إعداد/ماجد كامل
لعل أجمل ما تمثله الديانة المسيحية هي أنها صورت العلاقة بين الله وشعبه علاقات آب بأبناءه وليس عبيدا . والآيات الدالة علي ذلك في الكتاب المقدس كثيرة جدا ؛ففي سفر ايوب آية جميلة تقول "أب انا للفقراء "( ايوب 29 :16 ) .وفي سفر المزامير قيل عن الله أنه "أبو اليتامي وقاضي الأرامل " (مز 68 :5 ) .وجاء أيضا "كما يتراءف الأب علي البنين يتراءف الرب علي خائفيه " ( مز 103 :13 ) .

وفي سفر أشعياء "لأنه يولد لنا ولد ونعطي أبنا وتكون الرئاسة علي كتفه ويدعي أسمه إلها قديرا أبا أبديا رئيس السلام (أش 9 : 6 ) .وجاء ايضا في نفس السفر " فإنك أنت أبونا وإن لم يعرفنا إبراهيم وإن لم يدرنا إسرائيل . أنت يا رب أبونا "( أش 63 : 16 ) .وايضا قال "والآن يا رب أنت أبونا "( أش 64: 8 ) . كما قال أيضا " فيكون أبا لسكان أورشليم " ( أش 22 :21 ) .وفي سفر أرميا " لأني صرت لإسرائيل أبا " ( ار 31 :9 ) . وفي سفر ملاخي يعاتب الرب شعبه فيقول لهم " الابن يكرم أباه ؛ والعبد يكرم سيده .فإن كنت أبا ؛فأين كرامتي ؟ " ( ملا 1 :6 ) . وجاء أيضا " أليس أب واحد لكلنا؟ " ( ملا 2 : 10 ). وفي العهد الجديد علمنا السيد المسيح الصلاة الربانية التي تبدأ بعبارة "آبانا الذي في السموات " وجاء في انجيل متي " ولا تدعوا لكم أبا علي الأرض ؛لأن أباكم واحد الذي في السموات " ( مت 23 : 9 ) .

وفي رسالة معلمنا القديس بولس الرسول إلي أهل أفسس " إله وآب واحد للكل "( أف 4 :6 ) .

أما عن إكرام الآباء فيكفي أن نذكر أول آية في الوصايا العشر "أكرم آباك وأمك" (خر 20 : 12 ) (تث 5 :16 ) و(مت 15 : 4 ) و(مر 7 :10 ) و(اف 6 :2 ).وفي سفر الخروج "من ضرب أباه أو أمه يقتل قتلا " (خروج 21 :15 ) وأيضا "من شتم أباه أو أمه يقتل قتلا " (خروج 21 : 17 ).
وفي سفر اللاويين "تهابون كل إنسان أمه وأباه " ( لا 19 :3 ) .

وفي سفر الأمثال جاء عن إكرام الأب "أسمع يا ابني تأديب أبيك ؛ولا ترفض شريعة أمك " ( أم 1 :8 ) و"يا أبني أحفظ وصايا أبيك ولا تترك شريعة أمك " ( أم 6 :20 ) .”وجاء ايضا "من سب أباه أو أمه ينطفيء سراجه في حدقة الظلام " (أم 20: 20 ) . و"العين المستهزأة بأبيها والمحتقرة لإطاعة أمها تقورها غربان الوادي وتأكلها فراخ النسر " ( أم 30 :7 ) .

ومن الأسفار القانونية الثانية وفي سفر يشوع بن سيراخ نجده يقول " يا بني اسمعوا أقوال أبيكم واعملوا بها لكي تخلصوا ؛فأن الرب قد أكرم الأب في الأولاد ... من أكرم اباه فأنه يكفر خطاياه ويمتنع عنها ويستجاب له في صلاة كل يوم .... من أكرم أباه سر بأولاده وفي يوم صلاته يستجاب له ؛من أحترم أباه طالت أيامه ومن أطاع أباه أراح أمه الذي يتقي الرب يكرم أبويه ويخدم والديه بمنزلة سيدين له ؛أكرم أباك يأفعالك "( يشوع بن سيراخ 3 : فقرات من 2 – 19 ) .

" تذكر أباك وأمك إذا جلست بين العظماء لئلا تنساهما ويسفهك تعود معاشرتهم فتود لو لم تولد منهم وتلعن يوم ولادتك " (يشوع بن سيراخ 23 :18؛19 ) . وقال أيضا "لنمدح الرجال النجباء آبائنا الذين ولدنا منهم ؛فيهم أنشأ الرب مجدا كبيرا وأبدي عظمته منذ الدهر "( يسوع بن سيراخ 44 :1؛2 ).

