بقلم – روماني صبري
رأى البعض وتعصبوا وامنوا اشد الإيمان، أن الألم اكبر جحيم على كوكب الأرض، ربما لم يجدوا في ذلك نوع من الدراما الرخيصة، تلك التي نراها في صراخ الممثل المسرحي أو بطل الفيلم السينمائي عندما يشرع في التباكي والفضفضة ليختصر كل ما نزل بحياته من الم جراء حظه السيئ في عالم يناكده وينكافه لجذب تعاطف الجمهور .. ثمة حقيقة وهي أن الألم بغيض، وضحاياه كثيرين ، ونذكر منهم السيد المسيح ، إذ جعله الألم النفسي والجسدي ينهار على الصليب لا سيما بعد هروب أصدقائه فاختص الله قائلا :" الهي .. الهي ..  لماذا تركتني." 
 
نحن لا نعرف ماهية أنفسنا في أوقات الغبطة التي تستبد بحياتنا قبل تجربة الألم، والدليل ملايين حول العالم أقدموا على الانتحار هربا من تبعات الأمراض الخبيثة ، حتى الأمراض المزمنة التي يستطيع الإنسان التعايش معها حاليا قضت على حياة الملايين قبل اكتشافها واختراع الأدوية التي تصدت لها بنجاح كالسكري ، وارتفاع ضغط الدم.. نعم الآلاف قتلهم السكري قبل اكتشافه ، فقط لاحظوا الأعراض : شعور بالجوع المفرط ، كثرة التبول، الإغماء والهذيان لا سيما بعد تناول الخبز والفواكه .. إذا الألم نوع من القذارة من الناحية الإنسانية لذلك تدخل العلم وتصدى له ، وان عدنا إلى الوراء سنكتشف انه كان مقدس وكان له حراسه . 
 
لفت انتباهي علم التخدير، عندما أشتد الصداع بمعلمة القراءة إزاء التهاب ضرس العقل لديها ، أخذت تقول وهي تضرب كف على كف :" يا الهي فلتنتزع روحي من جسدي أوقف هذا الألم"، وكانت تتناول المسكنات كالحلوى، لكن هيهات .. جعلها الألم كالوحوش البرية التي تسكن الخلاء وتجد متعتها عند الانقضاض على أحدهم .. وقتها تمتمت أنا صاحب السبع سنوات كأي طفل تافها وسط أصدقاء (التختة) :" لماذا لا تذهب لطبيب المدرسة ! ، حيث يدفعون دائما بأي مدرسة حكومية بطبيب ماهر ، وإذا انقلب السحر على الساحر مثل ما يقول القول المأثور ، من المستحيل أن يعرف الفشل طبيب المدرسة الحكومية، فهو يقيس الضغط ويكتشف غيبوبة السكر بسهولة عندما يجتهد مجودا ، فضلا عن خلعه أسنان التلاميذ بالخيط .. ذات يوم سقط زميلنا مصطفى مغمى عليه ، وكانت الأجواء شديدة الحرارة ، حملناه وذهبنا للطبيب الذي شخص حالته بسرعة البرق قائلا : يبدو أن الولد مريض سكر .. وعندما بدأ مصطفى يستفيق اختصه قائلا : ماذا تناولت ؟ ، فأجابه : بليلة من عند أم محمود ، إحدى الباعة الجائلين إمام المدرسة ، فشرع يشرح لنا: بس دي  كانت غيبوبة سكر .. واختصارا لم يعرف السكر مصطفى ، سقط الفتى جراء إصابته بالتسمم ، هذا ما أدركتاه بعدها بأيام .
 
أقبح ما في الألم صعوبة إخفاؤه لاسيما الجسدي منه، أمسكت المعلمة الضخمة، بأول تلميذ اتجه إليها ليستأذن حتى يذهب للحمام وضربته وألقت بالطباشيرة البيضاء في وجهه قائلة : غور من وشي .. غور روح أتنيل عليك وعلى اللي خلفوك .. ولا تعرفوا الحياء يا ولاد الكلب"، أستند الفتى الضعيف(متألما) على السبورة  فأتسخ قميصه الحزين مثل وجهه إزاء احتكاكه بها ، كنا نهون على بعضنا كثيرا ، لان مدرستنا لا تشبه الجيش.. وعلمونا منذ نعومة أظافرنا أن الحزم يخلق جيل خلوق الله اكبر عليه، لا سيما لو شاهد أعمال الفنان محمد صبحي ولمسته رسائلها ( أومال نطلع جيل متحرش يعني وسمعتنا تبقى زفت في العالم ).. الحمد لله على نعمة الحزم . 
 
