د. عبد الخالق حسين

يبدو أنه كُتِبَ على العراق أن يكون مأزوماً في جميع مراحل تاريخه، في الماضي، والحاضر، وحتى في المستقبل المنظور، ولا ضوء في نهاية هذا النفق المظلم. وهذه الأزمات الدائمة لم تولد من فراغ، بل هي نتيجة مظالم الحكومات الجائرة عبر التاريخ، وبالأخص في العهد التركي العثماني الذي أوصل  الشعب إلى حافة الانقراض.
 
فالشعب العراقي الذي كان تعداد نفوسه نحو 30 مليون نسمة في العصر العباسي، كما أخبرونا في تعليمنا الابتدائي، قد تضاءل إلى ما دون المليون ونصف المليون نسمة، حسب إحصاء أجراه الاحتلال البريطاني عام 1920، الذي حرر العراق من الاستعمار التركي في الحرب العالمية الأولى. و كان الشعب آنذاك عبارة عن كتل بشرية عشائرية في حروب دائمة فيما بينها لم تعرف النزعة الوطنية بعد. 
 
لذلك عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وصف الملك فيصل الأول أهل العراق في مذكرة له عممها على الحلقات المقربة للحكم في عام 1933 قبل وفاته بثلاثة أشهر عن خطورة الوضع العراقي قائلاً: (... فالموقف خطير، وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى، انه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية ، خالية من أية فكرة وطنية ، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية ، لا تجمع بينهم جامعة ، سماعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتقاض على اية حكومة كانت ، فنحن نرى ، والحالة هذه ، ان نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه، وندربه، ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف ، يجب ان  يعلم عظيم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي اخذت مهمة تكوينه على عاتقي، وهذا نظري فيه،...) (عبدالرزاق الحسني تاريخ العراق السياسي، ج1). 
 
واليوم تتأكد صحة مقولة الملك الراحل عن تمزق الشعب العراقي إلى كتلات بشرية متصارعة، وتعدد ولاءاتها، أكثر من أي وقت مضى.   
 
لذلك، فالشعب العراقي دائماً يعاني من أزمات بسبب ظلم السلطات الحاكمة في مختلف العصور، وتدخل الدول الخارجية في شؤونه الداخلية. ففي العهد العثماني الذي دام أربعة قرون، كان التنافس بين الدولة الفارسية والامبراطورية العثمانية. وكانت تركيا اليوم، أي بلاد الأناضول، تسمى ببلاد الروم حتى في العهد العثماني المفترض به حكم الخلافة الإسلامية. ومن شدة معاناة العراقيين من الحروب بين الدولتين الفارسية والعثمانية على الأرض العراقية، راحوا يرددون الأهزوجة (بين العجم والروم بلوى بتلينا). وبلاد العجم اليوم هي جمهورية إيران الإسلامية، وبلاد الروم هي أمريكا
 
فالشعب العراقي مظلوم في كل العهود، ولذلك مشحون بالغضب على السلطات الجائرة. واليوم وبعد 16 عاماً من سقوط حكم الفاشية البعثية، لم تتحقق له الآمال التي كان يحلم بها في حياة أفضل، حيث فشلت الحكومات المتعاقبة منذ 2003 بتحقيق تلك الآمال. لذلك تراكم هذا الغضب حتى صار أشبه ببرميل بارود مكشوف، كل ما مطلوب لتفجيره هو مجرد شرارة عابرة. وهذه الشرارة يمكن قدحها في أي وقت ومن أية جهة. 
 
فالتظاهرات الاحتجاجية الأخيرة التي بدأت يوم 1 تشرين الأول/أكتوبر 2019، ليست جديدة، إلا إنها الأوسع والأكثر دموية حيث قوبلت من قبل السلطات الأمنية بعنف لم يعهده العراق الجديد من قبل. فقد بدأت التظاهرات منذ عام 2006، مع الاختلاف في المطاليب. ففي صيف العام الماضي مثلاً كانت أزمة الكهرباء والماء.
 
واليوم الفساد، ونقص الخدمات، وتفشي البطالة، وخاصة بين الشباب المتعلم العاطل عن العمل، يعانون من الفقر والجوع بسبب تفشي الفساد في جميع مفاصل الدولة التي خذلتهم وأهملتهم، وسرقت أكثر من 450 مليار دولار منذ 2003، كما تفيد بعض التقارير(1). ولما وعدت الحكومة بتحقيق هذه الأهداف، تصاعدت وتيرة المطالب إلى تغيير جذري للحكومة، والدستور. 
 
