ماهر عزيز بدروس

    لماذا هذا السؤال؟
    حين تكون المقدمات خطأ تأتى النتائج كلها صادمة.

    في فيديو غريب متداول بواسطة جهة تُدْعَى "الساحة العربية" يبدأ التعليق متجنياً هكذا "الشمس تزيح الفحم"!

    هذه المقدمة الخطأ يُرَتِّب عليها الفيديو المنشور أحكاماً مشوهة عن عالم الطاقة.

    ويهلل الفيديو تحت هذه البداية الصادمة بأن أحد مشروعين مهمين لتشييد محطتين للكهرباء تداران بالتكنولوجيا النظيفة للفحم في مصر قد تم إلغاؤه لتعثر التفاوض حوله، ثم يهلل الفيديو كذلك بأن تلك خطوة أولى لإلغاء المشروع الآخر، ويقدم بعد ذلك معلومات مغلوطة جداً وفاسدة عن مضار الفحم (التي تتسبب لو استخدم هكذا غفلاً من الطبيعة بينما تنعدم تماماً في التكنولوجيا النظيفة) ، ويمعن الفيديو بعد ذلك في الخطأ بضرب الفحم ضربة قاضية نهائية بالطاقة الشمسية، في تصور ساذج بدائى لا يسوغ أبداً، بأن أحد مصادر الطاقة قد جُعل ليطرد مصدراً آخر.. بينما العالم كله يكاد ينهار وهو يلهث بحثاً وراء أي مصدر للطاقة يؤمن مستقبل الأجيال القادمة -مهما كان هذا المصدر- لأن التكنولوجيا المتقدمة الراهنة في عالمنا الحاضر تتكفل باستخدامه على أنظف ما يكون.

    ونبدأ بفحص سؤال مبدئى: هل تطرد الشمس حقاً الفحم عن عرشه الراسخ كأهم مصدر للوقود في عالم الكهرباء المولدة اليوم؟

    هل الشمس فعلاً قادرة أن تفعل ذلك بالفحم لتحل محله كما يزعم البعض، وأن تكفى العالم بديلاً عن الفحم، أو تعطى لدولة مثل مصر الطاقة الكهربية التي يمكن للفحم أن يؤمن بها مستقبل الطاقة فيها طوال القرن الحادى والعشرين؟

    الدور الهائل للفحم فى عالم الطاقة اليوم

    إن مراجعة سريعة للدور الهائل الذى يقوم به الفحم في العالم اليوم توقفنا على حقائق مذهلة:


     بلغت الكهرباء المولدة من الفحم في العالم كله عام 2018 قيمة قدرها 38% من إجمالي الكهرباء الكلية المنتجة.

     تبلغ مشاركة الفحم في الطاقة الأولية على مستوى العالم كله حوالى 30%، والباقى المقدر بحوالي 70% يتشارك فيه النفط، والغاز الطبيعى، والهيدرو، والنووى، والمتجددات.

     يؤدى الفحم دوراً كبيراً في إنتاج الكهرباء لأكثر من 70 دولة في العالم اليوم، وتبلغ مشاركته عام 2018 في مزيج القوى الكهربية بالصين 67%، والهند 75%، واليابان 31%، وألمانيا 37%، والدانمارك 21%، والولايات المتحدة الأمريكية 28%، وجنوب أفريقيا حوالى 90%، وبولندا حوالى 85%.

     بحلول عام 2100 سيختفى تقريباً كل النفط والغاز، وإن بقى منهما شيء لن تزيد نسبته على 6% في مزيج الطاقة الأولية العالمية، بينما سيبقى الفحم مشاركاً بنسبة لا تقل عن 30% كما هو اليوم، مغذياً العالم كله بثلث ما يحتاجه من الطاقة على الأقل.

     ينمو التوليد الكهربى بالفحم في دول كثيرة بالعالم الآن، خاصة في دول آسيا باسيفيك، نظراً لقدرته الهائلة علي مقابلة الطلب المتنامى على الكهرباء، واقتصادياته المواتية المتفوقة، وإمكاناته المتنامية الداعمة لحماية البيئة.

     كلما أغلقت الدول محطات الفحم التي انتهى عمرها الافتراضى تشيد محطات جديدة بالفحم ذات تكنولوجيا فائقة النظافة.. وقد نشر معهد موارد العالم عام 2014 قائمة بها 1160 محطة فحم جديدة لتوليد الكهرباء تحت التشييد في أكثر من 70 دولة في العالم.

