محمد حسين يونس
يحزنني أن أرى حجم التشوهات.. التي أصبحت عليها مدينتي ( القاهرة ) ..لقد تحولت إلي مكان لا طابع له .. يكفي أن تشاهد السور الجديد الذى يقيمونه حول مطار القاهرة من ناحية محور جوزيف بروز تيتو .. ثم تقارنه بالسور المقابل له للكلية الحربية .. و باقي الأسوار حول المنشأت الهامة في المنطقة ..لتعرف أننا نعيش في مكان لا طابع له . تحكمة العشوائية و إفتكاسات أصحاب العظمة من المهندسين المسئولين .

الزائر لمدينة القاهرة لأول مرة .. سيلفت نظره أنه يتجول في عدة مدن لا علاقة لبعضها ببعض .. و أنه لا يوجد طابعا معماريا يميزها عن باقي مدن العالم ..سوى الهرم ...

و الحق أن التشوه الذى حدث علي القاهرة المملوكية بدأ مع مدخل القرن التاسع عشر .. حين كانت طرز الإضافات أغلبها مستوردا من بيئات مختلفة عن البيئة التي تقام بها.

.. لقد كان المعمارى دائما أجنبيا .. ينقل ما تم تطويرة في بلدة .. أنظر إلي ما تركه محمد علي و أبناؤة ..من منشئات مقلدا لباريس أو روما .. و كيف يتعارض هذا .. مع القاهرة الفاطمية القديمة..

ثم أنظر إلي قاهرة ضباط يوليو .. التي إهتمت بالكم علي حساب الكيف وكيف كونت منازلها الإقتصادية طوقا غير مريح حولها ..و كيف تم نقل .. معظم طرز المباني المستجدة من الإتحاد السوفيتي

ما جرى من إستعارة طرز الخارج كوم ..و ما تم إنشاؤة مع الإنفتاح الساداتي كوم أخر .. لقد سادت فوضي معمارية تعبر عن تغلب مظاهر الربحية ..علي القيم الوظيفية و الجمالية .

النتيجة النهائية للتدهور الذى صاحب زمن الإنفتاح هو ما يقوم به ضباط الزمن الحالي .. من نقل للنمط الخليجي في مدنهم الجديدة .. و تدمير كل ما يتصل بالشخصية المصرية في البناء (كما لخصها حسن فتحي ) قبل أن تزحف القيم المريضة علي الغيطان تبني عمارات عالية قبيحة .تغم النفس .

في بلدنا خلال زمن عمرى شهدت أربع مراحل أساسية مر بها سوق الإنشاء
الاولي :- في طفولتي ..عندما كان الريف متخلفا فقيرا .. غير صحيا.. يعيش فيه الفلاح و دوابه في نفس المكان بمنازل مبنية بالطين علي النمط الذى لم يتغير عبر العصور .. ينتج كل إحتياجاته بنفسه من عيش و جبن و لبن .. و خضروات ..و بيض و دواجن .. و بجوارها قصر الإقطاعي أوربي الطراز تفصله عن مساكن الأقنان أسوار عالية .. و نقلة نوعية في الحياة ..

و أهل المدينة .. يعيشون في أماكن مخططة جيدا .. و مهتم بنظافتها .. و سهولة الحركة فيها و تيسر وسائل الإعاشة .. و المواصلات و التعليم و الصحة

في هذا الزمن .. كان المستثمرون يبنون المنازل في الأحياء غير الشعبية من أجل تأجيرها .. و كانت تدر لهم دخلا حسب مكان العقار و إتساعة .. و كان المقاولون في أغلبهم أجانب و التشطيبات مستوردة .و كنت تتحرك في مدينة القاهرة فتجد إعلانات (( شقة للإيجار )) معلقة علي البلكونات بمختلف المستويات .. موجودة بكثرة .. فالمعروض أكثر من الطلب.

