6 ـ الأقباط ... اغتراب فى وطن !!

كمال زاخر

ما بين الاستبعاد والإستهداف، والإنكفاء، والصمت الحكومى المزمن الذى يلامس جدران التواطؤ فى أحيان كثيرة، تلقف كثير من الأقباط، فى الثمانينيات من القرن العشرين "ترنيمة" سرعان ما انتشرت ووجدت مكاناً اثيراً فى الإجتماعات الكنسية، فى كل الكنائس على اختلاف طوائفها، والبيوت، وكانت الأعلى مشاهدة على موقع اليوتيوب، خاصة تلك النسخة المسجلة بصوت شجى لصبى يؤديها باللهجة الصعيدية، ربما لأن الصعيد كان الأكثر تعرضاً للإستهداف ما بين التخريب والقتل والتهجير القسرى من قِبل الجماعات المتطرفة أو بضغط منها.

يقول قرار الترتيمة ـ الفقرة التى تتكرر بين ابياتها ـ
"لكن أنا مش من هنا / أنا ليا وطن تانى،
لا مال ولا جاه ولا غنى / دا كله عالم فانى"،

وتؤكد ابيات الترنيمة على مفاهيم الإغتراب والتوق للخروج من العالم والإنتقال إلى الحياة الأبدية. تأسيساً على فهم كاتبها الملتبس لقول الرب يسوع المسيح "إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ" (الإنجيل كما سجله القديس يوحنا فصل 15 فقرات 18 و 19).

ويبدو أن كاتبها لم ينتبه لما ورد فى صلاة المسيح قبيل رحلة الصلب والتى أورده نصاً ذات الإنجيل : "أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلاَمَكَ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ، لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ....وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ، لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا،" يوحنا 17 : 15 و 20 و 21".

وقد عمق هذا الفهم الملتبس ما شهدته الكنيسة فى النصف الأخير من القرن العشرين من انتشار المفاهيم الرهبانية ـ ربما لنفس الأسباب ـ فى أروقة التعليم الكنسى، رغم أنها لصيقة الإرتباط بالفضاء الديرى، ولا يمكن أن تكون سوية في غيره، كانت محاورها هى النذور الرهبانية "العزلة وعدم الإقتناء أو التجرد والطاعة" باستثناء البتولية، وإن كنا نجد فيها، بحسب ما تحمله التعاليم المنتشرة بغير ضبط ابائى وكتابى، تكأة دعمت عزوف طيف من الشباب عن الزواج، فى تضافر مع عوامل أخرى اقتصادية وسيكولوجية يقف ورائها عدم التحقق، وغير بعيدة عن تنامى حالات الطلاق والإنفصال خاصة فى سنى الزواج الأولى. واخشى أن تصير ظاهرة.

على أن هذا "الإغتراب" لا يتسق مع الوعى المسيحى الذى تأسس على كون المسيحية دعوة للإنفتاح على الإنسان، لكونه إنساناً، لتحقيق "الحياة الأفضل"، هنا على الأرض، ومثالها المسيح الذى كان يجول يصنع خيراً، منحازاً للمستضعقفين والمهمشين و "الذين ليس لهم أحد يذكرهم"، مشاركاً الناس، حال تجسده، فى أفراحهم وأحزانهم، واحتياجاتهم، إذ كان مثالاً للإنسان الإيجابى والفاعل فى مجتمعه، ولم يتوقف عن العطاء حتى الموت إذ بذل نفسه لإجل الآخرين.

ولعلنا نمد بصرنا خارج محميتنا الطبيعية لنتعرف على مسيحية المشاركة والعطاء، بامتداد العالم، وقد ترجمت منظومة قيمها فى مؤسسات إنسانية أممية تمد يد العون فى ارجاء المسكونة، وحتى رهبانياتها التى نقلتها عنا، لم تنكفئ على ذاتها، بل خرجت من اسوارها ـ رغم احتفاظها بنذورها ـ لتترجم منظومة قيمها فى منظمات اغاثة، وفى دوائر التعليم والصحة والعمل الإجتماعى، فى عطاء لا يؤَسَس على هوية المقدم له أو دينه ولونه وعرقه أو موقعه الجغرافى أو حتى خياراته السياسية، بكفاءة وعمق انسانى، ولو توقفنا عند الدول الغربية التى أقرت العلمانية منهجاً وقواعد حاكمة لحراك المجتمع، نجدها علمانية لم تذهب بعيداً عن منظومة قيم المسيحية، ومنها خرجت كل منظمات حقوق الحياة السوية للإنسان والحيوان والطبيعة، لكنها بذات الوقت علمانية لم تسمح للمؤسسة الدينية المسيحية أن توجهها أو حتى تقترب من مساراتها، وبهذا تجاوزت حتى المواطنة، التى ترتب حقوق وواجبات المواطن تجاه وطنه، لتوسع الدائرة لتشمل كل من يقيم بهذه البلدان، الإنسان.