لكن هناك من يستغل التظاهرات السلمية المشروعة لأغراض سياسية لم تخطر على بال المتظاهرين أصحاب الحقوق، فيقومون بالتخريب بلباس المتظاهرين.
 
فقد كتب لي صديق أكاديمي ثقة، يقيم في إحدى المحافظات الجنوبية، يصف ما جري في المنطقة قائلاً: ((التظاهرات موضوع شائك ولكن لنا ملاحظاتنا التالية: "التنظيم والتحشيد والدعم اللوجستي للمتظاهرين، والدعم الإعلامي في الداخل، وفي الإقليم العروبي وخاصة الإعلام السعودي والخليجي، لم يكن عفويا، ولا من صنع المتظاهرين العاديين، وهم شباب معظمهم متضرر على مختلف الأصعدة بسبب تعقيدات الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
"الناصرية، أو محافظة ذي قار كانت في اشد مظاهر الاحتجاج والعنف، و رأينا  ما جرى من حرق ودمار وخاصة لمقرات الأحزاب جميعا، عدا مقرات التيار الصدري، وكأنه هناك رسالة مقصودة بضمان تأييد مقتدى الصدر للانتفاضة (كما سميت التظاهرات).
 
أو على اقل تقدير قد تكون جعلها فتنة يسمح بظهور هواجس على تورط التيار بحرق المقرات ! كان بعض المتظاهرين يحملون اسلحة وقد قتل شرطي مركز الفضلية في طريق سوق الشيوخ بعد رفضه تسليم المركز للمحتجين المسلحين!")) انتهى.
 
والسؤال هنا لماذا تم حرق وتدمير مقرات جميع الأحزاب عدا مقرات التيار الصدري في تظاهرة المفترض بها سلمية؟ ولماذا أجاز السيد مقتدى لأتباعه بالمشاركة في التظاهرة التي يُحضَّر لها يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر الجاري؟ أما كان الأجدر إبعاد الأحزاب السياسية المشاركة في السلطة، لكي تحافظ هذه التظاهرات على استقلاليتها، ونقاوتها من السياسيين الفاسدين الذين هم تسببوا في محنة هؤلاء الشباب؟
 
العراق بين إيران وأمريكا
كثير من الكتاب والمحللين السياسيين يربطون بين هذه الأحداث والتطورات الأخيرة وبين علاقة العراق بإيران وأمريكا، خاصة وقد تزامنت هذه التظاهرات مع عودة الوفد العراقي برئاسة رئيس مجلس الوزراء السيد عادل عبدالمهدي من زيارته للصين، وإبرام اتفاقية مع الأخيرة على بناء البنى التحية تقدر كلفتها بنحو 500 مليار دولار على مدى عشر سنوات، تدفع بالنفط وليس بالدولار... ويعتبر هذا تحدياً لأمريكا التي ضحت بالكثير في سبيل تحرير العراق من حكم البعث الجائر، خاصة وقد جاءت هذه الصفقة في وقت تصاعد الصراع بين أمريكا والصين في تنافسهما التجاري. كما تزامنت هذه التظاهرات مع إبعاد الفريق عبدالوهاب الساعدي، قائد (جهاز مكافحة الإرهاب) الذي يتمتع بشعبية واسعة لدوره في إلحاق الهزيمة بداعش، من منصبه من قبل رئيس الوزراء، بأنه يزور السفارة الأمريكية دون علم رئيس الحكومة !!، القرار الذي اعتبره الفريق الساعدي "إهانة له ولتاريخه العسكري". كذلك لوحظ انحياز السيد عبدالمهدي لإيران، وخاصة في موقف العراق الرافض لما يسمى بـ(صفقة القرن) لحل المشكلة الفلسطينية. لهذه الأسباب وغيرها، يرى هذا البعض أن أمريكا وراء الانتفاضة ودون علم المتظاهرين، بغية الإطاحة بحكومة السيد عادل عبدالمهدي، حسب ما جاء في مقال نشرته صحيفة (Information Clearing House) الإلكترونية، نضع رابطه في الهامش.(2)
 
ومن جهة أخرى فإن إيران ليست بريئة، إذ بلغ تدخلها في الشأن العراقي حدا لا يطاق. إيران تستغل ضعف الحكومة العراقية بسبب الصراعات الطائفية والأثنية والعشائرية، و نجحت في تكوين لوبي لها من عدد من قادة الكيانات السياسية ومليشياتها الموالية لها، مثل السيد هادي العامري، الذي يتولى قيادة (منظمة بدر)، و(الحشد الشعبي)، والشيخ قيس الخزعلي، الأمين العام لحركة (عصائب أهل الحق)، وغيرهما، لجر العراق إلى محور إيران ضد أمريكا وحلفائها في المنطقة.
 