و الثانية :- في صباى بعد 52 و إهتمام الضباط .. بأحوال الفلاحين و حماسهم لتغييرها .. ثم مع تطبيق قانون الإصلاح الزراعي و تمليك المعدمين لأرض الإقطاعيين ..إنقلبت الحياة هناك ظهرا علي عقب و توقف الفلاح عن إعالة ذاته فلقد كان رغيف القمح الأبيض متوفرا في الأفران رخيصا.. و فرص العمل في المدن سانحة خصوصا في أعمال التعمير .. والبناء

و علي ذلك ففي نفس الوقت الذى كان عمال المقاولات يبنون فيه مساكن الطبقة المتوسطة في مدينة نصر و مدينة الإعلاميين ..و الصحفيين و المهندسين .. و يبني المساكن الشعبية .. للأسر الأقل حظا .. كان العامل القادم من الريف ينشيء لنفسه مدن الصفيح علي حدود العاصمة أو الأسكندرية .. فنجد عشوائيات منشية ناصر و الكيلو 4.5 في القاهرة .. و في الأسكندرية ميرغم و العصافرة و غيرها ..

الإنقلاب الذى حدث في نشاط (الريال ستيت) .. كان له ملمحان .. أحدهما أن العقارات أصبحت تمليك .. و تراجع البناء من أجل الإستثمار خصوصا بعد قانون تخفيض إيجارات السكن ..

و الأخر الإعتداء علي مساحات واسعة من الأرض الزراعية .. و زرع الأسمنت(و الطوب الأحمر ) بدلا من الأشجار في تصرف عشوائي .. غير مخطط و غير مدروس فيه إحتياجات المجتمع والمستخدمين جرف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية و لوث منطقة مثل حلوان بمصانع الحديد و الصلب .. و غيرها ذات المداخن التي تبث التلوث البيئي .

زيارة واحدة لمباني الستينيات ( اليوم ) سواء الإقتصادية أو المتوسطة .. سيدهشك حجم التعديلات التي أجراها السكان علي منازلهم .. بحيث اصبحت كتل مشوهه غير متجانسة .. و غير صحية .. أو إنسانية .

و مرورا بين مزارع مصر في أى محافظة .. ستذهل من حجم التعديات الذى تم علي الأرض الخصبة.

المرحلة الثالثة :- في شبابي ..كان الإنفتاح الإقتصادى .. و الإستيلاء علي الأراضي بوضع اليد أو بالإتفاق مع العربان .. بحيث تحول طريق مصر الأسكندرية الصحراوى إلي طريق المنتجعات و التجمعات السكانية ( الكومباوندات ) المحمية بالأسوار و الحراسات ذات التكاليف المرتفعة ..و بجوارها كانت تتوسع العشوائيات أيضا ..

و بدأ إستثمار الحكومة ببيع أراضيها (علي أساس أن كل القطر المصرى ملكا لها حتي يثبت عكس ذلك ).. و منافسة مطورى الريال ستيت في أعمالهم ...و (كما هي العادة بحسن نية ) الكفراوى يبني قرى الساحل الشمالي السياحية.. و يقول ( نأخذ أرباح المساكن الترفيهية لنبني بها وحدات شعبية ) ..
حتي جاء محمد إبراهيم سليمان .. فوزعها علي الحبايب من المسئولين بأسعار التكلفة ..ثم تركها للسوق يرفع قيمتها ليحصدوا أرباحا خيالية تدعم مكانته لديهم وإستمرار إحتفاظه بالكرسي

ثم توالي الوزراء يتنافسون في تحقيق إيرادات أعلي .. المغربي جعلها بالمزاد .. فتزايد الإقبال .. حتي و صلنا لمرحلة أن يصبح سوق الريال ستيت مغريا لكل من يريد تكوين ثروة سريعة

