بقلم : د.جهاد عودة


الأمن القومى فى جوهره هو حماية الدولة القومية ضد الهجوم العسكري. وقد تطور المفهوم ليشمل أبعادا غير عسكرية متكاملة، مع الأبعاد العسكرية.


وبرز مفهوم الأمن الشامل للدولة، والذى يحتوى ضمن ما يحتوى عليه: «الأمن من الإرهاب، والأمن العام والأمن الاقتصادي وأمن الطاقة والأمن البيئي والأمن الغذائي والأمن السيبراني»، إلخ. كما يشمل مخاطر الأمن القومي، بالإضافة إلى تصرفات الدول الأخرى والإجراءات التي تتخذها الجهات الفاعلة العنيفة من غير الدول، والكارتلات الموارد النفيسة والمخدرات بأشكالها المختلفة، والشركات متعددة الجنسيات، وكذلك آثار الكوارث الطبيعية.


تعتمد الحكومات على مجموعة من التدابير، بما في ذلك السياسية والاقتصادية والعسكرية، فضلا عن الدبلوماسية للحفاظ على الأمن الشامل  للدولة القومية.  فى هذا السياق نعمل أيضًا على بناء ظروف الأمن إقليميًا ودوليًا من خلال الحد من المخاطر والأخطار العابرة للحدود، والتى  تعمل على  تدهور الأمن  فى الإقاليم المختلفة والعالم، مثل تغير المناخ  وعدم المساواة الاقتصادية والاستبعاد السياسي والانتشار النووي والكيمائى والبيولوجى والصاروخى والفضائى. 


هذه هى عناصر وأبعاد ومستهدفات الأمن القومى. الجديد منذ فترة بزوغ قضايا الأمن القومى الخاصة بتفاعل المجال الإنسانى مع الحيوانى والذى أورث السلوك الإنسانى مجموعة من الأمراض الفيروسية. هذه الأمراض الفيروسية، مثل حمى غرب النيل وإيبولا وسارس والآن كورونا نشأت من طبيعة الحيوان وانتقلت للإنسان والطيور نتيجة طفرات جينية. والأغلب الأعم أن التغيرات المناخية  الكاسحة العالمية سببت تعاظم هذه الطفرات الجينية.  والآن كيف نفهم طبيعة هذه التهديدات الفيروسية الطبيعية والتى غير مخلقة معمليا.   


بزوغ التهديدات الفيروسية الطبيعية العالمية يسهم بشكل حاسم في تغير منظور الأمن القومى؛ ليصير مركبا لها أربعة أبعاد، البعد الأول: «البعد الوطنى التقليدي»، البعد الثانى: «البعد العابر للحدود ماديا»، البعد الثالث: «الفضاء بعد الفضاء الخارجي والسيبرانى والنفسية»، البعد الرابع: «بعد الفيروسات الطبيعية العالمية». والمعضلة التحليلية تظهر فى مدى قدرة الإنسان على السيطرة على الفيروس الطبيعى والذى يسبب فى تحلل قدرة الإنسان على الاستمرار فى الحياة وبالتالى الوفاة. هكذا يجب فهم  لأمن القومي  والاقليمى والدولي والعالمى  على أنه تحرر مشترك من الخوف والعوز على مختلف المستويات التحليل  فى سبيل حرية العيش بكرامة والتى تنضوى على صحة اجتماعية وبيئية فى ضوء السيطره على  الخطر  المركب.


وتطور التفكير فى الامن القومى ليأخذ صياغات مؤسسية محدده. وصارت معضلة  التفكير المؤسسى فى ضعف التواصل  المفاهيمى  والعملياتى بين  الصيغ  الوطنيه المختلفه والمتعدده مفاهيم وممارسات الامن القومى بين الدول المختلفه.  فكان إضفاء الطابع المؤسسي على البنى التحتية البيروقراطية الجديدة والممارسات الحكومية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة  اثرها الكبير  فى جلب ثقافة التعبئة العسكرية شبه الدائمة  ومؤسستها  على سبيل المثال فى مجلس الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع و قياده الاركان المشتركة ووزاره الامن  الداخلى . 


