القس عيد الشارونى
بلا شك اننا جميعا صدمنا ومازلنا فى حزن عميق للرحيل المفاجى للدكتور مكرم نجيب, راعى الكنيسه الانجيليه بمصر الجديده واستاذ علم الوعظ بكليه اللاهوت, اذ كان وجوده,حتى ون ان لم نتواصل معه, مبعثا للطمانينه والسكينه وان الكنيسه المصريه مازالت بخير طالما ان هناك فارس ومحارب مثله. واذ ارى هذا الكم من الحزن لغيابه, جلست اتامل لماذا مكرم نجيب؟ ما الذى فعله ومازال يفعله فينا؟ واود ان اقترب منه واقدم,عزيزى القارى, لمحه عن الانقلاب الذى احدثه فى حياتنا  و ربما تكون هذه القراءه الاوليه بدايه لدراسات متعمقه لمشروع مكرم نجيب اللاهوتى.   
النموذج المفقود
 
نعم انه قدم لنا نموذج نفتقده فى الصدق مع النفس والايمان بالرساله.  لقد جسد لنا مكرم نجيب بل وعاش ما نعجز , فى مرات كثيره, ان نعيشه نحن. راينا فيه المعلم الذى يعيش بصدق مايعلم به, لم يكن طالب سلطه, رغم اغرائها, فى الوقت الذى نتوق بل ونحارب لكى نحصل عليها. لم يسعى للشهره , رغم لمعانها وبريقها, بل انها كانت تطارده بحكم موقعه فى مصر الجديده وكاستاذ علم الواعظ.  بكليه الاهوت الانجيليه بالقاهره. لم يتفاخر بما انجزه بل وضع كل ذالك فى تواضع جم لخدمه السيد. لم يهرول خلف السفر للخارج بل كرس كل وقته لعلمه وكنيسته . تميز بشفافيه فى تعاملاته و ايمان متسم بالسكينه واليقين فى اعماله الابداعيه, لم يخدعه قوه المال وسطوته على الانسان بل وضع المال تحت قدميه فاصبح هو سيد المال. عاش حياه وديعه مسالمه وكرس حياته بالكامل لانجيل المسيح. امام هذا النموذج الذى فقدناه  يحق لنا ان نحزن ونتالم, امام هذا النموذج ينبغى ان نقترب منه اكثر لنتعلم و ننقب عن المشروع الذى اسسه للاستناره الكتابيه ورؤيته التصالحيه مع الذات والمجتمع. 
 
النشاه والتكوين
نشاء مكرم نجيب فى بيئه ريفيه على ضفاف نهر النيل حيث قيم القريه الاصيله والمجتمع المحافظ دينيا, حيث ان الكنيسه تلعب دورا اساسيا فى التكوين الفكرى والروحى للفرد مما يوثر بالطبع على تشكيل اتجاهات واختيارات الانسان فى حياته. من هنا امن مكرم نجيب بالدور الذى تقوم به الكنيسه فى بناء الانسان او هدمه فاختار ان يكون رجل دين وان يكون التجديد طريقه لاعاده تشكيل العقل المسيحى بناء على فهم واعى للنص المقدس. ادرك ايضا الدور الخطير الذى يلعبه المنبر فى تشكيل وعى الانسان فاختار ان يتجه للوعظ ليكون اداه لتغير الجمهور المباشر والكتابه ليصل لقراء العربيه فى كل مكان. 
 