فالإغتراب هنا ليس منتجاً مسيحياً، إنما هو خيار وجودى للتعامل مع منهج المغالبة، أو حيلة حمائية تقي من بطش العوام، والأنظمة الرخوة، والدول التى تعيش ازدواجية فادحة، تقر دساتير منضبطة وتشكل مؤسسات قضائية وتشريعية تضاهى ما لدى العالم الأول، فيما تأتى ممارساتها منفصلة تماماً، فيزاح القانون ويحل العرف محله، وتختلط وتتداخل السلطات التى منحها الدستور استقلاليتها، لتجد هذه المجتمعات نفسها قد اعادت انتاج منهج "الكل فى واحد" ليس من باب التكامل وانما من باب الإختزال والتغول الذى ينتهى إلى الأحادية.

تشهد المنطقة تزايد صعود تيار ـ وفكر ـ الإسلام السياسى، وترجمة هذا الصعود فى السلوك العام، وانعكاساته فى الفضاء المجتمعى والسياسى، وتتجمع الخيوط التى تحوّل الصعود إلى حالة عصبية وعصيبة، فكل مشاريع الخروج من النفق الممتد تتفكك الواحدة تلو الأخرى، وتتصاعد وتيرة النظم الاستبدادية، ما بين عشائرية وملكية وجمهورية بنكهة ملكية، وتتبخر كل احلام شعوبها التى لم تجد أمامها إلا طوفان من الشعارات المحلقة فى فضاءات الوهم فى مقابل واقع يئن من الانكسار والتراجع، وبدلاً من رد الأمور إلى اسبابها الحقيقية والشروع فى تفكيكها وعلاجها، إذا بالكل يتفق على أن ما يحيق بالمنطقة مؤامرة تستهدف الإسلام وتسعى لتقويضه، وتتعلق الأفئدة والعقول بالحلم الأثير، إعادة احياء الخلافة.

نعود لنلامس الأرض ونتجول فى ارجاء يومنا المعيش، عندما ندخل مصلحة حكومية، مثالنا مجمع التحرير، قبل تفكيكه ونقل اداراته، ستجد فى كل دور جزء مقتطع لاداء الصلاة، وعندما تدلف إلى مكاتبه ستجد خلف مدير المصلحة اية قرآنية كبيرة، بينما مكاتب الموظفين تتوزع الآيات ما بين ابواب الدواليب وتحت زجاج المكاتب، فيما تجد نسخ القرآن الكريم تتصدر مكاتب المديرين ورؤساء الأقسام وكثير من الموظفين، وقبل أن تعلو وجهك الدهشة، أقول أن كل مظاهر التدين هذه مباركة ومقدسة، لكن ربما نحتاج للسؤال عن ماهية الموظف العام، وحدود حقه فى الإعلان عن هويته الدينية، وارتباط ذلك بادائه لمهام وظيفته، وأثر ذلك على المواطن المتعامل معه، اللافت أن هذا المشهد ممتد إلى مكاتب رجال العدالة والأمن، فى المحاكم وأروقة النيابات والأقسام.

هل يمكن أن نمد الخيط على استقامته، فنجد المدير المسيحى قد علق خلفه آيات من الإنجيل، وضع اياته خلف زجاج مكتبه، أو وضع صليباً فوق المكتب بجوار كتابه المقدس؟. مجرد تخيل ماذا سيكون رد الفعل سواء من رؤساء العمل أو جمهور المتعاملين معه؟.

ماذا لو قام أحد الموظفين المسيحيين بالنداء على زملائه المسيحيين يدعوهم للصلاة فى الطرقات التى تتخلل المكاتب، فى مواقيت الصلاة كما حددتها الكنيسة؟.

وبالضرورة أنا لا أدعو إلى هذا فمكان العمل للعمل وأماكن العبادة الرسمية للعبادة!!،

لعلك بعد أن تذهب الدهشة وربما الاستنكار من مجرد الاقتراب من هذه الأمور المستقرة، وهما إندهاش واستنكار طبيعيين، لعلك تجد فيها بعض من مسوغات تبرير الإغتراب.

