سلمى أنور
كانوا يقصفون بغداد عقب سقوط نظام «صدام» وتمثاله، بينما كنت أستعد لامتحانات الماجستير.. كنتُ بنصف عقل أقرأ فى مادة التنمية السياسية، وبالنصف الثانى أفكر فى بغداد.. سألت أيامها صديقتى: «ما كل هذه العبثية؟ ندرس التنمية السياسية، بينما الآلة العسكرية والبترول لهما القول الفصل على أى حال؟» نجحتُ فى التنمية السياسية بتقدير «جيد جداً»، لكن الآلة العسكرية لم تتوقف، بل زادت عليها مدافع «داعش» الآلية، وناقشت رسالة الماجستير وبغدادُ محاصرة، وحصلت على ماجستير ثانٍ وبغداد مفخّخة، وعملتُ وغيّرت عملى، ورحلت وعدتُ وبغداد على عهدها: لا تزدهر إلا فى قراطيس العباسيين.. والمسلسلات السورية!

*****

ما زلتُ أذكر حكايات أساتذتى عن كنائس الشرق عموماً وكنائس مصر والعراق خصوصاً، ومازلت أذكر كيف كانت أستاذة الدراسات الحضارية (دكتورة منى أبوالفضل رحمة الله عليها) تقول إنها زارت الكثير من الكنائس الأثرية فى الشرق والغرب، لكنها لا تحس ذلك الدفء، ولا تلك الروح السارية فى كنائس مدننا القديمة.. ربما لأن الكنائس لا تقوم بجمال جدرانها ولا بفخامة زخرفها، لكن تقوم بصلوات شعوبها من الصادقين والمحبين وترانيمهم، أولئك الذى يتركون بقايا روحهم على الجدران القائمة بعد كل صلاة وكل رجوة.

استرجعتُ تلك الأفكار دفعة واحدة بينما كنت أقرأ قبل أيام إعلان «يونيسكو» عن قُرب إطلاق مشروع ترميم كنيسة الطاهرة للسريان الكاثوليك الأثرية فى الموصل، والتى كانت تضرّرت مع الوجود الداعشى (2014 - 2017)، الذى أتى على ما أتى عليه من علامات الوجود المسيحى القديم على تلك الأرض. فالحصر الخاص بمواقع مدينة الموصل العراقية وحدها على أيدى الدواعش يذكر 28 موقعاً أثرياً دينياً، إحداها كانت كنيسة الطاهرة.

هذا ما لحق بالوجه الأثرى للمدينة، ناهيك عن الوجه الإنسانى وما يتعلق بمعايش الناس من بنية تحتية ومشافٍ ومدارس وكهرباء وسواها.. وبالقطع فإننى لن أدعو القارئ الكريم إلى التوقف كثيراً عند الذاكرة الجمعية لمن سكنوا المدينة من مسيحيين أيام حكمها تنظيم داعش، وما سكن ذاكرتهم للأبد من أشباح.. فذاك مما يُترك للقدرة على التصور.

لكن إن أردنا أن نتصور كيف يعود السكان إلى مدن الأشباح، التى تدمّرها الجماعات الحاملة للسلاح والحقيقة المطلقة، يمكننا أن نمر سريعاً على التقارير الوافدة من مدينة باطنايا (كلمة آرامية تعنى فى ما تعنى بيت الغيرة والمحبة) قرب الموصل، وهى مدينة كان قوام سكانها من المسيحيين العراقيين الذين فروا مع الحضور الداعشى. من خلال تلك التقارير، تعرف كيف تتحسّس الأسر العراقية المسيحية المهجّرة طريق عودتها إلى بقايا البيوت المهدّمة، محاولة التغلب على الذاكرة الجمعية المتوحّشة، وكيف أن الرجل البسيط الذى قرر إعادة فتح دكان العطارة القديم الذى كان يمتلكه هنالك، وُصف ممن حوله بالشجاعة وبالقدرة على دق أول أوتاد الموت فى قلب الخوف من إعادة إعمار المدينة، وأول أوتاد الحياة فى أرضها.

بالتوازى مع هذا المشهد الملىء بالإصرار على الحياة فوق الركام، تجد التقارير الوافدة من بغداد، إذ يأسف قساوستها على المقاعد الخاوية فى كنائسهم، وإحصاءات أولية تشير إلى أن من بين 500 عائلة منتمية إلى كنيسة سانت جوزيف (كنيسة كاثوليكية من الكنائس القليلة فى المدينة)، لم يبقَ سوى 50 عائلة، بينما البقية هاجروا بالفعل غرباً.

تلك أمة يكافح بعضُ مسيحييها للعودة إلى ديارهم، بينما يكافح بعضهم الآخر للفرار!

تُرى ما مصير جدران تلك الكنائس التى تفتقد شعوبها فى العراق، وبقايا الصلوات عليها؟ هل ستبقى بهية الروح مميزة الحضور فى قلب الشرق المسلم، كما اعتادت أن تحسها أستاذتى؟ أم تراها الآن ككنائس الغرب: موحشة لا روح فيها، غريبة وسط ذكريات لوّثتها الطائفية البغيضة؟

وبينما أنا أتأمل المشهد الموجع فى العراق وأمتلئ بحوارات داخلية كثيرة عن الخريطة الطائفية التى تتغير فى العراق وعن التاريخ الذى تتآكل أطرافه فى مدنه، إذ بأحد «الدعاة الجدد» فى مصر يفتح (من حيث لا يدرى أو من حيث تعمّد) أبواب حديث طائفى بغيض، موضوعه المسيحيون والجنة والنار وما يُقبل من عملهم وما لا يُقبل! والأفدح، أنك تجد من ورائه جوقة من البؤساء المهزومين فى حياتهم اليومية على الأرجح، يصفّقون ويهللون لانتصاراته البائسة فى مناظراته الهزيلة التى تنتصر لأشياء ليس من بينها نصرة الأوطان ولا بديع حكمة الله فى خلق شعوب وقبائل تحت سمائه، كما علّمنا هو جل وعلا عن نفسه ومشيئته.

فهل يعرف هؤلاء بأى نار يلعبون، وأىّ أرض يحرقون؟ هل يخالون شرقنا بغير مسيحييه؟ هل يخالون مدننا بكنائس لا تدق أجراسها؟ هل يمدون أبصارهم أبداً (فى غير لحظات اندفاع أدرينالين الانتصارات الزائفة تلك يعنى) إلى مدن الشرق المنكوبة فى مسيحيتها من حولنا، ويتعلمون الدروس التى تعلمها غيرنا بالندوب التى لا تنمحى؟ لست أحسبهم يفعلون، والأولى بهم حقاً أن يصمتوا، فمثل هؤلاء لا يُرتجى منهم أن يقولوا خيراً على أى حال!
نقلا عن الوطن