المرحلة الرابعة: - مع كهولتي ..دخلت الحكومة (أخيرا ) بثقلها وأصبح بيع الأراضي و الإسكان الفاخر الذى يصل قيمة الوحدة فية إلي عشرات الملايين وسيلة تعويض عجز موازنتها .. و جمع إستثمارات بدون جهد .. و تجميد السيولة النقدية بالشارع .. في اصول ثابته .. فيما يسمي إقتصاد الريال ستيت
و أصبح إغراء المستثمرين الأجانب بأماكن أمنة بعيدة عن المدن المكتظة هدف النظام .. (الحكومة .. و البرلمان .. و القوات المسلحة ).. و كل من يؤمن بهذه السياسة الإقتصادية... لنعود إلي المربع واحد... الفقر المذل بجوار الغني الفاجر .. و لا يوجد وسط

في ظل هذه الفوضي في الإنشاء التي لا تتبع أى دراسات تكامل بيئي أو جدوى أو لها مردود إجتماعي إيجابي .. و مع ظهور الاف المقاولين الذين يسعون خلف الأرباح بعد أن برك القطاع العام .. ظهر ضباط يوليو 2013 .. يحملون شعار (( يد تبني .. و يد تحمل السلاح )) .. بدأوا بالكبارى و الطرق .. ثم إنقضوا علي الأوزة السمينة .. يقطعونها تقطيعا

عشوائية التعامل مع (الريال ستيت) أدت إلي كارثتين أحدهما إجتماعية .. فإن أغلب سكان مصر يحتاجون لسكن نظيف و مريح و هو غير متوفر بواسطة الحكومة أو القطاع الخاص .. فتلجأ للعشوائيات ..

و أن ما تم إقامته من وحدات يزيد عن حاجة أغنياء المكان فظلت الاف منها غير مستخدم و مغلق إنتظارا للفرج ..

و الظاهرة الثانية إرتفاع سعر البيع للاراضي و للوحدات السكنية .. و الذى يتجاوز مئات المرات التكلفة الفعلية .. ليجن السوق علي كل المستويات ...فقد تحولت العقارات إلي سلع .. غير محكوم سعرها .. تزيدها تأجيجا تلك الاسعار المعلنة لوحدات مشاريع الحكومة و القوات المسلحة و التي إنتهت إلي تجميد كميات كبيرة من السيولة في السوق وإضطرابات بين البنوك الممولة لسلعة راكدة.

درست في كلية الهندسة العمارة .. و تعرفت علي الطرز المختلفة .. و أنماط المدن قديمها و حديثها ..و تعلمت أن العمارة الجيدة هي التي تغطي وظيفتها بيسر .. و تراعي ظروف البيئة .. و التكلفة ..لها ملامح جمالية متوافقة مع ما حولها من بيئة طبيعية أو صناعية .
و عندما .. عملت كمهندس أدركت من الشهور الأولي .. أن أمل حسن فتحي في خلق عمارة متوافقة مع البيئة هو حلم .. لا يمكن تحقيقة ما دام أصحاب القرار يفتقدون لمبادىء فهم القيم الجمالية .

و لكن الأكثر حزنا أنني كنت من أوائل من درسوا ( كونستركشن مانجيمنت ) أو إدارة الإنشاء .. و زاولت هذه المهنة لفترة طويلة .. و أشرفت علي تنفيذ أكثر من نظام تعاقدى .. و منها إيكال العمل لكونسورتيوم يقوم بالتصميم و الإنشاء و التشغيل .. فوجدت أن الحافظ لحقوق هذا الوطن أن يكون هناك ..( مهندس ) يدير العمل.. قوى .. و مثقف .. و أمين ..يحفظ الحقوق و يدل موظفي ( الحكومة ) علي الصالح بأن يعمل حكما بين طرفي الإنتاج

...و لكن للأسف ..تقلص هذا الدور .. ولم يعد فعالا في أغلب الإنشاءات المستجده ..فالمالك الميرى بيفهم في كل حاجة حتي إقامة المحطات النووية .. و مش محتاج لعوق الإستشاريين .