الحرية» فى مكانها المناسب، ربما تجدها تائهة تبحث عن لذة عابرة.
نقلا عن الوطن