بقلم – روماني صبري
"يا لهؤلاء الكتاب القصاصين! إنهم بدلا من أن يقصوا على الناس شيئا ينفعهم يجلب الفرح إلى قلوبهم، راحوا يكشفون في أعمالهم خفايا وأسرار الحياة على كوكبنا المسمى بالأرض، فضلا عن أزالتهم النقاب عن جميع مصائب الوجود ! .. لو كان الأمر في يدي لمنعتهم عن الكتابة!.. أفكر في النتائج التي تنبثق جراء كتاباتهم المجنونة، فبمجرد إن يقرأ الإنسان ما يكتبون .. فإذا هو، على غير إرادة منه يأخذ يتأمل، و إذا بجميع أنواع الأفكار العجيبة والكارثية تحط رحالها برأسه."

 "الأمير فلاديمير ف اودويفسكى"
أختلف الكثيرين حول هذا القول المأثور، حيث رآه البعض جاء تعليقا على الروايات الروسية التي غمرت العالم في القرن التاسع عشر ، لواقعيتها الشديدة ما جعل الحزن يطفح عليها، فيما رأى البعض الآخر انه مدح وثمن جهود القصاصين لتسليطهم الضوء على اعتي وأقبح جوانب الحياة .. تجدر الإشارة إلى أن ثمة فارقا كبيرا بين معالجة الواقع في السينما والأدب، رغم توافق الجوهر ، وذلك جراء سيطرة قواعد السيناريو ، والتعبير بالصورة، ما يضيف سحرا استثنائيا للسينما، كما يضيف تخيل شخصيات الرواية للقارئ ويلهب شغفه، وفي زمن التعبير بالكلمة والصورة " السينما" اضطرب الملايين وأعلنوا كفرهم صراحة بصناع الأفلام، إذ رأوا أن الفيلم يجب أن يقول شيئا هادفا حتى يساعدهم على دخول الجنة، نعم دائما ما تفوه البشر بهذه العبارات، حتى من داخل الوسط الفني العربي.

ربما يهول الفنان من الأمر لاستسلامه لنرجسيته وإيمانه بقضيته حتى يعيش مرتاح البال كلما أبصر أعماله، في عام 1976 عرض فيلم الياباني الراحل "ناجيسا أوشيما"، "إمبراطورية الحواس"في مهرجان كان السينمائي، فتباينت الآراء حوله، رآه البعض فيلما من الأفلام الزرقاء - البورنوجرافيا- فيما رآه البعض الأخر عملا سينمائيا جريئا لا مثيل له .. إمبراطورية الحواس اقتبس من الحياة، وأدرك تماما دون تخمين أن الملايين لازالوا يشاهدون الفيلم باعتباره فيلم " إباحي" يثير غرائزهم لما يحتويه من مشاهد جنسية صريحة، لكن مشاركة الفيلم في كان وعرضه بشكل رسمي في دور العرض الفرنسية رفع عن كاهل مخرجه الكثير، وبيض وجهه أمام شعبه في اليابان، كذلك أمام الشعب الأمريكي الذي ضغط على حكومته آنذاك لتسمح بعرضه داخل السينمات الأمريكية، بعدما صادرت شرطة الجمارك نسخ الفيلم، وكما حدث في أمريكا حدث في المملكة البريطانية المتحدة، وبعد سنوات تذكر عرض الفيلم رسميا في البلاد المذكورة، ويعود الفضل في ذلك لثورة الطلاب في فرنسا نهاية الستينيات والتي حررت الفن من أنياب السلطة وقتها، واقتداء بها ظل الشباب في أمريكا ودول أوروبا يضغطون على الحكومات حتى ظفروا بجزء من حلمهم.

استند اوشيما في "إمبراطورية الحواس" والذي بات اسمه فيما بعد "مملكة الحواس"، على جريمة حقيقية بشعة وقعت في اليابان عام 1936، بعد قيام فتاة ليل بقتل و قطع عضو عشيقها التناسلي، والتجول به في الشوارع ، لتقع في قبضة رجال الشرطة.. بمعالجة سينمائية عبقرية غاص أوشيما في النفس البشرية وأغوار الجسد، وفضح دمامة الفاشية الحاكمة في اليابان والضجر الذي نزل بالشعب، بهروب أبطال الفيلم من واقعهم الكريه بممارسة الجنس، وابتكار طرق جديدة تعتمد على أنهاك الجسد وتعذيبه لجني مزيدا من اللذة، ولم يعكس ذلك غياب اللاوعي على الإطلاق، أوشيما هنا يسجل تلك الفترة بعين الفنان حتى لو اضطرب هو الآخر في نظر البعض ليصور هذا الفيلم... في مملكة الحواس : منازل مغلقة تعكس الكثير من المعاني، علاقات ما تنفك تزداد، خلق عالم جديد لا يوافق ما يؤمن به الشارع من قوانين، تنبؤ بالحرب العالمية.

