سحر الجعارة
فى هذا التوقيت تحديداً كنت أتمنى أن أمنح القارئ «طاقة إيجابية» تدفعه للصمود فى مواجهة الجائحة كورونا، كنت أتمنى أن أرى البشر يكتسبون «حصانة الوعى» يوماً بعد يوم، يدركون أهمية الاصطفاف الإنسانى فى محاربة وباء يغتال الحياة فينا، دون تمييز بين أدوارنا الاجتماعية والإنسانية، وباء لا يخجل من ملامح الأم فيتركها لأطفالها، ولا يتوارى بعيداً عن الأطفال والشباب ليستكملوا رحلتنا ويحققوا أحلاماً رسمناها ويُتموا قصيدة بدأناها.

أنا لا أتحدث اليوم عن دور القيادة السياسية أو خطة الحكومة فى مواجهة المأساة، ولا عن إدارة الأزمة.. أتحدث عن «الإنسان».

وكأن العالم انقسم إلى قسمين: الأول مذعور وخائف أغلق قضبان سجنه الاختيارى، ليواجه وحده هواجسه ومخاوفه، ويحارب شظايا الفيروس التى تتراقص على أحباله الصوتية أو تكتم على أنفاسه فزعاً من أن يكون «مصاباً بكورنا».. وهذا الوجه تجلى فى ولاية مثل نيويورك التى تحولت إلى مدينة أشباح.. هذه النوعية من البشر قد تصاب بانهيار فى «جهاز المناعة» من حالة الفزع، وقد تقاوم بالدعاء أو بمتابعة أجراس الكنائس تدق حزينة ترنيمة العيد، لتعانق أذاناً يدعو للصلاة فى البيوت.

صديق من هؤلاء قال لى من داخل شرنقة العزلة الاختيارية: «أنا جاهز لنجدة أسرتى أو التطوع فى المستشفيات الميدانية».. وهذا نموذج حوّل الخوف إلى «عطاء».. أو على الأقل تعامل بإيجابية تُجنب العالم رقماً مضافاً للإصابة أو العدوى.

القسم الثانى أخرجت كورونا أسوأ ما فيه، اغتالت إنسانيته دون أن تمسسه، بعضهم قرر أن يتعامل بمنهج «الإنكار» وهى ردة فعل معروفة فى علم النفس، فقرر ألا يعترف بوجود وباء عالمى، وأن يتعامل باستهتار مع نفسه ومع المحيطين به.. والبعض الآخر وجدها فرصة لتهديد السلم الاجتماعى، ليخلق مشاهد متنوعة ومتتابعة من الفوضى التى تصل إلى حد الجنون:

التنمر بـ«الجيش الأبيض» الذى يقف على خط المواجهة، لدرجة تهديد طبيبة فى مسكنها بتهمة حملها للفيروس مما اضطرها لإبلاغ الشرطة، وهذا النوع من البشر ليس سلبياً فحسب، إنه «مستلب» فقدَ إرادته حين سلّم عقله للدجل والخرافة وتعامل مع تجار الدين باعتبارهم وكلاء الله على الأرض.. وبالتالى فهو يرى أن من حقه أن يقيم «صلاة الجمعة» بالمخالفة لحظر التجوال ولكل الوسائل الاحترازية المتفق عليها، فقد تحايل الداعية السلفى «مصطفى العدوى» على قرارات الدولة وأقام صلاة الجمعة داخل منزله الكبير بمنية سمنود بمحافظة الدقهلية، حيث يوجد بداخله مصلى، بمشاركة مجموعة من أتباعه.. وظهرت على السوشيال ميديا دعوات مغرضة لتحويل أسطح المنازل إلى مساجد لإقامة صلاة التراويح حين يأتى شهر رمضان!

