فى شبابى شاهدت أحد الأفلام الإيطالية القصيرة، ورغم السنوات العديدة التى مرت، ورغم ما أصاب الذاكرة من ضعف، إلا أن أحداث هذا الفيلم ظلت ثابتة تسكن عقلى حتى إنها قفزت إلى السطح وفرضت نفسها علىّ وأنا أشرع فى كتابة هذا المقال.. والقصة، فى إيجاز شديد، أن العجوز الثرى والإقطاعى قد مات، وطقوس الموت تختلف من بلد إلى بلد، فى إيطاليا وربما الدول الأوروبية كلها يرتدى الميت حُلة فاخرة ويتولاه خبير تجميل بحيث يكون فى أبهى صورة ويرقد فى التابوت، حيث تلقى عليه النظرات الأخيرة.. واجتمعت الأسرة فى ملابس سوداء والحزن القاسى يشمل الجميع وأيضاً المحامى الكبير الذى أودعه وصيته، واشترط عليه أن تُفتح وكل الأهل والأصدقاء ملتفون حول جثته.. وكان الحزن العميق حاضراً.. ومآثر الفقيد تتردد على كل الشفاه.. وحان وقت فتح الوصية.. يرث كل شخص من الملتفين حول جثتى بقدر ما يأكل من لحمى..!!

 
سيطر عليهم الوجوم.. وشملتهم الحيرة، وهزتهم الفجيعة.. وساد الصمت الخانق.. تبادلوا النظرات القصيرة.. ثم انسحبوا فى سرعة وهرولة.. منهم من توجه إلى المطبخ.. ومنهم من توجه إلى مخزن الحديقة.. ومنهم من ذهب إلى غرفة أسلحة الصيد.. وعادوا جميعاً.. أحاطوا بالجثة من كل جانب وهم يتزاحمون وكل منهم يرفع آلة القطع التى أحضرها.. سكاكين.. ومناشير وسواطير وأيضاً فؤوس حادة.. وأعتقد - وكلى صدق وإخلاص - أن هذا هو حال مصر الآن.. نحن نأكل جسد مصر بعد أن قتلناها ومازلنا نبكى عليها ونحن نأكلها.
 
الحرية والديمقراطية فى مصر الآن وربما لسنوات مقبلة وهم كاذب، ومن يزعم غير ذلك مخادع.. فمصر حالياً بين قبضتين لا تعرفان الحرية أو الديمقراطية، القبضة الأولى هى قبضة المجلس العسكرى الغاشم الذى لا يعترف بخطأ، ولا يعرف الاعتذار، والذى يقر مبدأ إطاعة الأمر حتى لو كان خطأ. والقبضة الثانية هى قبضة جماعة الإخوان التى تفرض مبدأ «السمع والطاعة»، والتى لن تفرط بسهولة فى أى شىء مما وصلت إليه، بل إنها تسعى بكل طاقتها للاستحواذ على كل كيانات الدولة ودروعها وأولها الجيش ذاته والداخلية بكاملها.. فمن أين تأتى الديمقراطية وفاقد الشىء لا يعطيه، سواء كان المجلس أو الجماعة، وهما الآن فى حالة وفاق بفضل الزواج العرفى القائم بينهما منذ بداية الثورة وحتى الآن؟!
 