وإذا ما انتقلنا الي العهد الجديد ؛ نجد وصف معلمنا القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس بقوله " تيموثاوس الابن الصريح في الايمان " (1تي 1 :2 ) . كما قال عن تيطس " الابن الصريح حسب الايمان "(تيطس 1 :4 ) ويقول في الرسالة الي فليمون " اطلب إليك لأجل ابني انسيموس الذي ولدته في قيودي " ( فليمون 10 ) . ويقول لتيموثاوس أيضا " فتقو انت بالنعمة " ( 2 تيموثاوس 2 : 1 ) . كما ينصح تلميذه تيموثاوس أيضا " لا تزجر شيخا بل عظه كأب " (1 تي 5 :1 ) . وما أروع قول معلمنا القديس بولس الرسول في الرسالة الي غلاطية عندما يقول " يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضا الي أن يتصور المسيح فيكم " ( غلاطية : 4 :9 ) . كما يقول في رسالته الي اهل كورنثوس " بل كأولادي الأحباء أنذركم لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح ؛لكن ليس آباء كثيرون ؛لأني انا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل . لذلك أرسلت إليكم تيموثاوس الذي هو ابني الحبيب " (1كو 4 : 14 – 17 ). أما معلمنا القديس يوحنا الرسول ؛ فلقد كتب يقول " يا أولادي ؛ أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا " ( 1 يو 2 : 1 ) . وفي الرسالة الثالثة يقول " ليس لي فرح أعظم من هذا ؛أن أسمع عن أولادي أنهم يسلكون بالحق " ( 3 يوحنا : 4 ) . وفي رسالة معلمنا القديس بطرس الرسول يقول "تسلم عليكم المختارة التي في بابل ؛ومرقس أبني " ( 1 بطرس 5 :13 ).

وإذا ما انتقلنا الي كتابات الآباء ؛نجد كنزا رائعا من الكتابات والتأملات الجميلة ؛ منها قول للقديس إيريناؤس أسقف ليون ( 140 – 202 م تقريبا ) " حين يتعلم إنسان من فم إنسان إنسان آخر ؛ يصير ابنا للذي علمه ؛ ويدعي الأخير أبوه " بينما يقول القديس كليمندس السكندري ( 140- 216 م تقريبا )" الكلمات تولد من النفس لذلك نحن ندعو الذين يعلموننا آباء . والذي يتعلم هو أبن لمن يعلمه في خضوع "

وهناك قول جميل للقديس يوحنا ذهبي الفم ( 354- 407 ) يقول فيه " بما أن الكاهن نائب الله ؛ فيلزمه أن يهتم بسائر البشر لكونه أب العالم كله " . وقال أيضا " لا تتوقف البنوة علي مجرد وجود أب ؛إنما يلزم وجود حب .هذا بالنسبة للبنوة الطبيعية ؛فكم بالأكثر تحتاج البنوة التي بحسب النعمة إلي حب عميق من قبل الأب ؟! لهذا ظهرت بالحقيقة عظمة صموئيل بقوله :وأما أنا فحاشا لي أن أخطيء إلي الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم (1صم 12 :23 ) وهكذا كان دواد وإبراهيم وإيليا وكل الصديقين في العهد القديم والجديد " .وقال أيضا " ألا ترون عاطفة القديس بولس الوالدية ؛ ألا ترون الألم اللائق به كرسول ؟ ألا ترونه كيف ينتحب أكثر من نساء أنجبن أطفالا ؟ يقول :لقد حطمتم صورة الله .لقد فقدتم الأنتساب له واستبدلتم شبهه .إنكم تحتاجون إلي تجديد وإصلاح .ومع هذا فإنني لا أدعو المجهضين والسقط أبنائي " .

كما قال القديس أغسطينوس ( 354- 430 ) ) "لقد أرسل الله أيتها الكنيسة الرسل كآباء ؛وعوض الرسل ولدوا لك أبناء هؤلاء كرسوا أساقفة ...... هؤلاء تدعوهم الكنيسة آباء .فمع أنها ولدتهم أبناء مع ذلك وضعتهم في مرتبة الآباء " . كما قال أيضا " يحمل البشر في رحم أمهاتهم لكي يتشكلوا ؛ولكن ما أن يكتمل تشكيلهم حتي يولدوا خلال الطلق ؛لكن يدهش الإنسان بقول الرسول بولس أتمخض بكم ثانية إلي أن يتصور المسيح فيكم (غلا 4 :19 ) تفهموا هذا التمخض هو الآلام التي تحدث حتي يولدوا في المسيح ؛أنه يتمخض بهم ثانية بسبب سقوطهم في الغواية ؛إذ يراهم قد تشوشوا " .

وقال أيضا القديس جيروم ( 347- 420 م تقريبا ) " يلزم عدم دعوة أحد معلما أو أبا سوي الله الآب وربنا يسوع المسيح .هو وحده الأب لأن منه كل الأشياء ؛وهو وحده المعلم ؛إذ به كل الأشياء خلقت وتصالحت مع الله ؛يوجد من هو بالطبيعة أب كخالق وفاد ؛وآخر خلال العطاء السخي ؛أنني أكرر الحقيقة أن الله الواحد والأبن الوحيد بالطبيعة ؛لم تمنع آخرين أن يحسبوا أبناء الله بالتبني .هكذا أيضا ليس ما يمنع من استخدام تعبير ومعلم بالنسبة للآخرين " .

ومن رسائل القديس العظيم الانبا انطونيوس أب جميع الرهبان (251- 356م تقريبا ) الي ابنائه الرهبان يقول لهم " والآن يا أولادي أنا أطلب من الرب أن يسهل طرقي لآتي إليكم وأراكم أيضا ؛ لأني أعلم أنكم تواقون إلي أن تروني كتوقي إلي رؤيتكم . وأعلموا هذا أن المحبة المتبادلة بين الآباء والبنين ؛لا يعادلها شيء علي وجه الأرض .فأنهم يشتهون أن يروا بعضهم بعضا دائما .فإذا كان هذا شأن المحبة بين الآباء والبنين الجسديين فما عساها أن تكون بين الآباء الروحيين وأبنائهم الذين يحبون بعضهم بعضا لأجل الله ؛وبخوفه يعملون ؛ وإني أشتاق أن أراكم كما قال الرسول ونتعزي جميعا بإيماني وإيمانكم .فإذا أجتمعنا أعلمكم بأشياء أخري لا يمكنني أن أكتبها إليكم في الرسائل ليكون ذلك لكم خلاصا بربنا يسوع المسيح الذي له المجد والتسبيح إلي أبد الآبدين أمين ".

