تربيت أنا وأختى فى حى العجوزة، فى عمارة ٤ أدوار أمام ميدان أبو المواهب وهو قريب جدا من ميدان أسوان وكلاهما بهما حديقة واسعة. كانت بلكونة شقتنا البسيطة تطل على الحديقة التى لم يكن لها سور وكانت أمى أحيانا تأخذنا لنجلس فيها ولنستمتع بالنجيلة والأشجار، ولم نكن وحدنا فكان دائما بها أطفال يلعبون أو مسنون يتنزهون.

يوم الخميس كان والدى يأخذنا فى سيارته الفيات ١٢٨ لنجلس على كورنيش المعادى وحولنا أسر كثيرة مثلنا من الطبقة الوسطى وأيضا من الأقل حظا نأكل سميطا وبيضا مسلوقا ودقة ونقتسم أنا وأختى زجاجة كوكاكولا، كان منظر النيل رائعا والأسر والحبيبة من حولنا مستمتعون بفسحة ممتعة وفى متناول اليد. هذا كان حال كورنيش النيل فى الزمالك وجاردن سيتى، كما فى بنى سويف وأسيوط والمنيا وأسوان والأقصر، رصيفا عريضا موازيا لمسار النهر العجوز ثم سور حجر منخفض يجلس عليه المارة.
 
لم يكن دخل الأسرة حينها يسمح بأن نستأجر شاليه بقرب البحر لنقضى فيه أياما فى الصيف، لكن كان والداى يرتبان لرحلات مع أصدقاء لهم وأبنائهم، نأخذ السيارة الـ ١٢٨ ومعنا سندوتشات ومشروبات وننطلق إلى العين السخنة، لم يكن هناك أى فنادق أو قرى إطلاقا وإنما كان الشاطئ بكرا؛ بحر ورمال وشمس على مدى البصر ومن خلفنا جبال البحر الأحمر. كانوا يدخلون بالسيارة بضعة أمتار خوفا من أن تغرس فى الرمال ثم نحمل الشمسية والفوط والأكل ونسير إلى أن نصل الشاطئ فنقضى يوما ذكرياته تملأ ألبوماتى أنا وأختى حتى الآن. وعندما كنا نسافر إلى الإسكندرية كنا نرى الشواطئ العامة مفتوحة للشعب، فالشباب والأسر من أى طبقة يستمتعون بها.
 
الآن حدائق الميادين العامة أصبح لها أسوار، وبداخلها مشاتل تدار بواسطة المستأجر وبعضها تم تقسيمها إلى كافيهات لا يجلس فيها إلا من يدفع مقابل مشروبات قليلة الجودة، ولم تعد الأطفال من الأسر المتوسطة أو الأقل حظا تستطيع أن تجرى على النجيلة فى الشمس. أصبحت الحدائق خاوية من الناس والشوارع مكتظة بهم. كورنيش النيل من القاهرة حتى أسوان يختفى يوما بعد يوم من خلف بنايات شُيدت لتكون نوادى أو كافيهات تحجب النيل عن المارة إلا لأصحاب الكارنيهات أو الفلوس وحتى هؤلاء فبينهم وبين النيل وجماله وهدوئه مفروشات وأضواء وموسيقى لم يختاروها. حتى الكبارى التى كانت الناس تتنزه عليها أصبحت محتلة بكافيهات عشوائية يفرش صاحبها الكراسى البلاستيك ويقدم المشروب الإجبارى مقابل تواجدك واستمتاعك بالنيل.
شواطئ البحر المتوسط فى الإسكندرية تطلب رسم دخول حق استخدام إجبارى لكراسى وشمسية لكل أفراد الأسرة. أما شواطئ الساحل الشمالى من الإسكندرية إلى ليبيا ليس بها شاطئ عام واحد كلها شواطئ القرى السياحية المفتوحة فقط للملاك أو المستأجرين أو من يزورهم. وهو نفس الحال فى العين السخنة ورأس سدر ومعظم الغردقة وشرم الشيخ. لكى تستمتع بالبحر لابد أن تكون قادرا ماديا.
 