 ولماذا لا يكون الوفاق والأفكار واحدة والرؤوس واحدة وأيضاً المصالح واحدة، حيث يحمى كل منهما الآخر.. وهذا الزواج العرفى غير المعلن لن يبطله أحد فى الوقت الراهن ولا حتى رئيس الجمهورية القادم بإذن الله.. لأنه - بصدق وموضوعية ومع احترامى لكل السادة المرشحين المحتملين - سيكون «خيال مآتة» لا يهش ولا ينش، فسيأتى هذا الرئيس بمباركة ودعم من طرفى الزواج السرى، وليس من المستبعد على الإطلاق أن يكون من أهل الزوج أو أهل الزوجة، وإن كنت لا أعلم حتى هذه اللحظة من هو الزوج ومن هى الزوجة ومن يفرض إرادته على الآخر!! هذا الرئيس القادم سيقف محشوراً بين قوتين.. أو بين زوج وزوجة.. جماعة الإخوان وعلى رأسها المرشد الذى له صلاحيات تفوق صلاحيات رئيس الجمهورية كما صرحت الجماعة، حتى إننا وقعنا فى حيرة: من الذى ستكون له الكلمة العليا على الحكومة: الرئيس أم المرشد؟ ولاسيما أن الأغلبية البرلمانية تخضع بالكامل وبحكم دستور الجماعة للسيد المرشد، والمجلس العسكرى - إذا طال بقاؤه - يفضل الشريك لا التابع، وإن كانت الجماعة تريده تابعاً، ولأن الرئيس القادم سيأتى بموافقة ورضاء الجماعة والمجلس فماذا سيفعل المسكين وهو يعلم أن القوة يملكها المجلس العسكرى والجماعة تملك مجلس الشعب، والشورى بإذن الله.. والدعوات الساخنة بالإسراع بفتح باب الترشح لهذا المنصب خير دليل على ذلك.. لأن أهم منصب فى البلاد يتطلب التأنى، ويستلزم الوقت الكافى حتى يتعرف المواطن العادى على جميع المرشحين ويفاضل بينهم، وتكون أمامهم الفرصة الكافية لعرض برامجهم على الناس وشرحها والتجول فى كل محافظات الجمهورية ومراكزها وقراها ونجوعها إذا كنا فعلاً صادقين فى النوايا..
 
 وبالمناسبة لى صديق إذا أراد أن يشترى قميصاً جديداً أو سروالاً فإنه يطوف على نوافذ عرض الملابس فى أكثر من شارع لمدة أسبوع أو عشرة أيام حتى يستقر على القميص الذى يريد.. فما بالكم برئيس الجمهورية أعزكم الله..؟! وحتى السادة المرشحون المحتملون حتى الآن، وإن كنا نعرفهم جميعاً بالاسم والشكل والصفة إلا أننا لا نعرف شيئاً عن برامجهم الانتخابية التى هى الدافع الأول للاقتناع بالمرشح والتصويت لصالحه من عدمه.. ولكن ونظراً لانعدام الجدية، وفى ظل هذا الواقع الأليم، يمكن اختيار «خيال المآتة» القادم عن طريق القرعة أو إجراء لعبة الكراسى الموسيقية بينهم، وتوفير النفقات، وأيضاً الحفاظ على وقت الناس وعدم إزعاج القضاة والسلطات..
 
ولكن هذا الأمر لن يكون، لأن الشكل الديمقراطى هو المطلوب وليس الديمقراطية ذاتها.. والمسألة كلها تسديد خانات، وخلق مناخ كاذب يستهلكه الإعلام بكفاءة عالية ويصنع منه ضجة هائلة ولكن بلا طحن.. وسبق للمجلس العسكرى أن مارس نفس الخدعة وشربناها بكل سرور، فلا أحد ينسى ما حدث فى الاستفتاء على ما يسمى «الإعلان الدستورى» المعيب، الذى حول أهل مصر إلى «مسلم» و«كافر»، وهى المصيبة التى أحدثت شرخاً عميقاً فى عمق المجتمع المصرى الذى كان يتمتع بالصلابة والتماسك ويترك الدين لله والوطن لكل الناس.. وهذه الأحزاب التى فقست أسرع من فقس البيض تحت الدجاجة..
 
 قبل الثورة كان فى مصر أربعة وعشرون حزباً، الآن العدد تخطى الستين حزباً وأتحدى أى مواطن أو حتى خبير فى شؤون الأحزاب أن يذكر أسماء عشرة أحزاب فقط دون الاستعانة بصديق أو عدة أصدقاء.. هى فى حقيقة الأمر الكثرة المعرقلة والمضللة والمفتتة للقاعدة الشعبية، حتى إن أغلب هذه الأحزاب النكرات أصبحت مثل الثقوب فى الثوب.. وأيضاً بعض هذه الأحزاب حصل على الموافقة بالمخالفة الصريحة والمباشرة للدستور وكأننا أردنا البناء بمواد مغشوشة منذ البداية وعن عمد لسبب لا نعلمه ولا ندريه.. تزامن هذا مع انقسام شباب الثورة وتفتتهم أيضاً، حيث وصل عدد الائتلافات الثورية إلى أكثر من مائتى ائتلاف.. بالإضافة إلى الحركات السياسية مثل «كفاية» و«٦ أبريل».. و.. و.. فإذا انتقلت إلى التيارات الدينية: إخوان.. جماعات إسلامية.. سلفيون.. شيعة.. صوفيون.. ومذاهب أخرى، ثم نأتى إلى الأقباط وهم قوة صامتة لا يستهان بها، وهم الآن داخل مجتمع تعصف به الرياح، وغالباً - وفى وقت قريب - سوف تسحبهم هذه العواصف إلى داخلها على اعتبار أن هناك من يقول «إذا لم تكن العاصفة فأنت من ضحايا العاصفة»..
 