     لا يزيد متوسط تكلفة الكيلووات ساعة المولدة بالفحم اليوم على تكلفة الكيلووات ساعة المولدة بالغاز والنفط، رغم ما تشتمل عليه محطات الفحم من أجهزة مكلفة للحماية البيئية، لكن الفارق في التكلفة الرأسمالية يذوب في التكلفة الجارية للوقود أثناء التشغيل، حيث يبقى الفحم رغم كل شيء الأرخص إطلاقاً بين أنواع الوقود الأحفورى الأخرى.

     بواسطة أجهزة الحماية البيئية، وراتفاع الكفاءة في التكنولوجيا الجديدة النظيفة جداً لمحطات الكهرباء بالفحم في العالم الآن، صارت محطات الفحم تنافس في صداقتها للبيئة أنظف التكنولوجيات الأخرى الموجودة حالياً لتوليد الكهرباء.

     تبقى محطات الكهرباء بالفحم دائماً من أفضل المحطات الكهربية إطلاقاً في خدمة أحمال الأساس في أي دولة، على خلاف الطاقات المتجددة - مثلاً - التي لا يمكن التعويل عليها في خدمة أحمال الأساس.

     يمارس الفحم الآن في العالم نهضته الكبرى، ورغم أن الذين يفتقرون إلى المعرفة السليمة عن الفحم ينظرونه كعلامة للتراجع تعود إلى القرن الماضى، فإن العاملين في مجال الطاقة يعرفون امتياز الفحم وأفضاله على الطاقة العالمية، وقليلون هم الذين يدركون أن الفحم يساهم على نحو كبير مدهش في مزيج الطاقة العالمية بإمداد حوالى ثلث الطاقة الأولية للعالم، وما يقرب من خُمسَيْن اثنين من إنتاج الكهرباء، إذ يمتاز الفحم برخص ثمنه مقابل أنواع الوقود الأحفورى الأخرى، ومتاح على نحو كبير وجهوزية عالية، ويتمتع بتوزيع عادل ومتوازن بين دول العالم أجمع، وخال من الضغوط السياسية... كما أن تطبيق التكنولوجيات المتقدمة قد أدخل تحسينات خيالية على كفاءة محطات القوى الكهربية بالفحم، وقلل إلى حدِّ غير مسبوق، وإلى درجة تكاد تكون مذهلة، جميع التأثيرات البيئية المصاحبة لها.

     أي هجوم على الفحم من جهلاء في الدول المتخلفة والنامية يخلى الساحة للدول المتقدمة كى تستأثر لنفسها برصيد الفحم العالمى، وتبقى الدول المتخلفة والنامية محرومة من نصيبها المشروع من الفحم لصالح الدول المتقدمة، فيوقعون ببلادهم ظلماً فادحاً وهم لا يعلمون.

    مشاركة الطاقة الشمسية فى مزيج الطاقة العالمى

    أما الشمس كمصدر للطاقة فلها مزاياها الكبرى.. لكن لها محدداتها أيضاً.. ومراجعة سريعة لموقف الكهرباء المولدة من الشمس كمصدر متجدد للطاقة تدلنا على حقائق مهمة:

     بدأ الاهتمام الجاد بالطاقة الشمسية في العالم بعد نصر أكتوبر العظيم عام 1973، على أثر احتباس إمدادات بترول الشرق الأوسط عن العالم تضامناً مع مصر، ورغم كل الجهود التي كرست للنهوض بها لا تتجاوز مساهمتها الحالية في الطاقة العالمية بعد حوالى 45 عاماً نسبة 2%، وذلك يؤشر للقصور الذاتي الكبير الذى يعتور نموها.

     مع كل الجهود المبذولة والمتنامية تشير التوقعات العالمية كلها إلى بلوغ مشاركة الطاقة الشمسية في الطاقة العالمية عام 2040 نسبة لن تتجاوز 8%.

     بلغت مشاركة الخلايا الشمسية الفوتوفلطية في القدرات المركبة للكهرباء العالمية عام 2016 نسبة 4.6%، بينما بلغت مشاركة المركزات الشمسية نسبة 0.1%، ولم تزد مشاركتها مجتمعة في الكهرباء المولدة العالمية على 1.6%، زادت عام 2017 إلى 1.9%.

     في دولة كالولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر من أكبر الدول في معدلات نمو الطاقة المتجددة في العالم - حيث يبلغ معدل النمو السنوي للمتجددات فيها 7.6% -بلغت نسبة مشاركة الخلايا الشمسية الفوتوفلطية في القدرات الكهربية المركبة عام 2016 حوالى 2.7%، كما بلغت نسبة مشاركة المركزات الشمسية 0.2%، بينما بلغت الكهرباء المولدة من الاثنتين معاً 1.7% في العام ذاته.
    وقد بلغت مشاركة الطاقة الشمسية في الطاقة الأولية كلها عام 2016 حوالى 0.6%.