الخبره الوجوديه
من الواضح ان مكرم نجيب, دارس اللاهوت والفلسفه, اجتاز تجربه وجوديه عميقه. حيث كانت الفلسفه العقلانيه تنادى يجعل العلم وحده العمود الاساسى لتقييم اى خبره ميتافيزيقيه ومن ثم نفى تفسير الوجود من خلال عله خارجيه –الله- ومن هنا جائت فكره موت الاله ولكن مكرم نجيب ,كغيره من موسسى الوجوديه المؤمنه, دعى للتصالح بين العلم والايمان, راى ان العلم لايستطيع الاجابه على الاسئله الوجوديه الكبرى مثل من اين اتى الانسان ومصيره بعد الموت فالعلم يقف عاجزا عن تقديم اجابات للانسان القلق ومن ثم لا يستطيع ان يخلص الانسان وان , فنادى باالتصالح بين العلم والايمان من خلاب تنبيره على انهم غير متضادين بل مكملان لبعضهما وان لكل واحد منهما مجاله ومنهجه فلا يستطيع العلم ان يجيب على الاسئله الوجويه ولا يستطيع الايمان ان يجعل الانسان يطير فى السماء او يغوص فى اعماق البحار. فالله هو الخالق والمصدر.  فالمتابع لمضمون خطابه يجد تنبيرا على يقين الايمان بالله, الذى يقدم اجابات للقضايا الوجوديه الكبرى, وان هذا الاله اعلن عن نفسه اعلانا كاملا فى شخص المسيخ . وان هذا الايمان يبعث فى النفس المظلمه انوار الرجاء و يعطى الانسان الحائر المعنى والقيمه فى الحياه. حيث يرى ان الفشل هو الابتعاد عن الله, لذالك الذات الحائره القلقه وجدت ضالتها ورجائها فى المطلق المتسامى بعيد اعن العالم المادى الذى لايقود الا الى الفراغ والعدميه. كما راى  ان المسيح بتعاليمه وعمله هو الاعلان الكامل عن طبيعه الله المحب, المتابع لكتاباته وعظاته يجد ان المسيح , بحياته وتعاليمه, هو المحور الذى ارتكزت عليه افكار وحياه مكرم نجيب. فالمسيح بالنسيه له هو المحرر ليس فقط من قيود الخطيه ولكنه انه ايضا المحرر من قيود العالم المادى التى يصعب فعلا التحرر منها ومن هنا كان المسيح هو الاساس الذى بنى عليه مكرم نجيب حياته.  ومن هذا المفهوم استطاع فى حياته الشخصيه ان يتحرر من قيود الماده يصل الة ما يطلق عليه بانطلاق الروح. وهى المرحله التى يتسامى فيها الانسان عن مغريات العالم المادى كالمال والمنصب والقوه  مما يسعى اليه اعلب البشر. فلم يكن مكرم نجيب طالب سلطه او سيطر عليه المال بل ان روحه التى ارتبطت بالمسيح ارتباط كامل جعلته يتسامى عن كل هذه الاشياء الماديه . وهكذا نرة ان الخبره الوجوديه لمكرم نجيب تجمع بين النظريه والتطبيق حيث انه لم يعلم فقط , بل عاش ماعلم به اولآ.  
 
المشروع والادوات
انتقل مكرم نجيب من الخاص للعام, من الذات للاخر, كما هى عاده المفكرين واصحاب الرؤى, فقدم مشروعا لاهوتيا وفكريا فريدا. ادرك ان سلوكيات الناس واختياراتهم فى الحياه نتاج ما ترسخ فى عقلهم ووجدانهم فاختار الطريق الصعب وهو ان يغير ويتحدى افكار الناس, تماما كما فعل المسيح, وعمل على تغيرها من خلال الكتاب المقدس والاقتداء بالمسيح. 
 
وقبل ان اتناول مشروعه التنويرى اريد ان القى الضوء على واقع الخطاب الانجيلى الذى عل على تغييره. 
 
كان الخطاب الانجيلى فى بدايات مكرم نجيب يرتكز بشكل اكبر على البلاغه اللغويه اكثر من التنبير على معنى النص نفسه, حيث كان البعض يوظف النص ليقدم خطابا بلاغيا يطرب السامعين اكثر من تحدى افكارهم. كما ان مضمون الخطاب الدينى لم يكن متلاحما مع صراع الانسان فى الحياه ومبتعدا عن قضاياه اليوميه. كان خطابا يرسخ الاذدواجيه حيث رسخ الفكره السلبيه للمسيحى عن العالم الذى يعيش فيه فبدون وعى وجد المسيحى انه منفصل عن المجتمع الذى يعيش فيه وابتعد المسيحى عن الروافد الحضاريه مثل الفن بل كان هناك ادانه للفن من منطلق انه لايليق بالمومن ان يتاثر بالفن بمختلف اشكاله. 
 
فى وقت متاخر ظهر طوفان الخطاب الكاريزماتى الغيبيى حيث ان المحور الاساسى لهذا الخطاب هو التدخل الالهى المباشر فى حياه البشر وهم خطاب براقا من حيث الشكل ولكنه خطاب تخديرى ولكنه يقدم  امل كاذب لمتلقيه.    
 
كما راى مكرم نجيب  ان الفهم الطفولى والسطحى لنصوص الكتاب الفدس, دون الرجوع للخلفيه الحضاريه والقرينه, تقود الى نتائج عكسيه  لان ذالك يؤدى الى قناعات متضاده للنص نفسه وبالتالى تؤثر على سلوك الفرد نفسه ونظرته للحياه فهناك بسبب فهمهم المنقوص للكتاب نظروا للمجتمع نظره سلبيه فحدث لهم اغتراب نفسى ونظروا للمجتمع نظره ادانه وليس نظره بناء وتمتع بالوجود الفردى فى ظل الجماعه,  ومنهم من وجد فى الكتاب رساله اجتماعيه  اصلاحيه فقط فاهتموا بالعمل الاجتماعى على حساب المكون الروحى وهذا ادى ايضا الى اغتراب وهجر الجمهور هذه الكانئس لانها لم تلبى الاحتياجات الروحي لهم.
 
