تأليف – روماني صبري 

عصفت واقعة مخيفة بقريتنا الهادئة منذ أيام، على إثرها نزل الخوف بالجميع ولم يبارحنا حتى الآن، فضلا عن حملة الإدانات والاتهامات الواسعة التي جاءت بها لحاكم القرية، واتهام رجال الدين بالتقصير في صلواتهم للرب، وما زاد من وطأة النكبة مواصلة الاحتجاجات المطالبة الحاكم بكشف خفايا الواقعة والتي أسفرت عن مقتل محتج ورجل أمن خلال المواجهات، وفي ضوء ذلك رحل العم يوسف أقدم جامع قمامة هنا .. وما دخل الواقعة بموته ! ربما احمل الأمر الكثير جراء ميولنا للدراما...
 
من الأفضل أن أقول وبكل صدق انه ما كان يجب أن يولد حلاق  قريتنا ولكن فلتكن إرادة الله، فمنذ فر الوغد مذعورا من دكانه الدميم صارخا يقول للمارة والأهالي بعدما اعترضهم صراخه ورعبه :" قطتي اللعينة أوقعتني في فخ وصفعت "قفاي".. يا الهي ها هو الظمأ سكن قلبي وحلت بحياتي اللعنة" أخذ يهذي وواصل قائلا :" كيف سأعاشر زوجتي بعد الآن ! .. الله وحده يعلم صدق ما أقول .. نعم كانت تراقبني قطتي وأنا أحلق ذقن المراهق الصغير نجل العم فريد ناصحا إياه أن حلاقة ذقنه كثيرا لن تزيد من كثافتها .. لم أكن في حالة إنكار للذات وفجأة اختصتني بقولها :" كنت فين يا ولد أمك بتدور عليك ؟ .. فوقعت الشفرة من يدي لتنفذ خطتها على أكمل وجه. 
 
وبمجرد أن خرجت القطة من الدكان، مستلة شفرة الحلاقة تغني غير مبالية " كنت فين يا ولد أمك بتدور عليك"، حتى تبدلت وجوهنا جميعا نحن شهود العيان ، وكيف يفر هذا المشهد من الذاكرة !.. أصبحنا حائرين في البحث عن إجابات ، فقط تطفح علينا الدهشة ولا تغادرنا ، من المستحسن أن استكمل الواقعة، أفاق المراهق الصغير من إغماءة وخرج  يترنح كأنه جرع خمسين كأسا من النبيذ، راح يقول مرتعشا ": القطة تحدثت وصفعت الحلاق على قفاه وصلعته، ليغشى عليه مجددا قبل أن يستأنف حديثه.. أما نحن فشرعنا بالفرار من المكان، ليس ثمة أي حرج أو إهانة في ذلك، وماذا سيجني المرء الشجاع من مواجهة قطة تتحدث بوجهه الشاحب؟! .. القطة أين ذهبت ؟ .. هل كانت تنتظر كل ذلك ؟ إذا عثرت عليها سأمضى على الفور ، هذه الشقية التي لا يعلم عنها احد شيئا إلا الله ، وخلص رجال الدين أن روحا شريرة مست القطة، وهو ما هز صورة مدينتنا وادخلها في نفق مظلم، بات الجميع في قارب الخوف والوحشة فلم يعد احد يدين احد... بالأمس حل الفتى المراهق ضيفا على برنامج الإعلامي "محروس شكل"، وتحدث باستفاضة حول الواقعة، فقال :" ما رأيته سبب لي إغماءة مرتين .. لابد إنني مخطئ في تقدير الأمر ، آه يا لخسارتي كنت أرتدي خاتم جميل ظفرت به القطة ، كان جاءني هدية من زوجتي السابقة في عيد الحب.. أصبحت شاحبة اليوم رأيتها منذ أيام في السوق ناولتني خيارة وثمرة فاكهة ، فاستفسرت منها بقولي :" قد منحتك عقد طلاق .. لماذا تكنين كل هذا الاحترام لي ؟! .. فأجابت بقولها :" أنها أمي السبب ورثت عنها كل شيء .. على أي حال سأتزوج بعد أيام لرجل يكبرني بواحد وعشرون عاما." 
 