كل هذه الفرق والطوائف لها أهدافها الخاصة والمغرقة فى الذاتية، ولأن هناك ما يقرب من عشرين قناة فضائية موجهة إلى الشعب المصرى وكل واحدة تروج لما يريده ويراه صاحبها الظاهر أو الخفى، وأغلبها ينعق نعيق البوم ينذرنا بالخراب والفناء.. وبعضها يروج للفوضى ويعمل على بث الفتنة، وكم من ذئاب ارتدت جلود الحملان، وأطلت على الناس تبث سموم الهدم وتنشد أناشيد الباطل.. ويا سبحان الله تزاحم على هذه القنوات نفر غير قليل من الصفوة وغير الصفوة، وقد أصبحوا رجال سياسة واقتصاد وعلوم فلكية إذا لزم الأمر، ولا أحد يتفق مع الآخر حتى لو كان الاتفاق حتمياً.. وللأسف الشديد كل هذا الانقسام والتفسخ والتشرذم جرى ويجرى أمام سمع وبصر المجلس العسكرى الذى يتولى أمور البلاد.. ومع هذا يأخذ موقف المتفرج.. ومن العار علينا جميعاً أن يزعم أى كائن من كان أن المجلس العسكرى لا يعلم.. أو أنه لا يقدر على فعل شىء.. وكيف لا يعلم وهو المسيطر على كل أجهزة جمع المعلومات وأجهزة المخابرات والأمن القومى.. وكيف لا يقدر وهو الذى يملك القدرة والقوة من رجال وسلاح وعتاد.. لماذا يترك البلاد على هذه الحالة كأنها الغوغاء.. (الغوغاء هى صغار الجراد.. فى انطلاقها تتخبط فى كل الاتجاهات لأنها بلا قائد)..
 
 وعلى المجلس العسكرى أن يعى ويدرك أن هناك قطاعاً كبيراً من الشعب المصرى يرى أن المجلس العسكرى لم يأخذ جانب الثورة ولم يدعمها إلا مضطراً لأنه فرع أساسى ورئيسى من النظام الساقط، فإما أن يكون معه زميلاً ورفيقاً فى كل ما يجرى عليه، وإما أن يكون مع الثورة فيضمن السلامة وتجنب الحساب والمساءلة، ويرى البعض أيضاً أن المجلس العسكرى حتى يضمن الحد الأقصى من السلامة كان إقدامه على الزواج العرفى من أشد أعداء النظام الساقط وهم جماعة الإخوان.. وللأسف كان الوطن غائباً فى هذه الزيجة المشؤومة التى تدللت فيها الجماعة وفرضت شروطها على المجلس وألزمته بالسمع والطاعة فكان لها ما أرادت وزيادة.. وتمت زراعة أرض مصر بالألغام التى أخذت تنفجر الواحد تلو الآخر: إضرابات واعتصامات حاشدة من أجل تحقيق مطالب فئوية شملت البلاد من جنوبها إلى شمالها.. وانهيار أمنى تام على إثره انطلقت عصابات الخطف والنهب والترويع والسطو.. وفى ظل حكومة رخوة كأنها مكونة من أرغفة عجين الذرة تفاقمت الأمور وتدهورت الأحوال وأغلقت أبواب مصر ونوافذها على الهم الذى سكن أرضها..
 