هكذا تم صك مفهوم دولة الأمن القومي كمؤشر حاسم على حاله الامن القومى الامريكى.  أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها ، وسع قادة الولايات المتحدة مفهوم الأمن القومي واستخدموا مصطلحاته للمرة الأولى لشرح علاقة أمريكا بالعالم. بالنسبة لمعظم تاريخ الولايات المتحدة  لم يكن الأمن المادي للولايات المتحدة القارية في خطر. ولكن بحلول عام 1945 ، تضاءلت هذه الحصانة بسرعة مع ظهور القاذفات بعيدة المدى والقنابل الذرية والصواريخ البالستية. نما تصور عام بأن المستقبل لن يتيح الوقت للتعبئة ، ويجب أن يصبح هذا الإعداد ثابتًا. لأول مرة  سيتعين على القادة الأمريكيين التعامل مع المفارقة الأساسية للأمن القومي التي تواجهها الإمبراطورية الرومانية والقوى العظمى السابقه:   إذا كنت تريد السلام ، فاستعد للحرب.  يُعرّف رؤساء الأركان الأمريكية المشتركة الأمن القومي للولايات المتحدة بالطريقة التالية:  مصطلح جماعي يشمل الدفاع الوطني والعلاقات الخارجية للولايات المتحدة. على وجه التحديد :1-  خلق ميزة عسكرية أو دفاعية على أي دولة أجنبية أو مجموعة دول؛2- بناء العلاقات الخارجية المواتية ؛ 3- الجاهزيه المخابراتيه-   الاستعداد فى وضعية دفاع قادرة على مقاومة الأعمال العدائية أو التدميرية بنجاح من الداخل أو الخارج أو العلني أو السري.


في عام 2010 أدرج البيت الأبيض نظرة شاملة للعالم في استراتيجية للأمن القومي حددت "الأمن" على أنه أحد "المصالح الوطنية الدائمة الأربعة" للبلاد "التي كانت متشابكة بشكل لا ينفصم": [ "لتحقيق العالم الذي نسعى إليه ، يجب على الولايات المتحدة تطبيق نهجنا الاستراتيجي في السعي لتحقيق أربع مصالح وطنية دائمة: 1- الأمن:   أمن الولايات المتحدة ومواطنيها وحلفائها وشركائها. 2- الرخاء:   اقتصاد أمريكي قوي ومبتكر ومتنام في نظام اقتصادي دولي مفتوح يعزز الفرص والازدهار. 3-القيم : احترام القيم العالمية في البلاد وحول العالم. 4- النظام الدولي:   نظام دولي  تحت القيادة الأمريكية يعزز السلام والأمن والفرص من خلال تعاون أقوى لمواجهة التحديات العالمية. كل من هذه المصالح مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمصالح الأخرى: لا يمكن متابعة مصلحة واحدة بمعزل عن غيرها ، ولكن في الوقت نفسه ، سيساعد العمل الإيجابي في مجال واحد على تقدم جميع الجوانب الأربعة ". قالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون سابقا  إن "الدول التي تهدد السلام الإقليمي والعالمي هي الأماكن التي تحرم فيها النساء والفتيات من الكرامة والفرص". 


أشارت إلى أن البلدان التي تتعرض فيها المرأة للاضطهاد هي أماكن "تكافح فيها سيادة القانون والديمقراطية من أجل ترسيخها" ،  وأنه عندما يتم الحفاظ على حقوق المرأة كمساواة في المجتمع ، فإن المجتمع ككل يتغير ويحسن ، مما يعزز بدوره الاستقرار في ذلك المجتمع ، والذي يساهم بدوره في المجتمع العالمي.  أطلقت إدارة بوش في يناير 2008 ، المبادرة الوطنية الشاملة للأمن السيبراني (CNCI). قدم نهجًا متمايزًا ، مثل: تحديد تهديدات الأمن السيبراني الحالية والناشئة ، والعثور على نقاط الضعف السيبرانية الحالية والتغلب عليها ، وإلقاء القبض على الجهات الفاعلة التي تحاول الوصول إلى أنظمة المعلومات الفيدرالية الآمنة. أصدر الرئيس أوباما إعلانًا مفاده أن "التهديد السيبراني هو أحد أخطر التحديات الاقتصادية والأمن القومي التي نواجهها كأمة" وأن "الازدهار الاقتصادي لأمريكا في القرن الحادي والعشرين سيعتمد على الأمن السيبراني". 

