محمد حسين يونس
قد يكون الواقع أكثر سريالية من كل المسرحيات اللامعقول التي عرضها مسرح الستينيات .. فمن غير المعقول أن تجد العشرات من الركاب يقفون متجاورين في مترو الأنفاق ملتصقي الأنفاس .. في زمن الكورونا .. و من غير المعقول أن تكون في حاجة لمستشفي أو مدرسة .. فتبخل بحجة ضيق ذات اليد .. ثم تضيع أموالك في بناء القصور .. و مقر الحكومة الصيفي في العلمين .. و أكبر جامع و أضخم كنيسة .. و أعلي برج .

مش معقول إن تكون شوارع المدن مكسرة و ممتلئة بالقمامة و حالها عدم .. و تروح تعمل شوارع في الصحارى و كبارى في مصر الجديدة و مدينة نصر .. لا تستخدم ..

الواقع فعلا .. يفوق مسرحيات بيكيت .. يونسكو .. أداموف ..و توفيق الحكيم .. التي كنا نسميها في ايامنا مسرح العبث .. أو اللامعقول..

فلنستمع إلي حوار المحقق مع الخادمة في مسرحية (يا طالع الشجرة) : -
((المحقق : متي إختفت سيدتك ؟ .. ساعة عودة السحلية إلي جحرها ..تقصدين المغرب .. لم أبصر الشمس تغرب .. طيب متي تعود السحلية إلي جحرها .. عندما يظهر سيدى من تحت الشجرة .. و متي يظهر سيدك .. عندما تنادى علية سيدتي .. و متي تنادى سيدتك .. عندما يرطب الجو في الجنينة ..و متي يرطب الجو في الجنينة .. عندما أفرغ من عملي و أتأهب للعودة لمنزلي )) ..

كلام لا معني له و إن بدى مترابطا و متسلسلا .. إلا أنك لا تخرج منه بأى نتيجة.... مثل تصريحات المسئولين عن موقف الوباء

(( يا طالع الشجرة ))..مسرحية للوهلة الأولي .. يصعب فهم عنوانها ..والأغرب لا يمكن تتبع حوارها و بناء هيكلا منطقيا للأحداث منه ....لكن هذا غير صحيح...

فالفن الكسول الذى تتعاطاه بالمعلقة الصيني ..كحدوته ساذجة أو رواية متسلسلة تنتهي بإنتصار الحق و القيم العليا .. أو قصة لها أول و حركة و خاتمة .. .. لم يكن هو هدف الإبداع في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي بأوروبا.

لقد فجر (سيجموند فرويد ) ثورة معرفية .. عن العقل الباطن و العقل الواعي .. و إسلوب نقل المعلومة بينهما ..و شرح أن الحلم أو الكابوس أو زلات اللسان أو أخطاء الكتابة أو حركات الوجه و اليدين (لغة الجسد ) أو فنون التراث تعبر كلها عن أفكار و أماني و رغبات مكبوته لصاحبها بسبب كونها تابوة فرضة المجتمع ،فتخرج للعلن متخفية .

العقل الباطن الجمعي يتنفس من خلال النكت و الأغاني و المواويل و الحواديت و الرسومات و التماثيل التلقائية .. و سائر الفنون الشعبية .

فلنتأمل الغنوة التي قدمتها بالأمس و كنا نغنيها و نحن أطفال .. و نمثل بأيدينا أننا نرفع التراب من الأرض و نضعة علي رؤوسنا حتي نصل إلي الحديث عن المعلقة التي تم كسرها و ضياع فرصة الغذاء .. فنضحك ... و نحن لا ندرى لماذا نضحك .

(أبوح) .. صوت لا معني له .. و قد يكون من الفاظ لغتنا القديمة .. قريب من أبيح .. بمعني قليل الأدب .. أو سنكوح..أو شردوح ..أو يمكن بحبوح .. بمعني فرتاك لا يحافظ علي ما لدية .. إنه معني متخفي بكلمة غير دارجة .. و لكنها تعطي إنطباعا حميما .. لشخص من العامة (السناكيح) ..ينادى علية المغني ... أبوح .. يا أبوح .. ليبلغة بالخبر الجلل .

(هبا) ..كان الخبر
أن كلب العرب مدبوح .. يخرب بيتكم حتودونا في توكر ..أى الكلب الذى يتحرك مع العربان لحراسة قطيع الماشية .. و الذى يخيفها .. و يلمها .. قد ذبح ..

و لكن مع التسلسل التالي نكتشف أنه لم يكن كلبا بل أحد أفراد العربان أو العرب مذبوح و راح زى الكلب
أو كما نقول (كلب الحكومة ) أو (لم كلابك يا ممدوح ).. طيب عرفت منين ..لأن أمه الغراب .. ((غناها غراب رغم أنه ليس مؤنث .. فلم يقل أمه الحداية .. و عرفها بالف و لام (الغراب ) لأنه لا يعنية جنسها بقدر ما يريد التعبير عن طبيعتها )) ..