وأيضا من واجيات الابوة الرعاية الروحية .فلقد ورد في الدسقولية " ينبغي علي الراعي أن يهتم بكل أحد ليخلصه ؛ أهتم بكل أحد الذين يشتهون أن يخلصوا ؛الغارقون في النوم علمهم وقوهم وثبتهم ؛وأنت عالم أن لك أجر عظيم إذا فعلت هذا كما أن عليك وزر عظيم إذا توانيت عنهم .فليحب الأسقف العلمانيين كأولاده ؛ويعظهم بأدب المحبة ؛كالطير الذي يحتضن بيضه حتي يصير فراخا ؛ويقبلهم مثل أولاده حتي يطيروا ؛يعلم كل واحد ؛ويعول من يجب أن يعوله ؛ ولا يجور عليهم بالأكثر ؛بل يوبخهم ؛النفس التي ضلت أسأل عنها ؛أي تلك التي لا يرجي خلاصها لكثرة خطاياها لا تدعها تهلك ؛الذي مرض بكثرة غفلته وتوانيه ونسي حياته بنوم ثقيل وضل عن رعيته جدا حتي صار بين الذئاب ؛فأطلبه أنت وعلمه ورده وعرفه أن يستيقظ وبشره بخلاص . ليحمل الأسقف إثم ذاك علي نفسه ؛ويصيره خاصة له " . كما أوصي آباء الكنيسة الأولون بالترفق بالخطاة عملا بقول الكتاب "أسندوا الضعفاء :تأنوا علي الجميع " ( 1 تس 5 :14 ) وفي هذا المعني كتب القديس أمبروسيوس أسقف ميلان (339- 397 ) رسالتين عن التوبة يدعو فيها الكهنة إلي الترفق بالخطاة قال فيها "من ألقي علي عاتقه إصلاح الضعفات البشرية ؛عليه أن يحتملها ولا يلقي بها بعيدا عنه حتي وإن أثقلت كتفيه ؛فالكتاب المقدس يقول عن الراعي أنه يحمل الخروف الضال ولا يلقيه عنه ؛ لأنه كيف يتقدم من تزدري به ؛هذا الي سيجد نفسه موضع تبكيت طبيبه ..... بدلا من أن يكون موضع عطفه ؟!" . ولقد كتب القديس أغسطينوس ( 354- 430 ) عن أهمية تتويب الخاطيء ""أن تبرير خاطيء واحد لا بد له من قوة أعظم من قوة إبداع السماء والأرض "ولقد كتب القديس يوحنا ذهبي الفم (354- 407 ) في سمات واجبات الراعي "يلزم أن يكون حذرا ؛له ألف عين من الأعين حوله ؛ يلزمه أن يكون متيقظا جدا ؛حارا في الروح ؛ كما لو كان يستنشق نار هي نسمات الروح القدس الذي يرشد ؛يلزمه أن يعمل ويثابر في العمل لخلاص الآخرين نهارا وليلا ؛أكثر من قائد في الحرب .يلزمه أن يكون حريصا علي الكل ومهتما بالجميع " .

وللبابا غريغوريوس الكبير ( 540- 604 ) أسقف روما عظة رائعة يذكر فيها ضرورة التمييز في الوعظ بين الفئات المختلفة ؛فما يصلح للغني لا يصلح للفقير ؛وما يصلح للعالم لا يصلح للجاهل ......... فيقول فيها "عندما نقدم الموعظة لابد أن نميز بين الرجل والمرأة ؛الشباب والمسنين ؛ الفقراء والأغنياء ؛ المرؤسين والرؤساء ؛الفرحين والحزاني ذوي الجراءة والخجولين ؛ذوي الوقاحة وذوي القلوب الواهنة ؛الغضوب والحليم .ينبغي أيضا أن نميز بين الراضيين والحاسدين الذين يعيشون حياة البراءة لخوفهم من الآلام والذين تقست قلوبهم بالشر ولذلك يستهينون به ؛ الصامتين والثرثارين ؛ الكسالي والمغامرين ؛والودعاء وسريعي الغضب ؛المتواضعين والمتعالين ؛الشرهين في الطعام والمتعففين عنه . نميز أيضا بين الذين يحزنون علي خطايا الفعل والذين يحزنون علي خطايا الفكر فقط ؛ الذين يرضون عن خطاياهم والذين يعترفون بها إلا أنهم لا يبعتدون عنها ؛الذين تغلبهم شهوة جنسية عابرة والذين يتقيدون بأغلالها بإرادتهم ؛ الذين يرتكبون خطايا صغيرة ولكنها متكررة والذين يقون أنفسهم منها إلا أنهم يغرقون في الخطايا الصغيرة ................ ولكن ما الفائدة من سرد كل هذه المجموعات وتصنيفها إذا لم نشرح الطرق المختلفة والمتنوعة التي نعظ بها كل مجموعة باختصار بقدر الإمكان " ولقد وصف القديس يوحنا ذهبي الفم هذا النوع من الخدام بالإنسان متعدد الجوانب Many –Side Man فقال عنهم "" يجب علي الراعي أن يكون حكيما ومحنكا في أمور شتي ؛ وأن يكون خبيرا بشئون العالم مثل العائشين فيه ؛ وفي نفس الوقت متحررا من العالم أكثر من الرهبان سكان البراري ؛يجب عليه أن يختلط بالمتزوجين الذين لهم أطفال ؛كما يختلط بالأغنياء أصحاب المراكز العامة وذوي النفوذ" . ونفس الفكرة نادي بها القديس باسيليوس الكبير (329- 379 ) إذ قال " لا يقبل في الكهنوت إلا الذين لهم قدرة علي مخالطة الكل والتعامل معهم دون أن تتلوث نقاوتهم أو يهتز عدم محبتهم للأمور الزمنية أو قداستهم أو سموهم "