 فمثلا قد يضجر البعض من حياتهم، بعدما باءت كل محاولاتهم في العيش بكيفية ترضيهم بالفشل، فيقدم بعضهم على الانتحار ويقرر البعض الآخر المحاولة حتى النهاية.. ثمة ثورة وهياج داخلي ينبثق من حرب الأفكار والاختلافات بين البشر، فضلا عن التجارب القاسية التي تنزل بحياتهم خلسة، والإنسان سواء عاش سعيدا أو حزينا سيظل يعبر عما يدور بداخله، والضحك والبكاء يعكسان هذه الحقيقة، إنسان أقدم على الانتحار بإلقاء نفسه تحت عجلات المترو ما الذي يريد توصيله إذا ؟.. ثمة رسالة في الفعل وهو رفض العالم وطلب العون من الآخرين، كذلك الذي يتمسك بنرجسيته فيشرع في التفاخر كلما التقى بأحدهم، "ننصهر فنعبر" لطالما كفر الرجل بالحروب، لدورها في إذابة جماليات النفس البشرية.

 وفي فيلمه الشهير "ماري كريسماس مستر لورانس"، والذي لم يثير الجدل كعادة أفلامه، ربما لعدم احتوائه على مشاهد حميمية !، يعبر اوشيما عن ذلك بقوة دون أن يفقد الإنسان.. سأشارككم منشور كتبته منذ سنوات عبر حسابي على " فيسبوك" حول هذا الفيلم لأضع نهاية يرتاح لها القلب للمقال :" أوشيما في فيلمه عيد ميلاد مجيد مستر لورانس سلط الضوء وأبحر داخل نفسية الجنود خلال الحرب العالمية الثانية دون انحياز لبلده ، من خلال معسكر ياباني للأسرى البريطانيين بيشهد انتهاكات بشعة وأعمال تعذيب من قبل الجنود الفاشيين اليابانيين في حق الأسرى، لكن رغم كل ده في احترام وحب متبادل بين بعض الخصوم .. اسم الفيلم لخص كتير أوي ، يبان من اسمه انه فيلم أمريكي يحكي قصة جديدة من قصص الكريسماس اللي برعت فيها هوليوود، لكنه إعلان صريح بالكفر بالحرب والطائفية والحدود والتقاليد، وانتصار للإنسان، حتي لو ظهر غير مضيء أوي لكن العبقرية انه خلانا نلمس الإنسان، هنا في مستر لورانس اللي كتبه وأخرجه مفيش طرف بيخوض الحرب ومعه الحق والحقيقة المطلقة، رغم جرائم النازية الفاشية في ألمانيا ونظيرتها اليابان آنذاك."

الانحياز للوطن لم يبارح مستر لورانس، وده بيبان من الحوار اللي بنسمعه علي لسان أبطاله ... الأسري البريطانيين رغم العداء وقوانين الوطنية امتزجت أرواحهم في بعض اللحظات مع بعض القادة اليابانيين والعكس صحيح، مشهد القائد الياباني الشرس وهو بيقص بسكينه الحاد خصلة من شعر القائد البريطاني الشجاع "مستر سيليرس" وهو بيحتضر شديد الإنسانية ، وهو القائد اللي آمر بإعدامه بيحب يحتفظ بجزء من شعر قائد بريطاني عدو ليه وبيمنحه التحية العسكرية لشجاعته وحبه لوطنه ..أداء أكتر من هايل من "ريويتشي سكاموتو" ، وللعلم سكاموتو هو مؤلف الموسيقي التصويرية للفيلم واللي برع من خلالها في التعبير عن جانب مشرق في الإنسان رغم دمامة الأجواء.

تتبدل الأحوال .. ومشهد النهاية بيجمع "مستر لورانس" الضابط البريطاني بعد فوز بلاده في الحرب مع قائد ياباني من رؤساء المعسكر المذكور، هيتم إعدامه صباح اليوم التاني.. عالج بيه اوشيما تذكر الروح البشرية لكل إحسان يقدم إليها حتي لو من عدو ، مستر لورانس لم ينسي أن هذا القائد سمح له انه يحتفل بعيد الميلاد المجيد وهو تحت تأثير الخمر ، وهنا في إسقاط فلسفي جميل أن الخمر مش هي السبب في أنها خلت القائد الياباني "هيرا" يسمح لعدو ليه انه يحتفل بعيد الميلاد المجيد وفقا للعقيدة المسيحية، التي لا توافق عبادته الوثنية فضلا عن انه عدو .. الخمر مش هي السبب في فعله ..ومن حق كل مشاهد يفهم ويحلل زي ما شاف جواه ، السينما في النهاية أذواق وتأويل مختلفة وده بيزيد من جمالها .. السكر في المشهد هو حقيقة الإنسان اللي ظهرت لان الحب مهما كان صغير في الداخل إلا انه يعتبر المسيطر وسط عادات وتقاليد وحشية واعتناق الدين والوطنية ، الإنسان بيتولد وبيتكابلوا عليه عشان يورث عنهم كل حاجة يبقي صورة كربونية منهم."

 هيرا السجين بينادي لورانس وبيصرخ صرخة القائد زي ما أتعود يناديله وهو قائد قبل خسارة اليابان الحرب ولورانس بيستدير وبيبصله وهو مبتسم  بيقوله :"ميري كريسماس مستر لورانس" ، بيفكره بموقف حلو من الماضي وقت ما سمح له يقيم شعائر عيد الميلاد المجيد داخل معتقل الأسرى رغم اعتراض البعض، وهنئه بقوله " ماري كريسماس مستر لورانس."