   
كانت الحرب النووية هي الخوف الكبير من القرن العشرين ، وتم بناء  المؤسسات الامنيه الامريكيه للاستجابة لمثل هذه التهديدات. لكن Covid-19 أظهر لخبراء الدفاع في العالم كم كانوا عميانا . هذا لأن  الفيروسات  الطبيعه العالميه ظهرت مع نهايه القرن العشرين  اولا مع حمى غرب النيل وثانيا  فيروس سارس .  وأكبر التهديدات في القرن الحادي والعشرين ليست تلك التي يمكننا الدفاع عنها  من خلال استخدام الجيوش أو الأسلحة المتطورة او العبئه  البشريه الاجتماعيه. هذا  السبب في أن COVID-19 يغير العالم ومؤسساته الدفاعية الرئيسية. وهناك شك  ان  هذا التغيير يمكن أن يحدث بالسرعة والنطاق اللذين يحتاجهما العالم. ذلك لأنه حتى قبل COVID-19 عندما هدد صعود "مناهضة للعولمة"  المدفوع بسياسات اليمين المتطرف  فضلت القوى العالميه الخضوع لهذه الاتجاهات  والتى عملت إضعاف سريع للمؤسسات والتحالفات والاتفاقيات التي تم إنشاؤها لتجنب الخلافات الدبلوماسية من التحول إلى صراعات كاملة. لهذا السبب نشهد اليوم استجابة عالمية مفككة لـ COVID-19  .

إن عدم التنسيق ضد  الكورونا هو أحد أكبر التحديات التي يواجهها العالم اليوم. بعد كل شيء ، فإن أكبر التهديدات في القرن الحادي والعشرين هو خلق منهجية دائمه  لصدها  والذى يتطلب إعادة التفكير في طبيعة الأمن القومي. وهذا شكل اخر تهديدات  تغيرات المناخ  معترف بها الآن بشكل متزايد من قبل  اجهره الأمن القومي المختلفه على أنها التهديد الأمني البارز  بسبب قدرتها على العمل كمضخم تهديدى يزيد من خطر الاضطراب الاجتماعي والصراع وانعدام الأمن الغذائي والأزمة الاقتصادية، وبطبيعة الحال  تفشي الأمراض. وبينما من المحتم أن تتسبب COVID-19 في إحداث أضرار كبيرة - من حيث الخسائر في الأرواح والاضطراب الاجتماعي والاقتصادي - حذر العلماء لسنوات من أن تغير المناخ سيزيد بشكل كبير من خطر الأوبئة في المستقبل ، من خلال تضخيم ناقلات الأمراض. الفيروس التاجي مرعب - ولكن من المحتمل أن لا يكون  هو الوباء الأسوأ في المستقبل. 


للاستعداد لهذا العالم الجديد المخيف يحتاج الى شجاعه عقليه ومفهوميه عاليه . نحن بحاجة إلى نهج مختلف. ومن المفارقات  أن الوباء العالمي اندلع خلال سلسلة متصاعدة من الحروب التجارية التي اجتاحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وآسيا ، والتي أصبحت راديكالية إلى حد كبير بسبب الأولويات القومية ، والتي قوضت بشكل كبير الاستعداد العالمي لخطر أمن المناخ العالمي. في حين أنه من المتوقع تمامًا أن تركز الدول ذات السيادة على مصالحها الخاصة ، يمكننا الآن أن نرى أنه يجب أن يكون هناك نهج تصورى مختلف جذريا . على سبيل المثال ، أدى النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين إلى تقويض الإجراءات المناخية الحرجة من خلال تعريض الوصول إلى المواد الخام الأساسية اللازمة لانتقال الطاقة النظيفة ، والتي يتم استيرادها إلى حد كبير من الصين. كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتبادلان الرسوم الجمركية الصارمة على بعضهما البعض للإنتاج الصناعي المتعلق بالسيارات والطائرات وخارجها. كانت هذه الرسوم الجمركية المتبادلة تضر بالاقتصاد وتقوض الحوافز داخل هذه الصناعات للاستثمار في الابتكار المستدام.  في حين أن جائحة الفيروس  الكرورنا قد خفف الانتباه مؤقتًا لهذه التوترات . 


الحقيقة هي أن انشغال قصر النظر بهذه القضايا هو الذي زاد  تعرض العالم لأزمة نظامية في المقام الأول. بينما حاولت الدول تمزيق  بعضها البعض ، أضعفت كل منها قدراتها الأمنية الوطنية.  لم  تخطط بشكل هادف لتغير المناخ  ولم يستثمروا بما فيه الكفاية في الاستعداد لمواجهة عصر لاوبئه العالمى  . فهم   لم يبنوا شراكات متعدده  وطنيه  امنيا قوية بما فيه الكفاية لتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة المشاكل المعقدة.  إن انشغالات ما قبل COVID19 بالقضايا التقليدية الضيقة مثل خصوم الدولة ، أو الإرهاب من غير الدول ، أو المنافسة الاقتصادية  هينه ولكن الان لابد ان تتم فى سياق مختلف . وهو سياق  العقليه العالمية.