خالد منتصر
الرقص هو لغة الروح المختفية الكامنة الرابضة فى سراديب النفس تنتظر الانطلاق لتبث الحيوية وتشعل الأمل، هذا ما أحسسته وتأكد لى عندما رأيت الفنان الجميل محمود رضا ابن التسعين أثناء تكريمه وهو يصعد إلى المسرح متثاقلاً فى البداية تحت وطأة السن، ثم إذ فجأة تدب فى الأوصال المتعبة والأطراف المنهكة طاقة حيوية وبهجة وروح تحدٍّ، تجعل هذا الشيخ الجميل يرقص كابن العشرين فى إيقاع متناغم مع الفرقة، يرقص بكل رشاقة، ذاكرة الجسد لم تخنه، حتى لو خانته ذاكرة الزمن، الرقص ثقافة حياة فى مواجهة ثقافة الموت،

نجحت الفاشية الدينية والرجعية الاجتماعية فى أن تقتل فينا محبة هذا الفن الجميل، الذى يستخدم الجسد كأداة تشكيل فنى، مثله مثل استخدام الفنان للأزميل فى النحت والريشة فى الرسم، الرقص علاج نفسى'> الرقص علاج نفسى وحاجة فطرية وتأمل وجودى، حاولت الرجعية الدينية وأد واغتيال تجربة تلك الفرقة فى بداياتها، كان زوج خالتى، رحمه الله، يحكى لى أنه أثناء دراسته فى كلية الهندسة كان يدرّس له د. حسن فهمى، والد الراقصة فريدة فهمى، وكان هذا الرجل العظيم العملاق والذى أعتبره شريكاً مؤسساً لذلك المشروع الفنى العبقرى، يواجه تياراً من الإسلاميين داخل الكلية يسخر منه ومن تشجيعه لابنته على الرقص فى فرقة رضا،

لدرجة أن بعضهم كان يدخل قبل محاضرته ليكتب له بصفاقة على السبورة «حسن فهمى جاء من البيت إلى المحاضرة رقصاً»، يكتبونها بدلاً من جاء رأساً على سبيل التلسين والسخرية والترويع وبث الإحباط!!، الفجاجة وغلظة الحس فى مواجهة الفن والإبداع، هذا الرجل الرشيق محمود رضا الذى لخص لنا سر الحياة فى الخطوة والحركة وفى كلمة الإيقاع، كل شىء فى هذا الكون يخضع للإيقاع الذى هو شفرة الرقص، بداية من الشهيق والزفير وحتى الليل والنهار، مروراً بالمد والجزر والنوم واليقظة.. إلخ، الدنيا كلها ترقص على إيقاع خطوات السماء، الطيران إلى السماء والتحليق فوق السحاب هو شعور الراقص الذى يصل إلى مرحلة النيرفانا، كالصوفى العاشق، نحن عشقنا كل ما هو متكلس، من الفقه المتكلس إلى الجسد المتكلس، جسد الجبس الغارق فى النشا الرافض للرقص وحركة الإيقاع، بحجة الحرام وعدم الاحترام، جاء محمود رضا بعد كل تلك السنوات ليفكه ويزيل الصدأ عن تروسه، ليبث الروح فى أجسادنا المتخشبة، ويقول لنا ارقصوا وعبروا بأجسادكم عن تفاعلكم مع الموسيقى،

لا تخجلوا من أجسادكم التى حمّلتموها كل خطايا الكون فصارت دنساً، أجسادكم صارت جثثاً علامة الحياة الوحيدة فيها هى التنفس، استفز رضا كسلنا المزمن، محمود رضا الذى كان وزارة خارجية متحركة تجوب العالم وترفع اسم مصر هو والفراشة الملونة فريدة فهمى على ألحان بيتهوفن مصر على إسماعيل وحنجرة محمد العزبى، هذا الرجل أحترمه وأنحنى له احتراماً، وسأغنى مع محمد منير «علّى صوتك بالغنا وغصب عنى أرقص».
نقلا عن الوطن