واستأنف يقول :" عليكم أن تدركون أن سحب كارثة متحركة ضربت المدينة، لم أتجاوز العشرين وأدركت كل ذلك، القطة ليست لعينة كما تروجون عبر الشاشات، وفقا لما أفادت به وسائل الإعلام أعدمت مديتنا عقب الحادثة 1500 قطة ! أنها فضيحة ! ..علمت نفسي بنفسي، لم التحق بالمدرسة وفقا لرغبة والدي، رأى دائما أن الابن الأكبر عليه أن يكافح حتى يدفع بتجاره أبيه إلى واجهة المشهد التجاري، كان عليه أن يدرك انه من الآثم اعتقاد ذلك.. عندما نزلت من على حماري منذ شهر أوقفت شابا إفريقيا، قلت له أنصت لي جيدا يا حقير .. كان يمتطي حمارا صغيرا، نزل من عليه، فقدته إلى الجانب الأخر الأكثر وحشة وهو الطريق الزراعي الذي لطالما شهد العديد من الندوات حول تنمية قدرات ذوي الاحتياجات الخاصة، فر مني واختبأ خلف الأشجار ، ثم عاود وامتطى حماره .. فطاردته بحماري مسافة طويلة على سبيل اللهو والمتعة، ظللت أطارده حتى لا يختفي عن مدي بصري، كان يتمتم :" أنا غريب اهكذا تكرمون الغرباء يا أوغاد العصر .. الويل لكم فلتحل عليكم اشد اللعنات." فقاطعه "شكل" :" ماذا تريد أن تقول ؟ 
 
 :"روح هذا الأجنبي تجلت في القطة .. الفتى الشجاع أراد الانتقام .. صفعته وقتها على قفاه عندما سقط من فوق حماره جراء تعثره بكومة قش .. دائما ما تنمرت على الغرباء ثمة متعة في ذلك ، أيرضيك هذا الاعتراف أيها الإعلامي المحنك ؟! 
 
 / هذا آثم وتجديف .. لو صح ذلك لكان وجب على القطة أو روح الأجنبي كما تعتقد أن تصفعك أنت وليس الحلاق !
 
:" لا اعلم حتى الآن كيف يفكر رجال الإعلام ! .. لا تقاطعني دعني أكمل حديثي أتوسل إليك ، وليبارك الله والدتك ويمنحها طول العمر .
 
 /  حسنا تفضل يا عزيزي .
 
:"زادت وتيرة الرعب وقتها عقب فرار الحلاق .. إذ رأيت القطة تختلي بي وراحت تصفعني على قفاي وخلسة تحول لونها إلى الأسود، تحسست يدي واختصتني : أهذا جسد رجل .. أيعقل هذا أنوثة شديدة تطغى عليه .. لا تتحرش بالفتيات بعد الآن .. وليرزقك الله بفحل - على سبيل الاهانة والتحقير - تجمدت على كرسي الحلاقة اللعين، لم استطع مغادرته، اخضع للعلاج النفسي الآن آثمة أفزع من ذلك.. لقد سقطت حينها أنا الشاب القوي مغشيا علي ما زاد من وطأة ألمي النفسي.. معضلة خانقة لا تعطي أي مؤشر للأمل، أتوسل إليكم لا تزيدوا من خلط الأوراق بالقرية ، حتى تسير القضية بوتيرة محتشمة، ولا تغدو في صدارة القضايا الغامضة، أقدر دوركم في التأثير على الرأي العام .. فقط تحلوا بأقصى درجات ضبط النفس، ما حدث كنز عظيم لكم لكنك لا تستطيع أن تخفي قلقك لاسيما في ظل حديث عن أن الكلاب ربما تتحدث هي الأخرى.
 