علي أن هذا التمييز في الوعظ بين الفئات لا يعني بالتبعية التمييز في المحبة ؛ بل علي العكس يجب علي الخادم أن يحب الجميع بنفس القدر المتساوي ؛ وفي هذا المعني يقول يوحنا الدرجي " كما أن عدم التمييز ممدوح عند الأطباء ؛ كذلك مغبوط هو عدم وجود الآلام الخاطئة الناتجة عن التمييز بين الرعية عند الرؤساء ؛ حب كل شخص بقدر معتدل ؛ لئلا تضر نفسك وتلاميذك ؛كما جري ليعقوب عندما أحب يوسف أكثر من أخوته " . ونفس النصيحة يقدمها القديس يوحنا ذهبي الفم إذ قال " بما أن الكاهن نائب الله ؛لذا يلزمه أن يهتم بسائر البشر ؛لكونه أب للعالم كله ". و يطالب القديس يوحنا ذهبي الفم الخادم أن يكون قدوة في التصرف والسلوك الحسن فيقول " لا حاجة للكلمات مادامت حياتنا تضيء ؛لا حاجة للمعلمين مادمنا نظهر أفعالا حسنة ؛ماكان يوجد وثني واحد لو كنا مسيحين بحق ؛لو أننا نحفظ وصايا المسيح ونحتمل الألم ونسمح للغير أن يستفيدوا منا ؛إذ نشتم فنبارك ؛نعمل معاملة سيئة فنصنع خيرا ؛ما أسوأ أن نكون فللاسفة في الكلمات لا الأعمال ؛لماذا هذا الكبرياء ؟ لأنك تعلم بالكلام فقط ! ما أسهل ترديد الكلمات! علمني بحياتك فهذا أفضل ؛فنحن محتاجون إلي لغة سلوك حسن لا إلي لغة منمقة ؛ إلي الفضيلة لا إلي الخطابة الفذة ؛إلي الأعمال لا إلي الكلام " . نقطة أخيرة في الرعاية هي انه ينبغي علي الراعي أن يكون غيورا علي خلاص الكل ؛فشهوة قلبه هو أن يحضر جميع النفوس إلي المسيح ؛ وفي هذا المعني قال القديس يوحنا ذهبي الفم "لا أقدر أن أصدق خلاص إنسان لا يعمل لخلاص أخيه ؛ليس شيئا تافها مثل مسيحي لا يهتم بخلاص الآخرين ؛ان كانت الخميرة لا تخمر العجين هل تكون خميرة ؟؛وإن كان العطر لا يعبق الجو المحيط به هل يكون عطرا ؟؛ هكذا مسيحي لا يعمل من أجل خلاص غيره هل هو مسيحي ؟!". وفي نفس المعني قال القديس أغسطينوس " قلب محب واحد يلهب قلبا آخر بالنار ....ماذا أشتهي ؟ ماذا أريد؟ لماذا أتكلم ؟ لماذا أعيش إن لم يكن لهذا السبب :أن نحيا معا مع المسيح ... فأنا لا أريد أن أخلص بدونكم " .

وأخيرا قال غريغوريوس الكبير مخاطبا شعبه "عندما تكتشفون أن شيئا ما نافعا لكم ؛تريدون أن تخبروا الآخرين عنه ... طبق هذا السلوك الإنساني في المجال الروحي . عندما تذهب إلي الله ؛لا تذهب وحدك " .

ولقد دعي البطريرك في الكنيسة من الكلمة اليونانية Patriarches ومعناها رئيس العائلة أو القبيلة ؛ولقد أطلقت في الكتاب المقدس علي رؤساء العائلات أو القبائل ؛ومنهم علي الخصوص إبراهيم وأسحق ويعقوب ؛ وفي الكنيسة القبطية كان البابا ياروكلاس ( (230 - 246 م.) ) البطريرك الثالث عشر هو أول من أطلق عليه لقب بابا ؛ومنذ القرن الخامس الميلادي ؛ بدأوا يطلقونها علي أساقفة الكراسي المسيحية الكبري وهي :- أورشليم – أنطاكية – الاسكندرية – روما – القسطنطينية . وتطلق الآن علي رؤساء الكنائس في رومانيا وبلغاريا وروسيا وأرمينيا .... الخ .