 وكان من الطبيعى أن يكون المقبل هو الأسوأ، وكل يوم يمر علينا يكون أكثر سواداً من اليوم الذى كان قبله.. صراع حاد وقاس من أجل المصالح الخاصة جداً وليس من أجل الوطن وإن زعم الجميع أن صراعهم من أجل الوطن.. كلهم حول الجثة وفى أيديهم أدوات القطع حتى ينال كل واحد منهم النصيب الأكبر من الإرث.. لهذا تذكرت الفيلم الإيطالى القديم.
 
والآن ونحن على هذا الحال اليائس البائس: مصالح معطلة.. ومصانع لا تعمل.. وحقول لا تعطى نصف محصولها.. ومحال لا تبيع.. وشوارع مغلقة.. وسياحة هربت.. وفنادق خالية.. ومدارس تفتح أبوابها ولا تجد من يدخلها.. وانتشار واسع ومرعب للجريمة.. ومجلس شعب منتخب بواسطة انتخابات نزيهة وطاهرة وشريفة نتفرج عليه والحزن يملأ القلوب والأفئدة ونحن نشاهد ضحالة الفكر وفساد المنطق وغياب الديمقراطية ومصادرة الآخرين وظهور نماذج صورة طبق الأصل من أعضاء المجلس السابق مع إضافة «اللحية أو الزبيبة، حتى محدثى الضجة والفرقعة»، مجلس ظهر به من ينافق ومن يزايد ومن يتملق ومن يداهن ومن هو مستعد لتقبيل يد النظام أياً كان.. وعظيم جداً أن تكون الجلسات أمام الشعب حتى يحكم على السادة النواب الذين اختارهم سواء بشفافية أو بخمسين جنيهاً ولفافة لحم أو بقناعة مطلقة.. لأن كل واحد من السادة الأعضاء من الواضح أنه فرح بالغنيمة التى لم يتوقعها لكنه فاز بها، والآن ليس لديه ما هو أهم منها، وليس مهماً على الإطلاق أن تظل النار مشتعلة فى جسد الوطن..
 
ولا أعرف لماذا كلما شاهدت بعض المقاطع من الجلسات تذكرت على الفور الشاويش عطية وهو يفحص وجه إسماعيل يس قائلاً: «هو بعينه وغباوته.. أنا لا يمكن أتوه عنه»، والحق يقال إنه حدث تطور لا يجب أن نهمله، فقد كان أحد السادة الأع ضاء يوزع اللب والسودانى على حضرات السادة الأعضاء على اعتبار أن جلسات المجلس جلسات تسلية، وليست القاعة قفص قرود لا سمح الله، حيث إن المجلس السابق كان يحتمل أن يكون أى شىء.. أما فى المجلس الحالى، والحمد لله، فلا يتم توزيع اللب والسودانى وإنما «الحلوى ماركة هولز»، ومشاكل الوطن الملتهبة قائمة تطارد الناس بكوارثها: قطع الطرق وخطوط السكة الحديد.. السطو على البنوك.. خطف الأطفال والرجال والنساء.. سرقة المحال والمنشآت.. وانتشار الفوضى التى بشرنا بها الرئيس الساقط.. كانت هذه مجرد صغائر..
 
 أما الكبائر فالسادة أعضاء المجلس يعلمونها جيداً وأكثر منى بالتأكيد.. نحن دولة فقدت مكانتها وأهدرت هيبتها وبددت ثروتها وأتلفت مصادر إنتاجها.. وليس هذا بسبب الثورة أو بفعل شبابها وإنما بفعل سوء الإدارة وهوانها وفساد رؤيتها وعجزها التام، وعدم قدرتها على إعمال القانون والخوف الذى سيطر على الذين لا يجب أن يخافوا.. فرق كبير بين عشاق السلطة وعشاق الوطن، فرق كبير بين الذين يتاجرون بقضايا الوطن بداية من دم الشهداء وخبز الفقراء والحقوق الضائعة والعدالة الغائبة والحرية المفقودة وهم أصحاب الصوت العالى أساتذة الكلام والانفعال الكاذب.. وبين الذين يحملون هذه القضايا فوق رؤوسهم كأنها أولادهم وبناتهم.. فرق بين الشرف والعار.... لكل ما سبق.. أصرخ: استيقظوا أو موتوا...!
نقلاً عن المصري اليوم