     لا تختلف مصر كثيراً عن دول العالم، فقد بدأت اهتمامها بالطاقات المتجددة منذ وضعت استراتيجيتها لتنميتها عام 1984، وبلغت نسبة مشاركة الطاقة المتجددة في القدرات المركبة بمصر عام 2018 حوالى 2.09% (تبلغ مشاركة القدرات الشمسية فيها ما لا يزيد على 0.3%)، كما بلغت هذه المشاركة في الطاقة المولدة نسبة 1.45% في نفس العام، بمشاركة للطاقة الشمسية لا تزيد على 0.3%.

    الطاقة الشمسية فى مصر

     حتى لو قُدِّرَ للطاقة الشمسية أن تتزايد على نحو دراماتيكى في مصر، كما تشير إلى ذلك الخطط الطموح لجعل مشاركة الطاقة المتجددة في مزيج التوليد الكهربى بمصر تصل إلى 42% بحلول عام 2035، فإن مشاركتها ستظل محدودة بمحددات رئيسية:

    • فهى طاقة متقطعة وذات عولية منخفضة.
    • تحتاج إلى تخزين.. وهو مرتفع الثمن جداً حتى الآن ولعقود عديدة قادمة.. ولن يكون بمستطاع محطة الضخ والتخزين بالجلالة أن تخزن أكثر من 2400 ميجاوات، وليس بمصر مواقع آخرى ملائمة لإنشاء محطات إضافية للتخزين بتكلفة باهظة.
    • كفاءتها لا تزيد في أفضل الأحوال على 20%، مما يحد من التوليد الكهربى المتاح لكل 1000 ميجاوات مركب بما لا يزيد على 200 ميجاوات مولدة.
    • للوصول إلى مستهدفات عام 2035 تحتاج مصر أن تضيف 2000 ميجاوات خلايا شمسية فوتوفلطية كل سنة منذ الآن وحتى عام 2035، كما تحتاج أن تضيف 600 ميجاوات مركزات شمسية كل عام، مما يتطلب تمويلاً للاثنتين معاً لا يقل عن 3.4 مليار دولار سنوياً؟

    فهل يعقل في وجود هذه المحددات جميعها أن تطرد الشمس الفحم؟

    مصر تحتاج الطاقات جميعاً


    إن القول بأن الشمس تطرد الفحم هو قول خاطئ، ولا يجوز مطلقاً أن يتم تداوله على نحو ما يفعل فيديو ساذج قصد به محاربة دخول الفحم إلى مصر، وحرمانها بالتالى من تأمين مزيج التوليد الكهربى فيها على أسس قويمة.

    ولذا فإن مصر مطالبة الآن بالإبقاء على إجراءاتها الحاضرة للتعاقد على مشروعى محطتى الكهرباء بالفحم في عيون موسى والحمراوين، خاصة وأن الدراسات البيئية التي أجريت حتى الآن للمشروعين معاً أكدت الصلاحية البيئية الكاملة للموقعين المختارين لتشييد محطتى الكهرباء الأوليين بالفحم في مصر، إيذاناً بفتح حافظة الطاقة المصرية للفحم النظيف.

    الحق أنه بأى حال من الأحوال تُسْقِطُ الحقائق الدامغة عن الفحم كل الجهل والقصور والخرافة التي يروجها الذين يقولون بأن الشمس تطرد الفحم، وتؤكد أن الفحم لا يمكن للمتجددات الشمسية أو غير الشمسية أن تمس مكانته المكينة المسيطرة والمهيمنة على الطاقة العالمية لمائتى سنة قادمة على الأقل.

    وإذا عدنا للفيديو الصادم الحافل بالأغلاط والأكاذيب يحق لنا أن نتساءل: لمصلحة من ينتشر مثل هذا الهراء الخطير؟ هل حقاً يخدم مصر؟ أم أنه دسيسة خبيثة تنشر كذبة كبرى لِتُضَيِّق على مصر مستقبلها، وتمهد للوقوع في أزمة طاقة رهيبة بعد عدة سنوات لا يعلم مداها إلا اللـه؟

    فليس من النظر الثاقب في تخطيط الطاقة أبداً أن يأتي قائل ليقول بأن أحد المصادر للطاقة يلغى مصدراً آخر، أو أن البشرية ستطرد هذا المصدر للطاقة مادام لديها ذاك المصدر الآخر.. هذه الرؤيا الصبيانية، والمراهقة الفكرية المتأخرة، لا يمكن مطلقاً أن تكون سبيلاً لتخطيط الطاقة لمستقبل الأمم والشعوب.