وإذا ما نتقلنا إلي مواقف عملية في الكنيسة'> تاريخ الكنيسة وسير الآباء التي يظهر فيها عمق الأبوة ؛نقرأ في تاريخ كرازة آبائنا الرسل عن قصة يوحنا الرسول مع أحد الشباب الذي أودعه أمانة عند أسقف أفسس ؛ولكن الأسقف لم يكن أمينا في رعايته لهذا الشاب ؛فتعرف عليه مجموعة من الشباب الفاسد ؛فصار رئيس عصابة للسرقة والقتل ؛وعندما عاد القديس يوحنا وسأل عن الشاب ؛أفاده الأب الأسقف أنه قد مات ؛ فلقد صار شريرا وسارقا ؛ فمزق القديس يوحنا الرسول ثيابه وقال "أعدوا لي بسرعة حصانا ؛وليرافقني أحدكم "وعندما وصل الي الموضع الذي يوجد فيه الشاب ؛قال لأحد أفراد العصابة خذوني إلي رئيسكم فأني لهذا جئت ؛ فلما رأي الشاب القديس يوحنا داخلا عليه ؛خجل جدا من نفسه وشرع في الهرب ؛فلحقه الرسول بكل قواه وقد نسي سنه ؛وأخذ يصرخ :لماذا تهرب مني يا أبني؟ أنا أباك الشيخ الذي لا سلاح له ؛ ارأف بي يا بني ولا تخف ؛توقف ؛وثق أن المسيح هو الذي أرسلني إليك ؛فتوقف الشاب عن الهرب ؛ ورمي سلاحه ؛وأخذ يرتجف ويبكي بكاءا مرا ؛ثم أعتذر للقديس يوحنا وأعترف عن كل ذنوبه التي فعلها ؛ثم أقتاده الرسول الي الكنيسة وسكب دموعا غزيرة من أجله حتي تاب الشاب توبة حقيقية بفضل صلوات ودموع القديس يوحنا الرسول .

كما ورد في تاريخ البطاركة عن البابا بطرس خاتم الشهداء ( ؟ - 311م تقريبا ) البطريرك رقم 17 من بطاركة الكنيسة القبطية ؛ أنه عندما سيق إلي الاستشهاد ؛تجمهر الشعب حول السجن يريد أن يفتدي باباه الحبيب وينقذه من يد دقلديانوس وأعوانه ؛ ولكن خاف البابا بطرس علي شعبه ؛ لعلمه أن الراعي الحقيقي يبذل نفسه عن الخراف ؛ فأتفق مع الجنود أن يمهلوه حتي يهديء من ثورة الشعب المتجمهر أمام باب السجن ؛ ثم خطب في شعبه حاثا أياهم أن يعوودا إلي مساكنهم في هدوء وسلام ؛ فرضخ الشعب لطلب قداسته وتفرقوا |إلي بيوتهم وأعمالهم ؛ وعند ذلك أعطي البابا الإشارة إلي الجند لكي يأتوا ويسوقوه الي مكان الاستشهاد غير أنه طلب منهم أن يسمحوا له بزيارة المقصورة التي تحوي رأس القديس مارمرقس الرسول ؛ وأمام الرأس سقط علي ركبتيه وصلي بحرارة أن يقبل الله حياته فداء عن شعبه ؛وأن يكون دمه هو آخر دماء الشهداء ؛ وبالفعل كان دم الانبا بطرس هو خاتم دماء شهداء العصر الوثني .

ونقرأ في سيرة القديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية الكبادوك ؛أنه أقام مستشفي عظيم عرفت في التاريخ بأسم "باسيلياد " وكانت توجد بها عناية خاصة بمرضي الجذام ؛ولم يأنف القديس باسيليوس من تقبيلهم أحيانا إظهارا لحنانه عليهم ؛ويذكر عنه صديقه القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات ؛أنه كان يجمع في الساحات كل الجياع من كل الشعب ؛ ثم يقدم لهم جميع أنواع الطعام ؛وكان يدور مع أصحابه يعالج أجساد المرضي ؛ويعزي أنفس اليائسين ؛مبديا لهم علامات الفرح والاحترام ؛عاملا علي تخفيف وطأة الآلام عليهم .

أما القديس يوحنا ذهبي الفم ؛فلقد تسلم أسقفية القسطنينية ولم يكن بها إلا ثلاثة بيوت فقط لأعمال الخير ؛فبذل كل جهده من أجل زيادة الملاجيء الخيرية ؛ ووكل العناية بها إلي كهنة أفاضل ؛وأطباء ماهرين ؛ وأشخاص أتقاء تبتلوا بإختيارهم وكرسوا أنفسهم لخدمة الفقراء ؛وفي خلال مدة وجيزة زادت عدد المؤسسات الخيرية ؛حتي أن كثيرين منهم أنفقوا أموالهم جميعا علي بناء المستشفيات ؛وفي آخر الأمر أعتزلوا الدنيا ؛وقضوا حياتهم في خدمة الفقراء والمرضي وسائر أعمال الرحمة .

أما القديس أوغسطينوس ؛فلقد صار أسقفا لمدينة هيبو (أحدي قري الجزائر حاليا ) ولقد ذكر المؤرخون تقريرا عن نشاطه في الأسقفية يمكن تلخيصه فيما يلي :-

"وعظ يومي السبت والأحد ؛ وأحيانا عدة أيام متواصلة وأحيانا أخري مرتين في اليوم – استقبال رجال الإكليروس والشعب للبت في الأمور وملاحقتها في المحاكم – رعاية الفقراء والأيتام – تنشئة الإكليروس - إرشاد الرهبان والراهبات- إدارة أملاك الكنيسة – زيارة المرضي – التوسط لدي السلطات المدنية لخدمة الجماعة المسيحية – أسفار متعددة لحضور الاجتماعات – زيارة رؤساء الكنائس – جدالات لاهوتية شتي – أجوبة علي أسئلة – مؤلفات متعددة (حوالي 260 مؤلف ما بين كتب وعظات وصلوات وتأملات ) "