وحين تذكّرهم برأى الأزهر أو قرار الأوقاف بتعليق الجمع والجماعات بالمساجد.. أو تواجهه بأنه يهدد حياة الأبرياء بتفشى الوباء ليخرج عن السيطرة يتهمك على الفور بأنك زنديق وكافر و«عدو الله».. بزعم أن كورونا نفسه «جند من الله» جاء لتصفيه خلافات «الكفار والمؤمنين»، لكنه ربما أخطأ وجهته ليعصف بأرواح المسلمين والمسيحيين واليهود دون استثناء ويفرض وجوده على الدول الإسلامية!

هذا التيار الذى ألبس كورونا ثوب التقوى ومنحه «حصانة دينية» هو نفسه من غش الكحول والمطهرات وتاجر بالأزمة لغسيل أموال «الإخوان»، وفتح السناتر للدروس الخصوصية، وأقام الجنازات الفخمة لعلية القوم، واقتحم أشهر كمبوندات مصر المغلقة على ملاكها لنشر العدوى بالتنزه أو بإقامة الصلوات!.

وفى القلب منه «الفصيل السياسى» الذى جيّش أهالى قرية «شبرا البهو»، أجا دقهلية، للتجمهر أمام سيارة الإسعاف ورفضوا دخول جثمان طبيبة متوفاة بفيروس كورونا لدفنها فى مقابر القرية، رغم أن التجمهر أكثر فتكاً بالإنسان من جثة لا تنقل العدوى.. وبقدر ما كان المشهد مخجلاً ومهيناً لشعب لا يعرف «حرمة الموت»، كان يضع علامات الاستفهام حول غوغائية السلفيين التى تحكم الحشد، والغباء والجهل الذى دفعهم لتبادل فيروس كورونا وكأنهم «كومبارس» فى فيلم رعب نظمته «أياد خفية»، وسيل الفتاوى التى جعلتهم عبيداً يركعون لأصنام مصَّت دماءهم وصعدت فوق جثثهم وحصدت -من خطاياهم فى حق الإنسانية- ثروات هائلة.

كان لا بد أن يصل العبث إلى ذروته الدرامية، فالهدف واضح هو إسقاط خط الدفاع الأول عن الحياة: «الجيش الأبيض»، وافتعال خصومة بينهم وبين المجتمع.. فقامت أسرة مريضة بتحطيم جهاز تنفس صناعى بمستشفى شبرا العام، بسبب مريضة توفيت فى السبعين من عمرها بسبب التهاب رئوى!.

وجهاز التنفس الصناعى (هو قبلة الحياة الآن)، الذى تتسابق الدول على امتلاك أكبر عدد منه أو تصنيعه، لقد بلغ «العنف» أقصاه.. والطواقم الطبية، التى لم نحص بعد عدد شهدائها والمصابين بينها، ولم نخصص لهم «بدل مخاطر» لائق بالمهمة التى يتولونها.. أصبحت عرضة لـ«بلطجة ممنهجة» وأصبح توفير بيئة عمل آمنة واجباً على الدولة.

لقد أفلحت هذه الفئة الموتورة فى استغلال كارثة إنسانية لتحقيق مكاسب سياسية، وفرضت العنف المعنوى والمادى على الحياة فى دائرة المواجهة، وزيادة الأعباء على جهاز الشرطة.

لقد رأينا -من قبل- فيديوهات تحرض على إنهاك الشرطة حتى يتدخل الجيش وتنزل قواتنا المسلحة لحماية الأرواح والمنشآت الحيوية لتصبح هدفاً سهلاً لنشر العدوى.

الأطباء والشرطة والجيش هم خطوط الدفاع الأمامية، ولا بد من التكاتف لحماية المنشآت الطبية، فمتلازمة «الغضب والفوضى» أصبحت عقدة عند المصريين.. لقد أصدرت وزارة الداخلية بياناً اتهمت فيه جماعة «الإخوان المسلمين» بتحريض أهالى قرية «شبرا البهو» على منع دفن الطبيبة المصابة بكورونا.. وطالما عرفنا العدو فلابد أن تتحرك وزارة الداخلية لحماية الجيش الأبيض والمنشآت الطبية.. فليس أمامنا وقت لنندم.
نقلا عن الوطن