بعد أن توارى الفتى عن إبصارنا وذهب ليقضي حاجته وهو يوبخها بقلبه "افتراضا" اقتحمت معلمة اللغة الانجليزية الفصل، لتواسي صديقتها الجالسة بالقرب من السبورة تتألم ، راحت تواسيها قائلة :" النوفالجين مسكنش الألم لسه ؟ 
 
لسه .. والمخفية دكتورة المستوصف هتيجي بعد ساعتين 
 
طب روحي للدكتور وخلاص 
 
لا .. هتنيل استناها مبرحش لدكاترة 
 
منذ قرون عدة حاول العلماء تخفيف الآلام البشر عند خضوعهم للعمليات الجراحية ، حيث كان يهزمهم الألم وتنزل بهم الوحشة فيستحيل وقت العملية إلى جحيم، وبالفعل استخدموا نبات الحشيش والأفيون ، لكن كان لرجال الدين رأي أخر ، فراحوا يبثون الرعب بقلوب المرضى إيمانا منهم أن هذه النباتات من الشيطان ، ومن يدخنها قبل خضوعه لعملية سيتفنن الله في تعذيبه، ما زادهم ألما فوق ألامهم .. بعدها استعان اليونانيون بالخمر شديد الكحول لتخدير المرضى لكن سرعان ما كان يصرخ المريض بمجرد أن يغمد الأطباء مشرطهم بجسده ، لكن لم يستسلم الأوائل وفكروا في طرق أخرى للتصدي للألم فتوصل بعضهم للخشبة ! ، ضرب المريض على رأسه حتى يفقد وعيه وخلال هذه المدة يجرون له العملية ، أيضا وضع كمية كبيرة من الثلج على الجزء المصاب ، بهدف خفض درجة حرارته ، كذلك توصلوا إلى طرق أخرى لتخفيف الألم بخفض الدم داخل العضو المعتل بلفه بخيط سميك .. تجدر الإشارة طبعا إلى أن آلاف البشر كاد أن يخطفهم الموت إزاء كل ما أتينا على ذكره من طرق ومحاولات لتسكين الألم.
 
عام 1776 تمكن العالم الكيمائي"  بريستلي"  من اكتشاف غاز أكسيد النيتروز المعروف بغاز الضحك ، ليعرف العالم بعدها التخدير الحديث ، وشهد العام 1844 خضوع أول مريض لعملية جراحية من قبل طبيب أسنان بالولايات المتحدة الأمريكية يدعى "هورس ويلز" باستخدام غاز الضحك .. وبعد مرور سنوات تذكر اخترع الطبيب "ويليام مورتون" البنج أو الأثير عام 1864، واجري من خلاله عملية إزالة أورام ناجحة من رقبة مريض، ليدفع باسمه إلى واجهة علماء التخدير الحديث خلفا لبريستلي، ..لكن صعد بعض رجال الدين من لهجتهم لجماعات المؤمنين لاسيما في البلاد العربية إذ اعتبروا الأثير تحديا لعمل الله كما فعلوا عند اختراع "الصنبور"في مصر ، وفي النهاية انتصر العلم عليهم كما يفعل دائما.
 
وفي عام 1895 اخترع" الأخوة لومير" (السينما)- جهاز العرض السينمائي- ، والذي كان له دور كبير في تزويد الهواتف المحمولة الحديثة بكاميرا ، إذا تعمل بنفس الكيفية ، مجموعة من الصور الثابتة يتم التقاطها وتحريكها بسرعة معينة، ومؤخرا تسببت كاميرا المحمول في كشف وفضح عنف المدرسين داخل المدارس الحكومية، ونذكر الواقعة الأخيرة عندما رصد إحدى التلاميذ بكاميرا هاتفه اعتداء مدرس على تلميذ بالفصل حتى كاد يقتله ، ليتم إيقافه بعدها عن العمل.. أن الذين يكرهون الألم والعنف يستحيلون إلى قضاة لأنفسهم لا يهم ماذا استخدموا للدفاع عن أنفسهم وهل هم نبيلون أم أوغاد سفلة .. كل ما أدركه أن الملايين احتموا في العلم .. وطالما الإنسان من الله أين الشر في ذلك ! .
 
لا زال يتعامل ملايين الشرقيين مع العلم بكيفية بغيضة ، أذكر احد رواد "فيسبوك" أشاد بـ"جوناس سولك" اليهودي مكتشف لقاح شلل الأطفال في احد منشوراته، حتى تفاعل المئات مع المنشور غاضبين، ويبدو أن صاحب المنشور كان متدينا، لأنه حذف المنشور في النهاية.
 
الوضع في الشرق يشبه مجموعة من النساء في طريقهن لمدينة جديدة عكس القديمة التي طفئت أرواحهن، وفجأة قررن العودة وجلسن أمام بيوتهن يقزقن اللب السوري ويقشرن الفول السودان ليطعمن أطفالهن ، وهن يمخطن أنوفهن، وبعد انقضاء ساعات اليوم ، قررن الذهاب للمدينة الجديدة ليهبن أنفسهن لها ، فراحت تشرع أحداهن في الغناء وهي تشبك إبهام يدها اليمنى بدائرة حلقها الذهب قبل أن ترتديه  قائلة :" سيد يا سيد . 
 
فصحن النساء ورآها : سيد يا سيد .. والشجرة طرحت برقوق سيد يا سيد.