وإذا ما إنتقلنا إلي الكنيسة القبطية الآرثوذكسية ؛ نجد في سيرة القديس الأنبا ابرآم( 1892- 1914 ) أسقف الفيوم والجيزة أنه قد أتاه ذات مرة شخص كان في ضيقة ؛وكان غير مسيحيا ؛ فقال له "لقد ضاقت بي الحياة جدا ؛فقلت أذهب إلي أسقف النصاري .فرد عليه القديس الانبا ابرآم "يا ولدي ؛وهل أنا أسقف للنصاري وحدهم ؟ . كذلك أيضا روي عن المتنيح الأنبا باسيليوس مطران الأقصر الراحل (1894- 1947 )أنه زار ذات مرة أحد الأسر الفقيرة ؛ولم يكن هناك مقعد يجلس عليه ؛ فجلس علي ماجور العجين ؛وعند ذهاب صاحبة المنزل لعمل الشاي له ؛ وضع مبلغا كبيرا من المال تحت الماجور في السر والكتمان ؛وعند انصرافه من المنزل قالت له صاحبة المنزل :"باركنا يا سيدنا " فصلي لها ؛وهو خارج قال لها "البركة تحت الماجور " وبعد انصرافه رفعت الأم الفقيرة ماجور العجين فوجدت مبلغا كبيرا من المال تحت الماجور .

أما عن باعث النهضة الكنسية في عصرنا الحديث القديس حبيب جرجس ( 1876- 1951 ) ؛فبالرغم من أنه كان خادما متبتلا ؛إلا أنه كان يعتبر أبا روحيا للألاف من الأطفال والشباب ؛ فلقد أهتم أن يجمع الأطفال في الكنيسة ويلقي عليهم الدروس الدينية ؛ كما قام أيضا بتوزيع صور ملونة جميلة كوسيلة من وسائل الايضاح ؛ ولقد روي عنه الأناغتوسيس وهيب عطا الله (المتنيح الأنبا غريغوريوس فيما بعد ) في العدد التذكاري الذي صدر عن مجلة مدارس الأحد بمناسبة نياحته في نوفمبر وديسمبر 1951 ؛ أنه صحب معه أحد خدام مدارس الأحد بعد أن عاد مظفرا من بلاد الغرب بدرجة الدكتوراة ( وهو المرحوم الدكتور ميلاد حنا ميخائيل أستاذ الإنشاءات والكاتب والمفكر المعروف فيما بعد ) إلي منزل الأرشيدياكون حبيب جرجس ؛ وعندما عرفه بالدكتور ميلاد ؛ فرح به جدا وعانقه عناقا أبويا حارا ؛ حتي تأثر الدكتور ميلاد كثيرا من هذا الموقف . كما يذكر الاغنسطس وهيب عطا الله في نفس المقالة أنه أختلف معه ذات مرة في الرأي ؛وعندما حاول الاعتذار له ؛رد عليه باعث النهضة الكنسية بقوله "أتظن يا أبني إنني أكره أن يكون لك رأيك المستقل .... إنني أفرح حين أشعر إنني سأترك من بعدي رجالا ". ويذكر المرحوم الدكتور سليمان نسيم أستاذ أصول التربية في جامعة حلوان ؛ إنه عندما كان طالبا في الكلية الأكليركية – القسم المسائي الجامعي – وكان هو مدير الكلية ؛ كان يزورهم في مادة التربية العملية ؛ ويستمع إلي شرحهم لكي يقيهم ويعطي لهم الدرجات ؛ ولكن الدكتور سليمان فوجيء إنه جاء وسلم عليه بعد نهاية الدرس وقال له " أنا مبسوط خالص ؛أستفدت معاكم النهاردة حاجة جديدة !!!" .

أما عن قداسة البابا كيرلس السادس ( 1902- 1971 ) فلقد أشتهر بلقب صاحب الباب المفتوح والقلب المفتوح" ولقد قال عنه قداسة البابا شنودة الثالث – نيح الله نفسه في فردوس النعيم - أنك تستطيع أن تقول له كلمة في أذنه في اي وقت ؛ روي عنه انه توجه ذات مرة إلي قري الصعيد ؛وكان موسم إفطار ؛وكان جميع أعيان البلد قد نحروا له الذبائح ؛فوجد بائع طعمية بسيط فداعبه قائلا "سمعت انك بتعمل طعمية سخنة ومقرمشة حلوة قوي " فرد عليه البائع طبعا يا سيدنا ؛فقال له قداسة البابا "طيب ماتدوقنا منها " فطار البائع من الفرحة وجري يعد الطعمية لسيدنا البابا ؛وعندما سأله شماسه الخاص "طيب يا سيدنا الناس اللي دبحت نقول لها أيه ؟ " فرد عليه سيدنا البابا "معلش يا بني خلينا نجبر بخاطره " . كما روي عنه الأستاذ أيوب فرج عالم اللغة القبطية المعروف أنه شاهده وهو يداعب طفلا كان يمرح في فناء الكاتدرائية بكل بسطاطة قلب ووداعة .

