سحر الجعارة
أصعب أنواع الكتابة، فى المرحلة الحالية، هى أن ترتدى ثوب الواعظ وتعطى نصائح للآخر، «قد لا تأخذ بها»، وأن تحدث الإنسان عن قهر القلق والتوتر للحفاظ على قوة جهاز المناعة، وأن تنطلق لتعدد مصادر البهجة والمتعة الممكنة فى ظل ساعات الحظر الطويلة أو مع التهديد بالموت الذى يحاصرنا به وباء «كورونا - كوفيد 19».

والأصعب من ذلك أن تمنح القوة للآخر فى وقت أنت أحوج ما يكون فيه لمن يضمك ويبث فيك الطمأنينة ويعيد حالتك المزاجية إلى «معتدلة مستقرة» وليست «حادة متوترة».. لكن من خلال تجربتى فى الحياة تعلمت أن العطاء هو فى الوقت ذاته أخذ، فهو يهبك نفس المتعة علاقة تبادلية «بدرجة ما» قد تزيد فى جانب وتقل فى الجانب الآخر.

بداية، نحن ندخل تجربة جديدة بدون أى أسلحة معرفية ولا وسائل دفاع طبية، فكل المتاح لنا لا يزال «قيد البحث والتجربة»، لكن المخ مصمم، بحيث يمتلك القدرة على «بدائل للتكيف»، شريطة أن تجنبه السيناريو الكارثى والأفكار السوداوية، وتمكنه من قبول «الواقع».. وقبول الواقع هو أولى درجات التأقلم النفسى والاجتماعى مع الجائحة التى وضعت العالم كله خلف أسوار الحظر والذعر.

للأسف أن كل مصادر تشبثنا بالحياة، «الأهل، الأطفال، العمل، الأصدقاء»، قد تحولت إلى مصادر خوف على الأحباء، خصوصاً من المرضى وكبار السن، هذا الخوف قد أدى بالبعض إلى عزل نفسه عنهم، لكنه بالضرورة لا بد أن يتواصل معهم إنسانياً، وأن يحول الخوف إلى عنصر إيجابى بالتشديد على حمايتهم بالإجراءات الاحترازية «دون تبسيط أو وسوسة».. وهناك أسر أخرى لم تعتد الاحتكاك اليومى والوجود المستمر وجهاً لوجه، ما أدى إلى شرارة اختلاف أو تفريغ لشحنة التوتر فى الطرف المواجه لنا.. فلا بد أن ندرك أن الظرف المؤقت الذى نمر به يفرض علينا «التكيف» مع البشر «كما هم» وليس كما نتمنى أو عكس ما اكتشفنا بالعلاقة اللصيقة.

البعض ينظر إلى الانهيار الاقتصادى باعتباره نهاية العالم، فقد يهدده بفقدان وظيفته أو قلة الدخل، والأمر لا يحتاج لخطط مستقبلية، «فملامح المستقبل كله لم تتضح»، بقدر ما يحتاج إلى إعادة صياغة أولويات الإنفاق والإبقاء قدر الإمكان على الموجود من مدخرات.

فى علم النفس ما يسمى بمتلازمة «الاحتراق النفسى»، وهو مرض متعلق تحديداً بالمهنة، وكلما زادت الضغوط المهنية، «الطب على رأس القائمة»، زاد الشعور بالإرهاق البدنى والعقلى والاكتئاب، والكوادر الطبية فى العالم أجمع يعملون ليل نهار، ويقفون على خط المواجهة مع الوباء تحت ضغط نفسى وجسدى شديد، وهم عرضة للعدوى، مما قد يؤدى إلى استنزاف طاقاتهم الجسدية والعقلية.. وهذا ما يسمى متلازمة الاحتراق النفسى «Burnout Syndrome».. أو اكتئاب المهنة، والتى تم اكتشافها فى السبعينات، وفى البداية كان الواضح أنها تصيب من يقوم بمهنة ترتبط بـ«مساعدة الآخرين» أو الرياضيين ونجوم موقع اليوتيوب ورواد الأعمال.. ولهذا سمعنا -الآن- عن قيام وزارة الصحة بالدعم النفسى للأطباء، لكن الواضح أن كل من «يتوحد» مع مهنته ويغرق فى الأرقام والتحليلات، «مثل الصحفى أو مسئولى المواقع الإلكترونية»، هم عرضة للاحتراق النفسى دون شك.. فكيف تقاومه؟

أتصور أن التعامل الإنسانى مع الأرقام والمعلومات بأسلوب يتيح لك التعرف على حجم الخطر الحقيقى، «دون تهويل أو تهوين» هو نقطة البدء، مع عدم تداول الأنباء أو المعلومات السيئة ونشرها دون التأكد من صحتها.. لا بد أيضاً أن تبتعد عن وسائل التواصل الاجتماعى على فترات متقطعة، «افصل الراوتر»، وأن تمارس أى هواية محببة أو تشاهد فيلماً المهم أن تتوقف عن التفكير وترديد كلمة «كورونا».

التقرب إلى الله من أهم الوسائل الدفاعية التى يكتسب منها الإنسان «السلام الداخلى»، بالصلاة أو الدعاء، خاصة إذا ارتبطت بفعل الخير.. فسياسة «الأنا مالية» ليس لها مجال الآن.. وفى ظل التباعد الاجتماعى يمكنك القيام بمساعدة مادية -مثلاً- لمن فقد مهنته المؤقتة.. فإن استغنيت عن المساعدة فى المنزل يمكن أن ترسل لها راتبها.. وهكذا.

«انشر البهجة».. هل تراها عبارة غريبة؟.. صناعة البهجة بالسخرية أو الفكاهة أو التسلية ليست عاراً وليست سلوكاً شاذاً فى محنة.. بل على العكس تدريب ذاتى على اكتساب مزاج إيجابى يعزز مناعة جهازك المناعى.

«كورونا ليست نهاية العالم».. فالبشرية سبق أن انتصرت على كوارث أكبر: فيضانات وزلازل وبراكين، وبقى الإنسان ما دام حريصاً على «البقاء».
نقلا عن الوطن