د. محمد عثمان الخشت- أستاذ فلسفة الدين
"نواصل في هذا المقال الحديث عن الثوابت والمتغيرات في الإسلام.


* المتغيرات:
إن التجديد يقتضي فتح الأبواب والعقول. والرافعون لشعار التجديد دون أن يجددوا حالهم حال من يُطلب منهم أن يفتحوا بابًا في الأسوار المغلقة، فيستجيبون فورا برسم باب على تلك الأسوار! ثم يطلبون منك المرور منه!

وهم يدعون أنهم سوف يقومون بالتجديد، وأنهم أولياؤه، وأنهم ملاك مفاتيح العقل والشرع، ثم يرفضون فتح عقولهم لهواء جديد! وهم أيضا يعترفون باشتمال الدين على متغيرات، لكنهم يعودون فيجمدون معانيها عند سالف الدهر!

إن الدين ثابت ومطلق في ذاته، لكن طرق فهمه وتفسيره في النصوص متعددة المعاني وظنية الدلالة تأتي تبعا لعقول البشر وضوابطهم التي تختلف من مرجعية إلى مرجعية أخرى؛ وتختلف طرق تنزيل أحكامه الثابتة على الواقع المتغير من مدرسة فقهية إلى أخرى. ولذلك عندما قال الخوارج: "لا حكم إلا لله"، رد عليهم الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قائلا: "القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال"، ما أعظم الإمام عليّ!

وتشمل المتغيرات في الإسلام النصوص المتعددة المعاني من الكتاب والسنة الصحيحة، ومجالات الاجتهاد التي لم يقم عليها دليل قاطع في الثبوت وقاطع في المعنى. وقد تشمل الطرق المتعددة لإنزال ثوابته في الأحكام العملية على الواقع الذي يستلزم أحكامًا جديدة، ولهذا حديث آخر مطول لا ابتداع فيه بالعودة إلى العظيم عمر بن الخطاب. أؤكد (لا ابتداع فيه) حتى يهدأ المنغلقون والمزايدون.

والمتغيرات في الدين كثيرة جدا، ونطاقها أوسع كثيرا من نطاق الثوابت؛ وأوسع مما يظن البعض، وهي في أقل تقدير تبلغ 75 % من الدين؛ ويصل بها البعض إلى 95 %؛ لأنها تشمل كل الآيات والأحاديث المشتملة على ألفاظ أو عبارات متعددة المعنى حسب قواعد اللغة العربية ودلالات معاجمها، وهي غير قاطعة في دلالتها على معنى واحد من القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وهذا أحد أسباب اختلاف الفقهاء والمفسرين في تحديدها. وهي تمثل الجانب المتغير من الإسلام، قال الشاطبي في هذا النوع من الأحكام: "مجال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين، وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات" (الموافقات: ج4 ص 155).

هذا الجانب المتغير هو ما يجب أن نعيد فحص التراث بشأنه فحصا نقديا، من أجل تطوير علوم الدين، وليس إحياء علوم الدين؛ لأن الإحياء معناه أنك سوف تحول كل المتغيرات إلى ثوابت لكل العصور. والله سبحانه لو كان يريد الدين كله ثوابت، لجعل كل آياته محكمات قطعية الدلالة، لكن ما حدث فعلا أن القرآن منه القطعي المعنى لأنه من الثوابت لكل العصور وهو ما أوضحناه في المقال السابق إجمالا، ومنه متعدد الدلالة ومرن المعاني لكي يلاءم كل المتغيرات التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ويصبح الانتقال من معنى إلى معنى تبعا للمصالح العامة.

وهذا الفهم للجانب المتغير في الإسلام، يعد أحد أسرار عظمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في فهمه لكثير من الأحكام الواردة في القرآن والسنة؛ حيث تعامل معها على أنها أحكام ليست ثابتة في تنزيلها على الواقع، بل متغيرة، مثل حكم (المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) [التوبة:60]، ومثل عدم تطبيق حد السرقة في عام الرمادة (المنتقى شرح موطأ مالك). بل إن هذه نصوص يقينية الثبوت يقينية الدلالة، لكن تتغير طرق إنزالها على الواقع كما فعل عمر، ولهذا حديث آخر مطول لا ابتداع فيه بالعودة إلى العظيم عمر بن الخطاب كما قلت من قبل.