فى هذا السياق ولد مشروع مكرم نجيب التنويرى حيث اعاد قراءه الكتاب المقدس بناء على الخلفيه الحضاريه والتاريخيه للنصوص المقدسه, دخل الى عمق التاريخ وعاش روحيا مع شخوص وكتاب الكتاب المقدس ليقدم لنا تاويلا عميقا للنص ملتحما بقضايا الانسان المعاصر ومعاناته. لم تكن نظرته للنصوص المقدسه استاتيكيه مغلقه بل ديناميكيه تشع بالنور والحيويه. جعل دراسه الكتاب المقدس علم وليس كتابا للدروايش. فقدم لنا علم الوعظ التفسيرى الذى يغوص فى اعماق النص ويجعله يخاطب الانسان المعاصر ويسدد الاحتياج الايمانى للانسان القلق. فمن خلال هذه المدرسه التفسيريه يلتحم النص القديم مع قضايا الانسان المعاصر. الكتاب المقدس , بالنسبه له, اده لبناء انسان روحى متزن يساهم فى بناء مجتمعه حيث قدم المسحى فى صوره سائح فى الارض لاغريب, ناقم وناقد او منسلخ عن محيطه كما تقدمه الحركات الكاريزماتيه او منتظر المهدى المنتظر -عوده المسيح الثانى-  كما تقدمه الحركات الاصوليه التى تنتظر نهايه العالم. 
 
كانت ادوات مكرم نجيب لتحيق مشروعه متعدده وكان عمادها الاول هو حياته الشخصيه حيث ادرك انه لا نجاح لمشروعه قبل ان يعيشه هو فى حياته الشخصيه فالجماهير لن تقتنع بفكر جديد دون ان تراه نموذجا حيا امامهم لذالك فانجيل المسيح كان الدافع المغير له لكى يتحرر من الاغراءات الزمانيه, ولم تثنيه ضغوط الحياه عن قيمه الايمانيه. لجا الى المنبر , حيث راه اداه مباشره للتغيير, فاعتلى منبر الكنيسه الانجيليه بمصر الجديده ليشكل جيلا يتسم بالاتزان فى حياته الروحيه والزمانيه. وقدم  خطابه وعظاته باسلوب ولغه راقيه ورصينه ليست معقده يصعب على المستمع ادراك معانيها وليست شعبيه ايضا . كما قدمها بصوت دافى عذب يصل للعقل والقلب.
 
انطلق مكرم نجيب , لتحقيق مشروعه, الى دائره اوسع فاتجه لكليه اللاهوت ليقوم بتدريس على الوعظ لطلابها ولينقل لهم رويته النهضويه فى علم التفسير وليستطيع من خلاله ان يحدث دفعه تنويريه للمجتمع. 
 
اتجه ايضا الى الكتابه حيث قدم للمكتبه العربيه المسيحيه بل والعامه انتاجا نوعيا يتسم بالعمق والمباشره. ومنا يقل هو فى احد حوارته انه كتب فى ثلاثه اتجاهات , كتب تفسيريه لبعض لنصوث الكتاب المقدس , كتب لاهوتيه حيث تصدى لمشكلات لاهوتيه كبرى ولهلنا نذكر تصديه لطوفان الحركه الكاريزماتيه من خلال اسهاماته, واخيرا كتب  تربط بين الكنيسه والمجتمع.
 
المكان والرساله
كانت مصر له المكان والامان, مثلما كان نجيب محفوظ,  حيث ارتبط بها نفسيا ووجوديا حيث ان عدد المرات التى سافر فيها للخارج قليله. امن بالكنيسه المصريه فكرس لها حياته وامن برسالتها فى تطوير وتنهيض المجتع, فتح ابواب الكنيسه للمجتمع وتحدث من على منبرها كبار مثقفى مصر وتم مناقشه القضايا الوطنيه كالتطرف وغيرها بل ومناقشه قضايا اقليميه كالصراع العربى الاسرائيلى وموقف الكنيسه منه فصارت كنيسته مناره روحيه وتعليميه فى الشرق الاوسط.
 
 هل انتهت الروايه؟
ها انتهت الروايه بعدما فارقت الروح الجسد؟ هل انتهى المشروع؟ فى الحقيقه يبدو الواقع مولم ولا يظهر نور فى اخر النفق حتى الان ولكن المشروع لم ينتهى فما زرعه مكرم نجيب فى تلاميذه لن يزول . ان حياته الفريده سوف تظل تتحدانا وتستنهض عزيمتنا فى اوقات الضعف , ومشروعه الكتابى التنويرى سيظل دافعا ونيرا لنا فى رحله تجديد الكنيسه. سوف يظل يتحدث اليما من خلال كتاباته وعظاته. فالروايه لم تنتهى والمشروع مستمر طالما هناك ابنا وتلاميذ مخلصين.