وهؤلاء يعملون على تحويل الحشد الشعبي إلى ما يشبه الحرس الثوري الإيراني، كرديف للجيش النظامي، ولاءه للمرشد الأعلى السيد علي خامنئي، وبالتالي تحويل نظام الحكم الديمقراطي في العراق إلى حكم ديني (Theocracy)، تحت حكم ولاية الفقيه.
 
وهذا يعني دخول العراق في نفق المقاومة.
فقد نشر الكاتب اللبناني السيد حازم الأمين مقالاً بعنوان (الحرس الثوري العراقي) جاء فيه: "دخل العراق في نفق "المقاومة"، وهو نفق لن يخرج منه سالما.
 
فقد انتقل النقاش بمستقبل "الحشد الشعبي" في بغداد إلى مستواه اللبناني. الحشد يمكن أن يكون جزءً من المنظومة الدفاعية الرسمية، أما "فصائل المقاومة"، فيجب أن يبقى لها هامش تحرك مستقل. ويترافق النقاش مع مزاج تخويني يستهدف كل من يتحفظ على هذه المعادلة.
 
والمزاج التخويني هذا، استمد عباراته من نظيره اللبناني."إنهم متخاذلون وعملاء لإسرائيل وأميركا"، وهم "مخبرون لدى السفارة الأميركية".(3)
طبعاً لا يمكن لأمريكا أن تسكت، خاصة بعد أن دفعت ثمناً باهظاً لتحرير العراق من حكم البعث الجائر لتجعله لقمة سائغة لإيران. لذلك فالعراق اليوم في مهب الريح، والصراع داخل العراق هو بين معسكرين: معسكر ولاءه لإيران، وآخر لأمريكا.
 
وأنا أعتقد إذا ما سيطر المعسكر الإيراني بقيادة قيس الخزعلي وهادي العامري وأبو مهدي المهندس، فسيتحول العراق إلى خرائب وأنقاض، كما حصل في سوريا، واليمن وليبيا.
 
لذلك أرى من الأفضل أن يعيد العراق علاقته مع أمريكا التي ضحت بالكثير في خلاص الشعب العراقي من حكم البعث. أقول هذا لا حباً بأمريكا، بل لأن ليس للعراق خيار آخر.
 
فالعراق اليوم أشبه بالرجل المريض الذي مازال في غرفة الإنعاش بعد إجراء عملية جراحية كبرى لاستئصال السرطان البعثي. وإيران تدفع بهذا المريض ليدخل في محورها الانتحاري ضمن ما يسمى بـ(محور المقاومة). فالعراق منهك ومتشرذم، وشعبه منقسم على نفسه إلى شيع وأحزاب متناحرة، وكل حزب بما لديهم فرحون. ولكن يبدو أن الموالين لإيران ومنهم السيد عادل عبدالمهدي، لهم اليد العليا، في قيادة البلاد إلى الهاوية لا سمح الله.
 
وفي نفس الوقت، أنا لا أدعو إلى معاداة إيران، إذ تربطنا بها روابط تاريخية وجغرافية ودينية ضاربة في العمق لا يمكن الفكاك منها. كما لا أنكر جميل إيران في مساعدتها العراق إبان حربه على داعش. فالعراق بحاجة إلى علاقة حميمة مع إيران، وأمريكا، والسعودية وكل دول العالم. وهذا ممكن لو توفرت الدبلوماسية الحكيمة، والنوايا الصادقة. ولكن على إيران أن تحترم  سيادة العراق، وتتوقف عن التدخل في شؤونه الداخلية، وعلى الحكومة العراقية أن لا تتساهل في ذلك. 
 
