أمينة خيرى
بعيداً عن مهزلة «نطلب الرحمة والمغفرة أم نحجبهما؟» رحل مبارك'> الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وفى رحيله دروس ومواعظ. والدروس والمواعظ هنا ليست حبيسة أن كل من عليها فانٍ، وأن المرء مهما بلغ من مكانة وأهمية وثراء فمصيره الموت.. إلخ، فهذه دروس وعبر تنطبق على الجميع.

دروس ومواعظ رحيل «مبارك» جانب منها يتعلق بطبيعة المصريين حلوها بمرها، والجانب الآخر يتعلق بطبيعة العالم الخارجى الراصد لنا. جميعنا ضلع فى خناقات ومعارك هل نترحم على الرجل أم لا نترحم؟ وذلك من منطلق أن طالبى الرحمة إما يحبون الرجل أو لا يحبونه، لكن فى لحظة الموت يرتقون بمشاعرهم، وأن حاجبى الرحمة مأخوذون بأدرينالهم الثورى وإيمانهم العميق بأن الانتقام مما فعله الرجل أثناء حكمه ينبغى أن يصحبه إلى العالم الآخر، وأن طلب الرحمة خيانة للثورة، والدعاء بالمغفرة انتقاص من فورة الميدان.

وبدا أن الفئة الأخيرة من حاجبى الرحمة والمغفرة هى الأقل عدداً لكن الأعلى صوتاً بحكم انتماء أغلبها لطبقة «المثقفين» القادرين على التعبير عن مواقفهم وآرائهم ببلاغة شديدة، سواء عبر تدوينات فيسبوكية ترفع كارت الـ«بلوك» أمام كل صديق خائن عميل جرؤ على طلب الرحمة، فإن أصواتهم بدت عالية مسموعة. وأرى أن انعدام المنطق فى اعتبار طالبى الرحمة والمغفرة خونة أذلاء يعشقون المهانة ومدمنين للظلم والقهر أفقد هذه الفئة الثورية المزيد من الشعبية والقبول لدى الرأى العام.

وبالمناسبة، الرأى العام هنا لا يعنى أبداً أن القاعدة العريضة من المصريين تحب الرئيس الراحل، أو أنها كانت سعيدة هانئة فى ظل حكمه، أو حتى غفرت له تقصيره الشديد فى رفعة المواطن والوقوف دون انحداره فى ظل تعليم وصحة وثقافة تُرِكت تتهاوى. لكن الرأى العام المقصود يتعلق بطبيعة مصرية متفردة. صحيح أن السلفنة والأخونة -اللتين تركهما «مبارك» ترتعان فى أرجاء البلاد حتى تملكنا الهسهس الدينى تماماً- خدشتا طبيعة الشعب كثيراً، إلا أن الجذور ما زالت موجودة حتى وإن كانت معطوبة. التسامح فى لحظات الموت -سواء كان ذلك أمراً جيداً أو غير جيد- سمة مصرية. ولذلك تسمع سائق التاكسى وبائع الخضار وموظف الأمن يرددون عبارات على وتيرة «أفقرنا، لكن راح للى خلقه. الله يرحمه». فهل من الإنصاف تصنيف هؤلاء باعتبارهم خونة للثورة وعبيداً للذل والمهانة؟! وهل يمكن وصف العديد من الرموز التى ارتبطت أحداث يناير بأسمائها باعتبارها شخصيات وطنية معارضة ممن تفوهوا بطلب الرحمة بأنهم عملاء ومخادعون؟!

فهم طبيعة المصريين -سواء كانت تعجب البعض أو لا تعجبهم- ضرورة للعمل السياسى والاجتماعى. ومن يتعالى على هذه الطبيعة، فسيظل منطوياً منعزلاً مكتفياً بالشجب والتنديد فى دوائره المحدودة. والفهم لا يعنى بالضرورة القبول والإعجاب، لكنه يعنى حكمة وحنكة. ومن يود الانخراط فى عمل سياسى أو اجتماعى أو توعوى، عليه التعرف على طبيعة من يتعامل معهم. الفهم مفتاح النجاح. ومن يرى فينا سمات أو صفات ينبغى تعديلها أو تغييرها حتى نكون أكثر وعياً أو قدرة على تصنيف الحكام وتغيير الأوضاع وتعديل الظروف، فعليه أن يفهم أولاً ثم يخطط لطريقة التعامل. فربما يتوجب عليه الانخراط فى أعمال توعوية وتثقيفية وتنويرية قبل أن يطلب منا الإيمان بمبادئه والعمل من أجل تحقيق رسالته.

رسالة أخرى بالغة الأهمية ترد إلينا من بوابة رحيل «مبارك». المتابع للمحتوى الإعلامى الغربى فيما يختص بالحدث يرى عدة أشياء. المتابعات الإخبارية والتقريرية بالغة الثراء، حيث تفاصيل وحكايات وتذكرات بالرجل فى كل مراحل حياته أسرياً وسياسياً وفكرياً. وفى هذه التذكرات إشارات كثيرة لما أنجزه، وتنويهات أيضاً عديدة لما أخفق فيه فأضاع ما أنجزه. لكن علينا كذلك تذكر أن هذه المنصات الإعلامية الغربية ذاتها هى التى كانت تصفه بـ«الديكتاتور» و«المنفرد برأيه» و«خانق الحريات الدينية» وغيرها الكثير. لكن أغلب هذه النعوت لم تقفز فى التغطيات الإخبارية والتقريرية. بل يمكن القول إن نبرة تبجيل الرجل وتعظيمه كانت واضحة فى الكثير منها. أما مقالات الرأى فقد استغل الكثير منها الفرصة للدق على ثلاثة أوتار لا رابع لها: العودة إلى وصف ثورة المصريين على حكم الإخوان المسلمين بـ«الانقلاب العسكرى»، والإشارة إلى الرئيس الأسبق الراحل محمد مرسى باعتباره «أول رئيس مدنى منتخب أتت به الصناديق»، ووصف الحكم الحالى فى مصر بالنعوت نفسها التى كانوا ينعتون بها «مبارك» ثم اختفت بعد وفاته.

ملحوظة أخيرة خاصة بطبيعة أخرى خاصة بنا، وأغلب الظن أنها كانت تمضى دون أن يلاحظها أحد قبل إقبال الملايين على التدوين والتغريد على مواقع التواصل الاجتماعى. الغرق حتى الثمالة فى «تفصيص» و«تفلية» كل همزة ولمزة، والإفراط فى العدوانية وفى التمسك بالرأى ورفض إعطاء الحق نفسه للآخرين والتلويح بورقة الـ«بلوك» فى وجوههم إن تجرأوا على ذلك أمر ينبغى مراجعته.

ولا تفوتنا بالطبع الإشارة إلى خفة الظل الفطرية حيث عبارة «له ما له وعليه ما عليه» تحولت إلى أسطورة كوميدية فى خلال دقائق، ما نجح فى رسم الابتسامة وانتزاع ثوانٍ ولو معدودة للضحك دون إمساك بتلابيب الرأى ورفض المغفرة أو السماح بها.
نقلا عن الوطن