الكثافة السكانية فى أى مدينة من أهم طرق قياس جودة الحياة وهى التى تحدد حجم المساحة الشخصية لكل فرد منا، فقدرتنا على الانفراد بأنفسنا فى مكان آمن لا يهدده اقتحام الآخرين أمر مهم من أجل الحفاظ على كرامتنا وصحتنا النفسية، فالذهن يحتاج إلى بعض الهدوء والانفراد لترتيب الأفكار والمشاعر والإبداع. الكثافة السكانية تقاس بعدد الأفراد الذين يعيشون على كل كم٢ من الأرض، فى القاهرة يعيش نحو ٢٠ ألف فرد فى كل كيلو مربع (١٩.٣٧٠ فرد/ كم٢ بحسب الجهاز المركزى للإحصاء فى ٢٠١٩). ما يزيد من إحساسنا الخانق كسكان لمدينة القاهرة هو تقلص المساحات العامة التى تسمح للفرد بالحركة والتواجد فى الطبيعة وممارسة الرياضة أو اللعب الحر سواء كنا أطفالا أو شبابا أو كبار السن، بدون قيود مادية أو اجتماعية.
المساحات العامة قلَّت كثيرا فى السبعة عقود الماضية هذا بالتوازى مع زيادة الكثافة السكانية أضعافا مضاعفة. ومع تقلص هذه المساحة العامة أصبح مفهوم قدسية «الملكية العامة» من ناحية واحترام «الملكية أو المساحة الخاصة» من ناحية أخرى غير واضح فى ذهن الناس، وهو أمر لا يعتمد على التعليم وإنما يعتمد على ممارسة الملكية التشاركية. وبالتالى لم يعد المجتمع يثمن الممتلكات العامة، فالحدائق القليلة المتاحة للجمهور فى أيام معينة فى السنة تترك قذرة، كذلك الشواطئ العامة. كما أن المساحات العامة غير المسورة بسور اُحتلت من قبل أفراد واُستغلت، فالشوارع اُحتلَت من السياس وأصبح أمرا واقعا أن هناك فردا لا يقدم لك خدمة لكنه يأخذ مقابل أن تركن سيارتك فى شارع هو ملك للمجتمع، الأرصفة كلها احتلت من الكافيهات أو المحلات فهى لم تعد تسمح لنا بالمشى بشكل آمن ومريح (وهذا من أهم أسباب تدنى جودة الحياة فى القاهرة) بالرغم من أن الرصيف والشارع كلاهما ملك لنا جميعا، لكننا كلنا معتدٍ ومعتدى عليه نسينا هذا. فالشخص المحروم من التنزه، والحركة والمنظر الجميل والتواجد فى الطبيعة إلا فى أضيق الحدود لن يحس أنها ملكه وأنه مسئول عن سلامتها. أما فى المجتمعات التى تتيح المساحة العامة للجميع بدون مصروفات ولا أسوار فهى تعلى قيمتها فى نفس الفرد لتصبح مع الوقت هذه الأماكن فى ذهنه ووجدانه ملكا له ومن مصلحته أن يحافظ عليها.
 
عندما تقلصت المساحة العامة المشتركة بيننا كأفراد فى المجتمع، أصبحنا نجور على مساحات وممتلكات بعض الخاصة، فأصبح أمرا طبيعىا أن يرفع جارك فى المنزل أو المصيف صوت الموسيقى ليفرض عليك ذوقه، أو أن تحتل سيارة مدخل جراج عمارتك فلا تستطيع أن تدخله، أو أن تقف فى طابور فلا يراعى الواقفون أن يكون هناك أى نوع من المساحة بينهم وبين من أمامهم ثم يخرج أحدهم سيجارة فيفرض عليك دخانا أنت لا تريد أن تستنشقه.
فى مدينة مثل القاهرة مهما توسعنا فى بناء الكومباوندات ذات الخضرة، ومهما بنينا من أندية رياضية واجتماعية، ومهما وفرنا من أماكن للنزهة والأكل على النيل، فلن نخدم سوى نسبة ضئيلة جدا من سكان القاهرة والإسكندرية ممن لديهم فائض مادى للتنزه، أما السواد الأعظم من المجتمع فسيسعى إلى «خطف» لحظات من البهجة بشكل عشوائى وستتحول القاهرة تدريجيا من مدينة تقهر أعداءها إلى مدينة تقهر أهلها.