مشكلة الحكومة الإيرانية الإسلامية أنها في حالة انفصام  تام مع الواقع، تعمل وفق أيديولوجية دينية ميتافيزيقية مفادها أن الله معها، لذلك فلا بد أن تنتصر على الدولة العظمى وربيبتها إسرائيل!! هذي الأيديولوجية ليس لها أي نصيب من الواقع، والتاريخ حافل بالدروس والعبر.
 
وأفضل مثال هو ما جرى بين الإمام علي ومعاوية في حرب صفين. فلا بد وأن الله كان مع الإمام علي وليس مع معاوية في تلك الحرب، ولكن في النهاية استشهد الإمام علي، ونجح معاوية في تأسيس الدولة الأموية، وراح يضطهد أتباع الإمام علي. كما أنتصر يزيد على الإمام الحسين في واقعة كربلاء الأليمة.
 
فلماذا لم ينصر الله الإمام علي و ابنه الحسين اللذين كانا على حق ومع الإسلام الحقيقي؟ 
والغريب أنه عندما تنتصر إسرائيل في حروبها مع العرب، يخرج علينا رجال الدين يقولون أننا انهزمنا لأننا ابتعدنا عن الإسلام، فأراد الله أن يعاقبنا على هذا الإثم. عجبي، وهل كانت إسرائيل أكثر قرباً إلى الله والإسلام من العرب المسلمين حتى نصرها الله؟ وهل كان معاوية وابنه يزيد أقرب إلى الله والإسلام من علي وابنه الحسين؟
 
كارثة الحكومة الإيرانية أنها تصر على زوال إسرائيل من الخارطة، وهي بالتأكيد تعرف أن هذا الهدف فنطازي وهمي للإستهلاك المحلي، غير قابل للتحقيق، ولذلك جلبت الكوارث على شعبها وعلى شعوب المنطقة. كما أخبرني صديق رجع قبل أيام من زيارة له إلى العراق، وقد زار بغداد والعديد من مدن الوسط والجنوب ولاحظ أن أغلب الناس وخاصة الشباب، صاروا يكرهون إيران ويشتمونها علناً بسبب تدخلاتها الفضة في الشأن العراقي. 
 
والجدير بالذكر أن في عصر الطائرات المسيَّرة (الدرون)، والانترنت، وحروب الجيل الرابع، لا تحتاج أمريكا وإسرائيل إرسال جيوشهما لتدمير العراق، بل تستطيعان تدميره عن طريق العراقيين أنفسهم، وهذا الذي يجري الآن. 
 
أعرف أن هذا الكلام قد لا يعجب الذين يربطون مصير العراق بإيران لأسباب دينية، وبعضهم عن حسن نية، وأنهم واثقون من النصر من عنده تعالى! كما أعرف أن العديد من الأخوة ضد هذا الموقف الواقعي، ولكن هذا ما اعتقده وأكون ممتناً لمن يقنعني بعكس ذلك، على شرط اتباع المنطق والعقلانية وبالتي هي أحسن ، وليس بالشتائم والاتهامات الجاهزة الرخيصة التي تدل على الفراغ الفكري والخواء الأخلاقي على صفحات التواصل الاجتماعي. 
 
لذلك أنا لا ألوم أي كاتب سياسي يحذر من خطر الانسياق وراء إيران، وإلا لماذا هذا الهيجان والتحريض ضد عادل عبدالمهدي؟ السبب لأنه تنكر لأمريكا وتوجه نحو إيران بتأثير اللوبي الإيراني في العراق. فالسيد عبدالمهدي لم يتعظ من غلطة سلفه السيد نوري المالكي الذي رفض إبقاء عدد من القوات الأمريكية في العراق عام 2011، لمساعدة القوات العراقية عند الضرورة، وبضغوط من الحكومة الإيرانية، وأنصارها من الساسة العراقيين، بحجة أن وجود قوات أمريكية يعد إساءة للسيادة الوطنية والكرامة، فكانت النتيجة تسليم المحافظات الشمالية الغربية إلى "داعش" التي انتهكت السيادة والكرامة معاً، وكلف تحريرها عشرات الألوف من الشهداء، ومئات المليارات الدولارات من الدمار المادي.
 
شئنا أم أبينا، فالعراق الآن في مهب الريح، ويمر في أخطر مراحل تاريخه الدموي المعروف، ما لم ينتبه قادته السياسيون، ويتبنوا سياسة حكيمة تضع مصلحة الشعب العراقي فوق كل شيء، وفق شعار: العراق أولاً.