فى تمام التاسعة والنصف صباحاً وعلى رصيف ١١ فى محطة مصر بمنطقة رمسيس التابعة لمحافظة القاهرة، حيث القطارات المتجهة إلى وجه قبلى ومحافظات الصعيد كان الازدحام شديداً، المسافرون يصطفون بطول الرصيف الذى لا تكاد تظهر نهايته تحت أشعة الشمس الحارقة فى انتظار القطار الذى يحمل رقم ١٥٨ والمتجه من محافظة الإسكندرية، ليحط رحاله ويفرغ حمولته فى محافظة الأقصر. «الوطن» قامت برحلة عبر أحد قطارات الدرجة الثالثة، انطلقت من محطة مصر بالقاهرة وصولاً إلى مدينة الواسطى القريبة من محافظة بنى سويف.

ورغم أنه كان مقرراً له الانطلاق فى العاشرة والنصف صباحاً، فإن القطار تأخر عن موعده ليصل فى الحادية عشرة قبل الظهر، ما أدى إلى تكدس الرصيف عن آخره بالركاب من كبار السن والأطفال والنساء، وما إن أطلق القطار صافرته معلناً وصوله، حتى أخذ الجميع يركضون إليه حاملين فوق أكتافهم وأعناقهم أطفالهم وأمتعتهم استعداداً للركوب، وبمجرد وصوله تدافع الركاب فى محاولة لحجز كرسى يغفون فوقه لحين الوصول إلى وجهتهم.
ثمن التذكرة فى "الدرجة التالتة" 6 جنيهات والباعة الجائلون يمتنعون عن شرائها

وداخل القطار الذى يبلغ ثمن تذكرته ٦ جنيهات ويطلق عليه المواطنون «قطر الغلابة»، والذين عادة ما يستقلونه لرخص ثمنه، كان الوضع أكثر فوضوية، فمن استطاع الدخول أولاً يحق له حجز أكثر من كرسى، رغم أن الجميع يحملون نفس التذكرة بالقيمة ذاتها فإن الوضع هنا بقوة الجسد، فليس لدى الجميع أى مانع فى العراك والاشتباك بالأيدى للحصول على المقعد.
ركاب: طول الوقت بيتهربوا وأوقات بيجرّوا شَكَلنا


وبعد تحرك القطار من محطة الجيزة بقليل أخذ عدد من الكمسارية فى الاطلاع على التذاكر وتحصيل الغرامات من الركاب الذين لم تكن التذاكر بحوزتهم، وأثناء توقف الكمسارى أمام أحد الركاب للتفتيش على تذكرته كان أحد الباعة الجائلين يحمل فوق رأسه وعاءً كبيراً مُلئ عن آخره بالساندوتشات التى كان يستعد لبيعها للمسافرين يريد المرور، إلا أن الكمسارى اعترض طريقه واستوقفه طالباً منه إظهار تذكرته، لكن البائع الذى بدا عليه أنه فى منتصف الثلاثينات من عمره رفض الاستجابة لطلب الكمسارى، موضحاً أنه لا يحمل تذكرة ركوب وأنه هنا من أجل لقمة عيشه، وهى حجة لم تكن مقنعة لمفتش التذاكر الذى وقّع عليه غرامة قدرها ١٦ جنيهاًً وطالبه بالدفع، ليرد بعدها البائع عليه بسيل من الشتائم حتى يفسح الكمسارى له الطريق «للاسترزاق»، لكن مفتش التذاكر استدعى أحد أمناء الشرطة الذين كانوا على متن القطار وأغلبهم يرتدون الزى المدنى، وما إن استطاع الأمين الوصول إلى مكان الشجار حتى طلب من البائع المثول أمامه إلا أن البائع رفض تماماً قائلاً لأمين الشرطة: «أنا ما بتهددش واللى عايزنى يجينى لكن أنا هفضل واقف هنا ومش هتحرك من مكانى ليتدخل الركاب وينهوا الأزمة بمغادرته القطار».

وفى العربة المجاورة، قام عدد كبير من المسافرين كان أغلبهم من عمال اليومية بالصعود إلى المكان المخصص للأمتعة وافتراشها فى وضع مشابه للسرير، فيما كانت الحقائب تحيط بهم من كل جانب.

وينطلق القطار بين الزراعات، حيث ارتفع أذان الظهر تزامناً مع التوقف فى منطقة العياط التابعة لمحافظة الجيزة، مدة الاستراحة لم تتعدَّ الـ٥ دقائق، حيث كان ذلك الوقت كافياً لصعود عدد من الباعة الذين تنوعت منتجاتهم بين «أباريق الشاى والنسكافيه والعطور والمناديل وأكياس الشيبسى وأصابع العسلية والمقرمشات»، لتتكرر نفس الأزمة السابقة.
بائع: أكل عيشنا

ولم يكن وجود الباعة داخل القطار وتجولهم بين عرباته مزعجاً للركاب بالقدر الذى يزعج الباعة أنفسهم، حيث فضل أغلب المسافرين التزام الصمت، لكن أحد الركاب الذى وافق على الحديث قائلاً: إنهم كمسافرين يقدّرون حالة الحاجة والعوز وقلة فرص العمل التى دفعت بهؤلاء الشباب إلى اقتحام القطارات لبيع منتجاتهم، مضيفاً: «إحنا بنسيبهم يشوفوا أكل عيشهم بس هما ما بيكونوش طايقين كلمة ولا حركة لحد، وبيجرّوا شكَلنا».

ويقول أحد الباعة الذى يحمل بين يديه وفى حقيبته التى استقرت فوق ظهره صناديق من الخواتم والأساور التى يقول عنها إنها من الفضة الأصلية: «ده أكل عيشنا وما نعرفش نعمل حاجة تانية غيرها.. يا ريت الكمسارى بدل الخناقات والمشاجرات ينزّل كل واحد مش معاه تذكرة فى المحطة اللى بعدها».