أما عن المتنيح الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة والاجتماعية الراحل ( 1920- 1981 ) ؛فلقد كان صاحب منهجا شاملا في الخدمة الاجتماعية يعرف بالتنمية الشاملة ؛ وشعارها "تنمية كل إنسان ؛وكل الإنسان " ؛ وفي سبيل تفعيل هذا الشعار ؛أسس ما يعرف ب"جماعة أخوة الكادحين "هدفها الامتداد بكافة الخدمات الإجتماعية رأسيا بتعميقها ؛وأفقيا بالعمل علي انتشارها ؛ولقد كتب في مقدمة الدعوة لهذه الجماعة فقال عنها " نحييكم ؛ويسرنا أن نشركم معنا في دراسة بعض ما يجول في خاطرنا بالنسبة لأخوتنا الكادحين ؛وأبناء الطبقات المحرومة من كافة الخدمات في الأحياء الشعبية والقري ؛ وما يعانونه من قصور في التعليم وضعف الدخل وتعرض للأمراض ؛وما ينتظر أولادهم من مستقبل غير مشرق ؛خاصة مع ارتفاع تكاليف المعيشة في وقتنا الحاضر ............... وإيمانا منا بأن الإمكانيات الكثيرة ؛العلمية والمداية ؛التي لشعبنا العريق في الإيمان والحضارة المدنية .... |إيمانا منا بكل هذا أتخذنا لجماعتنا شعارا هو (ساعدوا الناس ليساعدوا أنفسهم ).

والمتنيح الأنبا بيمن سقف ملوي الراحل ( 1930- 1986 ) ؛ كان يعتبر رائدا تربويا كبيرا ؛وقد حصل علي درجة الماجستير من جامعة برنستون بالولايات المتحدة الامريكية في موضوع (الفكر التربوي عند القديس كليمندس السكندري ) . وفي رسالة بعث به إلي أحد أصدقائه القدامي في الخدمة قال له فيها " عندنا حوالي 80 – 90 ألف محتاجين رعاية روحية وإجتماعية من فقر وإحتياج روحي ومادي . أطلب من الله أن يرسل فعلة لكرمه . رسمنا 10 كهنة ولا أزال محتاجا حوالي 27 كاهنا للبندر و5 كهنة للريف ؛ الله يرسل . الخدمة المرهقة هي خدمة المحتاج والمسكين والجاهل والمتخلف لأن العائد هو فوق فقط وليس من تعزية ظاهرة سوي مؤازرة الروح في الداخل ". وفي رسالة خاصة أرسلها للخادمات المكرسات في المطرانية قال لهن فيها " أصلي كثيرا لأجلكن كي يجعلكم الرب بسمة مشرقة وصدرا حنونا للجميع ؛وفرحا وعزاءا للبائسين ؛وميناء لكل فتاة تحيا في العاصف . وإن كنت لا أريد أن أشرح ما في قلبي من حب مقدس نحوكن جميعا إلا أني أصارحكن أنه كان غذاء لي في السجن ولا يزال غذاء لي في جوعي إلي العودة للإيبارشية " .

أما المتنيح الأنبا يؤانس أسقف الغربية الراحل ( 1923- 1987 ) ؛فلقد روي عنه أحد أولاده أنه كان يخصص مبكروباس مخصص لخدمة القرية ؛ وكان الخدام يستقلونه من البوابة أمام المطرانية ؛ ثم يرجعون به آخر النهار إلي المطرانية ؛ وفي ذات يوم تأخر الميكروباس في العودة حتي الساعة الثانية عشر ليلا ؛ فعاتب الأنبا يؤانس السائق والخدام قائلا :-" ليه تأخرتم كده ؟ متبقوش تتأخروا تاني ... أنا ما بنمش إلا لما أسمع صوت العربية وأطمئن عليكم " . وفي ليلة الاحتفال بالشهيد العظيم أبانوب النهيسي ؛كان سيدنا يصلي العشية في الكنيسة الأثرية بسمنود ؛ ثم يجلس مع أطفال الملجأ ؛ ويقوم بتوزيع الطعام عليهم بنفسه ؛ ويعطي لكل طفل كارت معايدة .

كما روي عن المتنيح الانبا مكسيموس مطران القليوبية الراحل ( 1911- 1992 ) ؛ أن أحد خدام المطرانية بات معه في مبني المطرانية ذات ليلة ؛ وكان البرد شديدا جدا ؛فطلب منه سيدنا أن يأخذ الدفاية التي عنده في الحجرة لكي يستدفيء بها ؛ فرفض الخدام باصرار ؛ ففوجيء بسيدنا المطران يقول له "ما هو يا أما تاخدها يا اما تيجي تنام معايا " فأحس الخدام بالحرج وفعلا أخذ منه الدفاية الوحيدة الموجودة في المطرانية ؛ وفي الصباح فوجيء الخادم بسيدنا المطران وهو يوقظه من النوم ؛ ويحمل معه فوطة لكي يغسل بها وجهه ؛ فشعر الخادم بالحرج الشديد ؛ ولكن المطران طمئنه قائلا " وفيها أيه يعني ؛مش كتر خيرك أنك بتونسني طول الليل "؟! .