ومن الأمثلة أيضا على الأحكام المتغيرة في الإسلام (كما في غريب الحديث لابن سلام، ج 3 ص 194)، حديث عمر أنه أخّر الصدقة عام الرمادة، وفي العام التالي أخذ منهم صدقة عامين. إن عمر فهم من الإسلام ما لم يفهمه الكهنة الذين يريدون أن يجمدوا الدين عند الماضي، مع أنه مجال عام مفتوح لتطور الأحكام في كل العصور في الجانب المتغير، وفي طرق إنزال الثوابت على الواقع المتغير. لكن الغريب أن البعض يقولون بمثل ما نقول به لكنهم عند التنفيذ يفعلون شيئا آخر ويظلون على جمودهم؛ فالتجديد عندهم شعارات مرفوعة، لكن الواقع يقول إنهم يرفضون أي تغيير حتى في الأحكام المتغيرة التي يحتاجها المجتمع لمواجهة مشكلاته! إنهم يرسمون بابا للتجديد على الأسوار مجرد رسم، لكنهم أبدا لن يفتحوا بابا حقيقيا! أرجو أن نفهم!

ومن روائع عمر أنه استحدث نظما ليست في الإسلام، مثل الدواوين الحكومية، وأخذ فيها عن الأمم الأخرى، ولم يرفع شعار أننا الأفضل في كل شيء وعندنا كل شيء! واستفاد من الأنظمة الفارسية والرومانية، مثل بيت أو ديوان المال، وديوان الإنشاء، وديوان العطاء، وديوان الجند الخ. وأبقى عمر على النقود المسيحية والفارسية الذهبية والفضية التي كانت متداولة وعليها نقوشهم، وهو أول من ضرب النقود في الإسلام، بل اعتمد النقش الفارسي مضيفا عليه "لا إله إلا الله" أو "الحمد لله" ووضع على جزء منها اسمه. (تقي الدين المقريزي، شذوذ العقود في ذكر النقود، ص 31-33).

والسؤال هنا: هل ما يجب علينا هو اتباع عمر بن الخطاب في آرائه أم في منهجه؟ هل المطلوب منا تقليده حرفيا في آرائه، أم في منهجه؟ أتصور أن الاتباع الحق هو تقليده في منهجه؛ لأنه منهج علمي أصيل؛ بينما الآراء تتغير تبعا للمصلحة العامة وتبدل الظروف. والدليل على ذلك أن عمر نفسه غيّر من بعض آرائه عندما تبين له أفضل منها، وغيّر كثيرا من الأحكام قبله للعلة نفسها، وهي تغير المصلحة العامة وتبدل الظروف والمرونة التي يتمتع بها المتن المقدس في آياته وألفاظه متعددة المعاني حسب قواعد ومعاجم اللغة العربية ومقاصد الدين العامة.

لكن هنا يظهر البعض من جديد ويقولون: نحن نقول بذلك! لكن السؤال المتجدد: هل هم يفعلون ما يقولون؟ لو كان فريق المعارضين من عصرنا موجودا في عصر عمر، ماذا كانوا سيقولون له؟

بالمنطق نفسه الذي يحكم عقولهم الآن كانوا رددوا: كيف تجرؤ على تغيير أحكام سابقة؟ كيف تجرؤ على فهم آية على غير منوال سابق لفهمها؟ كيف تعطل حدا من حدود الله؟ كيف تستحدث نظما في الحكم والإدارة لم يقل بها الرسول عليه الصلاة والسلام؟ كيف تستحدث نظما ليست موجودة في القرآن الكريم؟ ألم يقل الله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)؟

وطبعا هم يفهمون الآية الأخيرة خطأ لأنهم ببساطة يفسرونها خارج سياقها في الكتاب الكريم، وخارج السنة الصحيحة المبينة لها. ولنا حولها حديث آخر مطول لا ابتداع فيه، لكن المشكلة تكمن في الجهالة المطبقة أحيانا، وتكمن أحيانا أخرى في بنية العقول التي تتركب فيها طرق الاستنتاج تركيب بيت العنكبوت! وتكمن أحيانا ثالثة في عواطف عمياء تسبح في بحور من سوء الفهم والتفهم!

ولا يزال للحديث بقية عن المتغيرات، وطرق إنزال الأحكام الثابتة على الواقع المتغير، وأمثلة صريحة من الدين عليها إن شاء الله تعالى".
نقلا عن الأهرام