الدين فى مناخاتنا صار مكوناً وجودياً تضافرت عوامل عديدة لتجعله منطقة محصنة دونها الموت، حتى صار المصفاة الدقيقة التى تعبر منها رؤيتنا للآخر، والتى يترتب عليها تعاملاتنا معه، ومع صعود التيارات الراديكالية صارت معتقدات الأقباط فى مرمى نيران آليات تشكيل الذهنية العامة، ولم يعد مستغرباً أو حتى لافتاً أن تحتشد الأرصفة برهط من الكتب التى تتناول هذه المعتقدات بالنقد والتجريح والتفنيد، ولم تكن ميكروفونات الزوايا بعيدة عن هذا النهج، بل واتسعت القنوات الفضائية، العامة والخاصة، لكثير من اصحاب هذه الكتب، وصارت شرائطهم المسجلة فى كل يد، تصدح مغردة فى وسائل النقل العامة والخاصة، تطربك فى اشارات المرور وفى الأسواق، حتى صارت منظومة متكاملة.

فالقبطى فيها "كافر" ومحاصر بتحذيرات جادة وفاعلة بعدم التعامل معه، ولم يعد الأمر قاصراً على البالغين بل ذهب ليستقر فى رياض الأطفال، والحضانات التى تسبق سنى التعليم النظامى، فلا نسأل عن الأجيال القادمة، وقد وقر فى ذهنهم صورة واضحة مستبعدة للآخر، رافضة ومحقرة ومتجنبة له.

هل ستعاودك الدهشة والاستنكار مجدداً، لو قلت لك ماذا لو دارت المطابع بكتب مثيلة، تجد طريقها للأرصفة، تتناول تفنيد ونقد دين الأغلبية، بنفس النهج الذى تتبناه وتترجمه الى صفحات وكتب جماعات الدعاة "الجدد" وبعض من القدامى ايضاً؟!.

وماذا لو تبنت فضائية مصرية تبث من مدينة الإنتاج الإعلامى استدعاء شخوص يتخصصون فى نقد ونقض الإسلام؟، وقس على هذا بقية اليات الإعلام والإعلان؟.

قد يرد البعض بأن ثمة منابر مسيحية تقوم بهذا، لكن هذا البعض لا يشير إلى أمرين أولهما أنها منابر لا تخضع لسيطرة الأقباط فهى تبث من أقمار خارجية، وبادرت كل المؤسسات القبطية بالتبرؤ منها، ورفض منهجها، ويتكرر الأمر مع بقية الآليات، وثانيهما أن هذه المنابر على قلتها كانت منتجاً متوقعاً لقواعد ميكانزم الفعل ورد الفعل.

فى هذه الحالات لم يكن أمام عموم الأقباط إلا الصدام الذى يذهب بنا إلى حرب أهلية، وهو خيار لم يطرح بالأساس، أو الإنكفاء والتقوقع، ومن ثم الإغتراب، ليصير لهم مجتمعاتهم الخاصة، داخل كنائسهم، حتى يحسبهم من يقترب من المشهد "جالية فى وطنهم".

اللافت أن باحات المحاكم وأروقة النيابات، والأجهزة الأمنية، تستدعي من يَرُد على موجات التعريض بالمسيحية حتى لو كان الرد فى جلسة نادى، أو ندوة، أو مقال استطاع أن يجد طريقه للنشر، أو فقرة استثنائية فى برنامج فى قناة تفتقر للمشاهدة، أو اعتراض على حادث اجرامى حاق بنفر من الأقباط فى قرية لم تتعرف عليها الخرائط، وتضعهم رهن التحقيق وتحاكمهم بتهم إزدراء الأديان وتعريض السلم الإجتماعى للخطر. وقائمة ممتدة من الاتهامات ذات الصلة.

فيما ترى فى موجات استهداف المسيحية ومعتقداتها أمر يدخل فى زمام التعليم الدينى وتنويعة مشروعة على علم مقارنة الأديان.
ثم يسألونك لماذ يتعمق توجه الإغتراب؟!.

ـ هل يمكن رد الأمر إلى ثقل الموروث الفكرى والإجتماعى؟ ربما..

ـ هل يمكن فهم الحال بتتبع المد الراديكالى المتطرف عبر عقود ممتدة يتلبسها مخاوف انتجتها الحداثة؟ ربما.

ـ هل يمكن أن نحسبه فى طيف منه أحد ظواهر الصراع بين الدولة العميقة وتيارات اجيال تشكل وجدانها وذهنيتها بفعل معطيات الثورة الرقمية ومساحات التواصل المتسعة؟ ربما.
:::::::::::::::::::::::::::
ما بين الإنكفاء والهجرة والإغتراب يقفز السؤال :
هل من مخارج؟ بالتأكيد نعم.
وهو ما سنطرح رؤيتنا فيه ونحن نستكمل اقترابنا هذا من الحالة المصرية.