أما المتنيح الانبا أثناسيوس مطران بني سويف (1923 – 2000 ) الراحل ؛فالمعروف عنه أنه كان صاحب مدرسة كبري تسبق عصرنا بمراحل في مفهوم التنمية الشاملة ؛ شارك مع المتنيح الأنبا صموئيل أول ـاسقف للخدمات العامة والإجتماعية في الكنيسة القبطية في تاسيسها داخل إطار الكنيسة القبطية الآرثوذكسية ؛ فلقد حرص في مطرانيته علي افتقاد الشعب في فترات منتظمة وكان يوصي الكهنة بضرورة الحرص علي زيارة كل الشعب مرة في السنة علي الأقل ؛ فأسس ما يعرف بخدمة "شمامسة الافتقاد " وفحواها أن يختار كل أب كاهن مجموعة من الشمامسة ذوي الصيت الحسن والسن الوقور المناسب لكي يدخلوا معه البيوت لافتقاد الشعب ويعرفهم الكاهن بالناس ؛ثم يقومون هم بدورهم بالاستمرار في الافتقاد بدون الأب الكاهن ؛وكان يعقد لهم الاجتماعت المتوالية . ولقد روي لنا نيافة الحبر الجليل الأنبا موسي أنه أوصي كل كهنة المطرانية بضرورة الدخول الي كل سرادقات العزاء التي يتصادف مرورهم بها ؛وإلقاء كلمة عزاء مناسبة للشعب كله مسلمين ومسيحين .

أما المتنيح الانبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي الراحل ( 1919- 2001 ؛ فيروي عنه أنه كان قد ارتبط بموعد اكليل ؛ وفي نفس ذات اليوم توفي شقيقه الأكبر منه (المرحوم أنور عطا الله ) ؛ إلا أنه أصر علي حضور الأكليل ؛ وكتب في مذكراته يقول " إنني مرتبط بهذا الموعد ؛ وحددوه في هذا الموعد يالذات من أجل أن أتمكن من عقد الأكليل ؛فرأيت لو تأخرت عن عقد الأكليل سأصيب الأسرة بصدمة ؛وخيبة أمل ؛وإحساس بالتشاؤم وما إلي ذلك من مشاعر غير سعيدة أشفق عليهم منها ؛لذلك رأيت ضرورة أن أفي بوعدي مهما كان من أن شقيقي توفي اليوم " . كذلك أيضا روي لي أحد عمال البوفيه بالكلية الاكليركية أنه دعاه لكي يصلي صلاة الاكليل لأبنته الكبري ؛ وكان المعروف عن نيافته ان صلاة الأكليل عنده تستغرق نحو ساعتين أو اكثر ؛ فسأله ما هو موعد الأكليل ؟ ؛ وعندما ذكر له الموعد قال له نيافته أنه مرتبط في هذا اليوم بارتباط معين ؛ ولكن لو أجل موعد الأكليل ؛فأنه يستطيع الحضور ؛ فرد عليه العامل أنه مستعد أن يؤجل موعد الاكليل في سبيل أن ينال بركة حضور الانبا غريغوريوس صلاة الأكليل ؛ وبالفعل تأجل الموعد ووافق نيافته علي الحضور في الموعد الجديد ؛ وأجري له طقس صلاة الأكليل كاملة لمدة الساعتين أو أكثر مثله مثل أي مؤمن عادي . ويذكر كاتب هذه السطور موقف آخر حدث مع نيافته ؛ إذ كنت قد طلبت منه الصلاة من أجل مشكلة معينة كنت أعاني منها وقتها ؛ ومر أسبوع أو أكثر ؛ وبعدها تقابلت معه ففوجئت به يبادرني بالسؤال "ها عملت أيه في المشكلة ؟! " . بعد أن كنت أنا شخصيا قد نسيت المشكلة أصلا .

أما المتنيح الانبا دوماديوس مطران الجيزة (1925- 2011 ) فالمعروف عنه أنه كان قد اصيب بجلطة في المخ أثرت علي الحركة عنده فصار مقعدا ؛ ولقد روي لنا أحد الآباء كهنة الجيزة أنه طلب منه ذات ليلة أن يصاحبه لزيارة شخص مريض بالشلل الكامل ؛ وكان يرفض أن يتناول أي طعام ؛ فتوجه إليه سيدنا الأنبا دوماديوس وداعبه قائلا :_ "أيه مش عاوز تاكل ليه ؟! ما أنا زيك أهو مشلول وعايش حياتي بنعمة ربنا " وطلب من الأسرة أن تعد له الطعام ؛ وفوجيء أبونا الكاهن أن سيدنا الأنبا دوماديوس بنفسه هو الذي يعطيه الطعام بييديه .

أما المتنيح القمص ميخائيل ابراهيم (1899- 1975 ) ؛فلقد أشتهر عنه بكتابة أسماء أولاده وأصحاب المشاكل ومواضيعها مع الطلبات في أوراق خاصة ؛ثم يضعها أمامه علي المذبح وقت صلاة القداس الإلهي ؛ وكثيرا ما كان يلخص هذه الأوراق وسجلها في ورقة واحدة تكون في متناول يده دائما ؛وكان أبونا ميخائيل يصلي من أجل كل مريض لكي ينعم ارب عليه بالشفاء .

أما القمص بيشوي كامل( 1931- 1979 ) ؛ ؛فلقد أعتاد أن يفتقد العائلات المتألمة قبل العيد ؛فكان يخرج بعد القداس حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ؛ليفتقد أكثر من عائلة يشركها معه فرحة العيد ؛ وأحيانا كان يصحب بعض المتألمين معه إلي منزله ؛كما كان يلتقي أولاده ببشاشته المعهودة ؛وكان يعرفهم بأسمائهم وظروفهم ؛ ولقد أمتدت محبته إلي غير المؤمنين أيضا ؛ إذ يروي أحد أعضاء مجلس الكنيسة أنه ألتقي برجل غير مسيحي يبكيه في يوم جنازته ؛فسأله : هل تعرفه؟ أجاب الرجل : نعم فهو الذي قام بالإنفاق علي تجهيز بنتي !.