 / أتعاطف معك يا عزيزي وجميعنا بنفس القارب .. ولكن ما علاقة الحلاق بالأمر ؟
 
:" اعترضنا طريق الأجنبي مرارا ... ربما مر أسبوعان على إلقاءه بالمناديل القذرة .. نعم أنا والحلاق فعلنا .. دائما ما قلبت الحادثة المواجع وأعادت للأذهان حقيقتنا .. للحد من الآثار السلبية المترتبة على الحادثة أطالبكم بإعدامي، لن تشهد حياتي أي علاقات وطيدة في المستقبل .. الأجنبي وليس غيره، لكن كيف فعل ذلك هل عقد صفقة مع الشيطان، أم أن الرب قد استجاب لصلاته ؟! .
 
نحن في فصل الشتاء الآن، وحمار قريتنا العجوز دخل في بيات شتوي، لطالما بخل هذا الحيوان الناطق في إرسال الرسائل ألينا، هو لا يعلم لماذا خلقه الله يتحدث ويكتب عكس باقي حمير القرية، نحن نحبه ونكن له كل الاحترام، منذ ولدت ورأيته وأمنت بوجوده، يقولون أن صاحبه يوم ولادته فقد حياته جراء نوبة قلبية حادة إصابته بعدما حدثه الحمار قائلا :" هل صحتك على ما يرام ؟"، ولكن مع مرور الأيام بات كل شيء طبيعي، عيبه فقط انه أدمن الشيشة وشرب الشاي وارتياد القهاوي لاسيما بعد العاشرة مساء ..
 
هذا الوغد رفض التعليق على حادثة القطة وراح يضحك على الحلاق واختصه :" استمتع بعالمك يا حقير .. هل كنت رجل صموت من قبل ولم ندري !؟ .. قد شاركت في إبادة القطط الضالة منذ 5 سنوات  وها أنت تشارك في الإبادة الثانية .. أهدافك ليست سخيفة كونك تأكل اللحم ! ، وكونك مارست العادة السرية جراء غياب زوجتك الشهر الماضي لا يعطيك ذلك الحق حتى تحتقر نفسك وتقول جميعنا مجرمين طالما نتناول نفس الطعام .. وكيف استضفتني في منزلك ورغبتك لم تبارحك .. الحمار يشتم جيدا لاسيما لو كان  ناطق يا مخبول ." 
 
جعل الحمار الشقي الحلاق أضحوكة أمام الجميع، حتى تركه وشرع في دس السم للقطط قائلا دون أن يلتفت إليه :" حمار حقير وجوده فجيعة"، .. اليوم نظم الحلاق مائدة غداء للفقراء في العلن ، وكما تعود أن يأخذ العطايا في العلن عندما كان فقيرا هكذا سلمها للفقراء.. وجهوا إليه اشد عبارات الشكر فاختصهم وهو يبكي صادقا :" أنها مهنة الحلاقة ليباركها الله ..كنت فقيرا ذات يوما، أتوسل إليكم أن تطلبوا من الله ليزيل عني الآلام الحادثة"،  قال احد الفقراء في نفسه:" ما زال هناك وقت لفعل الخير ولكن كم كان من الأفضل أن يتم ذلك داخل منزله ..  واستطرد في نفسه مبتسما :" منحني معطفا جميلا جديدا على أي حال." 
 
هنا لا يستطعن النساء نشر ملابسهن دون أن يستبد بهن الخجل جراء نظرات الرجال، أن كنت كاتبا لكتبت الكثير حول الواقعة، فالموت لا يقدر تلك الأيام  وأهميتها، كان هناك طفلا صغيرا يستمع بعناية للحلاق فرحا بمعطفه الشتوي الجديد ، فمر عليه  الأخير ووقف بجواره مبتسما قائلا :"يجب أن يظل البعض أطفالا حتى يقولوا الحقيقة ويكشفون حقيقتنا .. لكن هذا لا يحدث "، ثم ترك الطفل واخذ يسير صوب الوادي بصحبة جمع غفير لإعدام آخر ما تبقى من القطط، وتمتم :" أود العودة إلى الجامعة لاستكمل تعليمي كم كنت غبيا..  في لحظات نرى الحقيقة كاملة دون نقص وكأنها أشياء تبحث عن أشياء ، وأشياء تغتال أشياء ، كغناء يخشي من الغناء ، وكبحر يخشي من العطش ، كأوقات تحترم أوقاتها انه ما يؤرقنا  !." 
"تمت"