بمعني سيدة شبه الغراب لأنها تلبس سوادا يغطي كل جسدها .. تنعق و تنوح علية .. يعني اللي مات شخص مهم يستحق إقامة مندبة .. و ليس كلبا ..
وهكذا تصبح كلمة ( الكلب) هنا صفة للمذبوح (تشي بأنه من الحراس ) فتقف الست والدته المتشحة بالسواد .. تنوح علية وتقول يا ولدى .

إختيار لفظ (يا ولدى ) كاشف لما قبله ..فمن يطلق علي الإبن في اللغة العربية (ولدى ) هم العرب أو العربان .... بمعني أن إختيار اللفظ هو إشارة ( إرتباط شرطي منعكس ) تجعل المستمع لا شعوريا يحدد .. شخصية المجني علية .. و السيدة والدته ... وصفاته

علاقة سيئة للغاية .. مطمورة تظهر في أغنية للأطفال بصورة إنتقامية لانها صيغت بحيث ينطقونها بلحن فرايحي مرح سعيد بان كلب العرب(الحارس ) و أمة الغراب المنتظرة حلب البقرة تم الإنتقام منهما .. دون أن تمس شعرة للذى يعلن النبأ .

طيب ...ولدها ..دة كان رايح فين .. ((طالع الشجرة )).. و طالع هناإما بمعني يتسلق الشجرة ..أو ذاهب .. (( طالع رحلة .. طالع يحج .. طالع يصطاد .. )) و المصرى يطلق علي التوته و النخلة و التينة و الجميزة و كل المثمرات شجرة .. أى بالمعني المباشر طالع يجيب ثمر أو رايح يجيب ثمر

ولكن في حالتنا طالع الشجرة كان سيحضر بقرة .. و هو ما يخرجها .. عن كونها شجرة حقيقية .. بقدر ما تصبح رمزية تمثل وادينا الأخضر .. طيب إشمعني بقرة .. مش فرخة ، بطة ،غنمة .. و لاجاموسة .. و لا حتي ناقة .. لان البقرة عند المصرى مقدسة هي (النترت ) حتحورالمتصلة بالخير والأمومة والجمال والحب و الموسيقي و الطرب و لها علاقة خاصة بشجرة الجميز المقدسة أيضا .

بمعني أن كلب العرب هذا المذبوح كانت مهمته أن يطلع للشجرة اللي هي وادينا .. و يحضر (حتحور ) التي يرمز لها بالخيرالذى تنتجه .

في نفس الوقت كانت مصر بالنسبة للمحتل البدوى (لقحة ) بقرة عليه حلبها ..وهومستعد لفعل المستحيل من أجل ذلك و لو بمعلقة صيني غير وارد صنعها محليا .

ثم يضحك الراوى .. أو المغني و يسخر من الغراب أم الكلب لأن المعلقة إتكسرت و خاب ظنها و كأنه يقول ((غورى جاتك البلي إرجعي لمطرح م كنت مش حتلاقي عندنا غداك)) .

علاقة متشابكة بين المضطهد المسروق الذى تنهشة كلاب العرب (فيذبحها في الحلم .. كما ذبحوا أهله في الواقع) .. لأنها تجمع خير الوادى وترسله للست والدتها المتشحة بالسواد .. ثم كيف إنتقم منهما المغني في الخيال بكسر المعلقة وسيلة حصولهما علي حليب البقرة لتنام الهانم الغراب بسلامتها جوعانة .
لا أعرف متي تم استخدام مثل هذه الأغنية كخط شعبي مقاوم.. للسلب و الإضطهاد الذى صاحب الإحتلال العربي (البدوى ) .. و لكن من الواضح أنها في زمن ..كانت لازالت اللقحة .. تدر .

هل فكر الحكيم في الحدوته التي خلف الأغنية وإختارها عنوانا للمسرحية ..أم في الأغلب الأعم كان يرى الجانب العبثي في اللغة دون التحليل المنطقي .
تستطيع أن تغير ما تشاء من مفردات الحكي السابق لتصبح لك حدوتك الخاصة .. و هذه هي المتعة الحقيقية للفن اللامعقول أو السريالي أو الذى يشبه اللحن .. فالمتعة تأتي من التأمل الذاتي ..و خلق عوالمك الخاصة فيما بعد التعرف علي العمل .. و ليس أثناؤه .ليخرج عشرات القراء بعشرات القصص مختلفة الحكي .

هيا ...منتظر إعتراضتكم يا عربان .. و إحتجاجتكم يا مثقفين .. و تفسيراتكم يا فنانين .. و تفهمكم يا أولي الألباب .